حلم الروائي المستحيل: في البصرة يحدث أمر ما، حيلة، نكاية ممتعة..

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
05/05/2011 06:00 AM
GMT



في غلالة نيسان الملبدة سماؤه باحتمال المطر، أمضي إلى الجامعة مبكرا، كعادتي نهارات العمل، أجول وحيداً في ممرات كلية الآداب كما لو كنت غريباً عنها، كما لو لم تعرفني لأكثر من عقدين من الزمان، بيني وبين الامتحان أكثر من ساعتين، الكهرباء مقطوعة، كعادتها في مثل هذا الوقت، لا نت، إذن، لا إيميل ولا أصدقاء، مَنْ ينسى معرض الكتاب في المكتبة المركزية، على مسافة قريبة من قاعات الآداب، حيث تلوح لافتة وحيدة بيضاء، لكن الوقت مازال باكراً على فرح الكتاب.

الحيلة أن المعرض ينسى (مدينة الصور) ليتذكر رفيقتها: (الروائي)، وقد صدرتا في وقت واحد، باكورة عمل مشترك بين دارين، العربية للعلوم وأزمنة، والنكاية الممتعة أن أغيب أنا عن مكان أحيا فيه وأكتب عنه، ليحضر صدوق نور الدين، المغربي الصديق، في قلب الكتابة وجوهرها الصعب، وعد صداقة تؤسسه الكلمة.

أحّدُ البصرة، بالنسبة لي، هو يوم (الروائي)، يوم الوعد الذي يتحقق كلمة لكلمة، وحلماً لحلم.

حينما يكون النهار موهوباً لرواية جديدة فإن أكثر من حياة تنتظرنا، أكثر من متعة تلوّح لنا، أكثر من رحلة، وقبلة، ومدينة، ونهر.

ثمة روايات تبدأ وتنتهي، مثل كل شيء، تخوض حياتها بين قوسين من ولادة وذهاب، فيكون للجملة الأولى فيها طعم البداية وللأخيرة تلويح ختام، وثمة روايات، بالمقابل، لا تبدأ ولا تنتهي، وهي نادرة بالفعل، إنها تتأسس من لحظة عميقة غائرة في دواخلنا، تنبض مثل حلم بعيد، وهكذا هي (الروائي) وقد اختارت أن تنتمي إلى زمن آخر في عمر الرواية لا بدء له ولا انتهاء، إنما هي صوت موصول بين لحظتي صمت موغلتين، بين هاتين اللحظتين شدّت خيطها وعاشت ألاعيبها الماهرة، روايةَ ضدٍ تختار أن تفكر بحياة الرواية وآفاق كتابتها.

هل كتب صدوق نور الدين عن محمد زفزاف حقاً؟

هل كتب عن الدار البيضاء؟

هل كتب عن الصويرة؟

هل كتب عن الثعلب لحظة يظهر ويختفي؟

بين الفعل ومراقبته، بين الكتابة ورصد تخلّقها، بين المعالجة والتفكّر، تقع (الروائي)، بين (الثعلب) وحلم كتابته، بين زفزاف وصدوق، حيث يكونان، معاً، ذاتين تحلمان أحلاماً من لحم وكلمات، معاً يخطوان باتجاه الكتابة وأسرارها، يترصدان آلياتها، يكتشفانها، في الوقت الذي يحوّلانها فيه إلى ممارسة حيّة وتجربة تتحرّك بحذر لمراقبة جانب من العالم، ورصد تحولاته..

وهل تُكتب الروايةُ، أصلاً، إلا بإيعاز من التحولات وآثارها العميقة الغائرة؟

لتكن الدار البيضاء مركزاً للعالم، لتكن الصويرة، إنهما نافذتا البيوغرافيا، كوّتاها المفتوحتان على الحلم، حلم الشخصية المجهدة وقد عُبأت في أماكن ضيقة عفنة الرائحة.

ستعمل الكوّتان على تأمين فضاء وافٍ للعبور بين نصين، لتجد العديد من التقاطات النص الراهن مراجعها في نصوص زفزاف، وتسعى لمطابقتها، كأنها تستعيد، على نحو ما، وقائعها وتعيد تأسيس لحظاتها في محاولة للإيهام بواقعية النص ووقائعيته حيث تستحيل الجملة الراهنة، في لعبة توهم وإبدال، مرجعاً لجملة سابقة ـ ما لا يحدث في الحياة يؤسسه الفن، وما يحدث فيها يُعاد بناؤه في فعل قراءة مستمرـ ليكتمل الراهن بامتدادات يؤمّنها نص سابق في فعل يسعى للتعبير عن صلة بين روايتين، تشكل الجديدة منهما لبَّ الرواية القديمة، فضاء ولادتها، وبطانة مادتها التي تنمو بين فكرتين، مثلما تنبض بين جسدين ومدينتين وذاكرتين.

الروائي تُكتب في اللحظة التي تُكتب الثعلب فيها وتختفي..

والثعلب يظهر بين زفزاف وعلي..

بين الكاتب والشخصية..

يظهر ويختفي..

زفزاف في حضوره الحالم بالكتابة..

وعلي في حلمه الوامض، في لذاذة الجسد، في شجوه المستحيل.

بين حياة وحياة يتواصل النصان..

ينكتبان في تجربة تراسل واتصال.

كتابة الروائي تتأسس على كتابة الثعلب، كتابة الثعلب تتفتح في كتابة الروائي، ليمتد التواصل، أحياناً، إلى خارج حقل الكاتب، عابراً حقلي زفزاف وصدوق، ليتغصن باتجاه روايات أخرى، كما في "سفينة" جبرا، لتغادر الكتابة ما تعده أرضاً أولى، ما تَعِدُ به، نحو كتابة الاكتشاف، أرضها المفتوحة، أبداً، على الآمال والآلام.

أمرُّ قريباً من بناية المكتبة المركزية متسائلاً إن كانت أفراح الكتاب تنقضي، حقاً، بانقضاء مواسم المطر؟

وأفكر بـ (الروائي)..

الرواية التي لا تبدأ ولا تنتهي..

بالحيلة وهي تأخذني من (مدينة الصور) لتوقعني في حبائل القراءة..

بالقراءة التي تظل حلم العابر المستحيل..

نكايته الممتعة.