محنة عراق معزول

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
26/06/2011 06:00 AM
GMT



في مخيم لاجئين يمكن ان يكون في اي بقعة من الكون، يضطر المرء الى النوم على فردة حذائه او نعاله فلا يعود يعبأ بقنينة العطر التي اضاعها وسط زحام اللاجئين، ولا المذياع الذي كان ينقل له اخبار العالم وسرقه منه حارس المخيم، كما لا تزعجه كثيرا تلك الشقوق والاوساخ التي ملأت ملابسه مع مرور الايام. بل يستمرئ حتى الوان الاهانات التي يتعرض لها.يمر اللاجئ هذا بتجربة عزلة فريدة، ويكون ثمن النجاة من خطر داهم كان يلاحقه، ان يقيم في سجن حقيقي دون شروط. يتنازل عن احلامه ويتحول الى عاجز، ثم تنجح هذه العزلة في وضع مقاسات بدائية للطموحات والمتطلبات وطريقة الحياة.
ومثل هذا اللاجئ بالضبط، نكبت بلادنا بتجربة عزلتها الخاصة التي افرزت كل هذا العجز، وجعلت طموحاتنا متواضعة، وصادرت الهيبة والوقار ثم اللياقات المهمة، من الافراد وصولا الى الحاكمين. لم نعد نأخذ انفسنا على محمل الجد، ولم نتمكن من ان نحلم بالسقوف العالية للتمدن والتنمية والحريات.وبدل ان تجري معالجة آثار هذه الحالة الاستثنائية التي فرضتها الحروب وسياسات النظام السابق، جاءت المرحلة الجديدة بتجربة اكثر قسوة افسدت ما تبقى من احلام.
العنف عزل الشعب عن السلام وجعله لا يتخيل الاستقرار المتاح لباقي البلدان. ثم عزل ملايين المهجرين عن وطنهم، وبينهم رجال الاعمال والخبرات النادرة. الانهيارات عزلت الشعب كهربائيا في تلك الظلمة التي لم تبددها ملايين المولدات الاهلية. الراديكالية التي انفجرت في وجوهنا وراحت تغير عادات الانفتاح وتمسخ ما تبقى من معنى المدينة، عزلتنا عن جزء مهم من صورة دنيا اليوم.
كل هذا جعل شرائح واسعة من الامة يتوسلون بالطرق البدائية لحل مشاكلهم وللحصول على مكاسبهم. كما جعل الطبقة السياسية ايضا تحل نزاعاتها بشكل بدائي وتبدد ثروات البلاد عبر "فساد بدائي" يضر مستقبل الساسة بقدر ما يضر احلام الجمهور.الشعور بأننا شعب غير طبيعي يختلف عن الشعوب المستقرة، وعليه ان يحل ازماته بطريقة مختلفة "ترقيعية" ومؤقتة جدا، شجعتنا على ارتكاب العديد من الاخطاء، لأن الخطأ يبرره "الوضع المختلف". كما جعلتنا نقدم التنازلات غير المحسوبة.طوق العزلة هذا جعل رأس الحكم يعمل بمنطق يضعفه، فراح يتصور انه سيكون اقوى حين يكون وحيدا بلا تأييد الاطراف الاخرى. بل ان الاسباب نفسها قامت بعزل المعارضة عن جمهورها وانسياقها الى قبول سياسات الحكومة والرضوخ لها، وعدم تقديم صيغة عملية للاعتراض السياسي الذي يغني الديمقراطيات الحديثة.
الشعب هو الآخر ظل فاقدا لبوصلته لا يدري كيف يتعامل مع الاحتقان والاعتراض الذي يختزنه. هل يعارض اميركا ام ايران ام العرب (بوصفها اطرافا متهمة بتعريضه للاذلال)؟ هل يعارض الرئيس ام الحكومة ام البرلمان ام القاعدة؟
العزلة التي تضطر المقيم في مخيم اللاجئين، الى ممارسة حياة بدائية، هي ذاتها التي جعلت دولة العراق تعتمد الطريقة البدائية في الدفاع عن حقوقها في كل الازمات الاقليمية والدولية، ولاحظوا فضيحتنا الاخيرة مع الممر البحري الوحيد الذي نمتلكه.
العزلة جعلتنا امة من العصر الحجري تواجه خصوما يتقنون الفنون الاكثر حداثة ويهزموننا. المطلوب على طول الخط هو اعادة تأهيل لنا كأمة وإعادة ادماج بالعالم المستقر، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كي نؤمن ثانية بأننا جزء من العالم الحديث، وأن من حقنا ان نعيش مثل اشباهنا في اليونان او نيوزيلندا او فيتنام حتى. وأن علينا بناء الاحلام وفق المقاسات المتاحة لباقي خلق الله.
والحل الذي يسأل عنه الجميع، يأتي ببطء شديد، ولا شك ان شعورنا بأننا شعب معزول وبلا حقوق، بدأ يتخفف بطريقة واخرى، عما كان عليه قبل خمسة اعوام. تحسن الدخل الذي تحظى به على الاقل بعض طبقات المجتمع، يجعلنا نأمل برفاه نسبي في الطريق، والأمن "الهش" الذي يعني "نصف سلام" بإمكانه ان يشجعنا على الايمان بأننا نتحول الى شعب "نصف طبيعي". حينها يمكننا ان نتحدث عن مجتمع يدافع عن حقه بعدم الخضوع لمستبد، وقادر على محاسبة الفاسدين ومهدري الفرص، ولديه كلمة مؤثرة يقولها امام الدنيا.
لكن هذا الامل بالتخلص من "عزلة المنكوب" لا يكفي، فهناك مليون طرف يحاول ابقاءنا داخل سجننا النفسي، كي يستمر التلاعب بالمصائر والمآلات. وللحديث صلة.
لم يعد من المهم كثيرا الاعتراف بأن بلادنا ظلت محتجزة داخل عزلة قاتلة صممتها سياسات صدام وطورها اداء الساسة اللاحقين له. ولن نكشف سرا حين نقوم كما فعلت في المقال السابق، بسرد الآثار القاتلة لتلك العزلة، على ذوق الشعب، ولياقات النخبة، واحلام الأمة، ومصائر كل شيء في بلادنا. كما لا نحتاج الى الاقرار بأننا داخل دورة تاريخية مظلمة عليها ان تستكمل تفاصيلها ريثما يجري الانتقال الى التعافي، بفضل التحسن البطيء في مستوى الدخل، والانفتاح الاقتصادي النسبي، وبضعة عوامل اخرى تأتي على شكل "نصف سلام"، و"ربع ديمقراطية"، و"استقرار هش"...الخ.ما يهم المتابعين هنا، هو امكانية ان نقوم بتسريع نهاية تلك الدورة التاريخية المظلمة، مقابل احتمال مؤلم بأن تنجح اطراف عديدة في اطالة الحقبة السوداء الراهنة واحتجازنا فترة اطول داخل سجن العزلة الذي يكرس الاخطاء ويفسد الاحلام.يقول واحد من كبار المعلقين ان التاريخ لن ينتهي يوما، لكن في وسع التطور البشري ان يقوم بتسريع الايقاع التاريخي. فما كان يتطلب مائة عام من العمل، صار ممكن التحقق خلال خمسة اعوام في ظل ثورة الاتصالات والحركة السريعة للمصالح. ويمكن ان نقول العكس، فإذا كانت الدورة التاريخية السوداء التي تحتجز بلادنا، قابلة لان تنقشع خلال عشرة اعوام، فإن هناك اكثر من طرف يريد اطالتها وابقاءنا رهن العجز والاخفاق، اربعين عاما آخر.اما الظروف التي نخشى ان تعني اطالة في عمر الخراب، فإنني اخشى منها ثلاثة بشكل رئيسي.اولها ان يؤمن المجتمع الدولي وتتبعه دول الجوار، بضرورة ان يبقى العراق معزولا ضعيفا، لربع قرن آخر. وذلك عبر عرقلة شيوع السلام ومنع ظهور صيغة التعايش الداخلي، وعدم تشجيع التنمية الصحيحة. ويمكن لهذا المسار ان ينجح حين لا نقدم نحن العراقيون حلولا مبتكرة لازمة الثقة العميقة بيننا وبين الدنيا. ويمكن لدول الجوار ان تقنع الدول الكبرى بأننا لازلنا مؤهلين للبقاء تحت الوصاية، بألف مبرر نقدمه نحن عبر سلوكنا الداخلي، ومن خلال سياستنا الخارجية الناقصة التي لم تقدم تعريفا واضحا لمصالحنا مع الاخرين. اخطاؤنا اليومية تقنع الغرب بإبقائنا تحت الوصاية، لأنه يخاف من ابرام شراكة مكتملة، مع طرف يرتكب حماقة كل يوم.اما السبب الثاني لاحتمال بقائنا داخل الدورة الفاشلة، فهو العزلة التي يريد فرضها زعماء الطوائف على اتباعهم، استثمارا للتخلف والفقر. انها عزلة تقدم مثل "طبق شهي" للطائفة الخائفة، وتأتي على شكل مشروع انقاذ وهمي. الزعماء لم يكفوا عن تخويف اتباعهم من كل شيء. تخويفهم من الطوائف الاخرى. وتخويفهم من ابناء الطائفة الذين يعترضون على سياسة "الزعامات". واستخدام المقدسات لجعل الشعب رافضا للتواصل مع الدنيا "حماية لمصالح الدين او الوطن". الغرب سيسوق على انه كافر، والشراكة معه خيانة، وعلومه مشكوك فيها، ومنظومة اخلاقه الحديثة وقوانينه ولوائح حقوقه، مجرد "خدعة إلحادية" يجب ان ترفض.لكن اخطر الاسباب التي تعزز احتمال بقائنا معزولين، هو نحن ابناء الشعب. فالعزلة التي يفرضها الشعب على نفسه اختيارا وقناعة، هي الاقسى، وهي تأتي عبر ارتداد متواصل نحو كهوف الماضي. انها نوع من الحذر من ضوء الشمس، لشخص بقي في الظلام فترة طويلة. هي عقدة السجين الذي يطيل الاقامة في الزنزانة ويخشى مغادرتها، او يغادرها ثم يطلب العودة اليها.قوانين المال والجغرافيا والتاريخ لن تسمح ببقاء عزلتنا هذه الى الابد، لكن الاسباب المذكورة وسواها، من شأنها اطالة الكابوس الحالي اكثر مما ينبغي. وبدل ان ننتقل الى معاركنا الحقيقية مع التخلف، فإننا ننفق سنوات طويلة في الانشغال بمعارك زائفة يختلقها زعماء الطوائف وحلفاؤهم لمشاغلتنا عن الهم الحقيقي. كم سنة يا ترى نظل نتفرج بـ"حماس" على "صراع الديكة" بين نوري واياد، او غيرهما. بينما لم نخض معركة حقيقية في سبيل كسر الاطواق التي تبقي جامعاتنا متردية، ومدارس اطفالنا يائسة، وتحرق اعمار شبابنا في بطالة مقنعة داخل مؤسسات الدولة الفاشلة. وهي معارك لم يفكر فيها بعد لا نوري ولا اياد، فهم او اتباعهم او حلفاؤهم، يفضلون ان يحكموا شعبا معزولا مشغولا بهموم الامبيرات الخمسة، وجلكان الوقود، وساعة حظر التجوال. مرعوبون جميعا من فكرة كسر تلك الاطواق لأنها ستعني استبدالا لطاقم التلكؤ والاحتراب والمخادعة الذي يدير صراعا غير ذي معنى منذ خمسين عاما.