المقاله تحت باب أخبار و متابعات في
27/12/2010 06:00 AM GMT
قصيدة منال الشيخ لا تستند فقط الى اللغة، ولا الأسلوب، ذلك أن المناخ الشعري الذي يتوالد ببطء عبر هذه اللغة، هو ما تتمايز بها قصائد الشيخ في مجموعتها الشعرية "رسائل لا تصل" (دار فضاءات). تنجح الشاعرة في تجاوز البكائيات، وتتخطى بحساسيتها وكثافة الصور المبثوثة في القصيدة الواحدة، المعادلة المفروضة عليها بوصفها شاعرة ذات هوية عراقية، وهي المعادلة القائمة عموما على النهل من الذاكرة الفردية السياسية والاجتماعية والإنسانية وتفاعلاتها النفسية من جهة، والكتابة في فضائها، أو توقُّع الكتابة في هذا الفضاء فقط، من جهة أخرى. مأساة العراق "الحديث" هي بمثابة خلفية بعيدة، لكنها مرنة، بحيث أن الشاعرة تستطيع شدَّها نحوها بسرعة، ومن ثم تقليصها وتكثيفها في السياق الشعري، لتقطف منها ما تشاء لاحقا ("لاحقا" تعني هنا الزمن الذي سيتدفق بطيئا خلال الكتابة)، وتوظفه في الإستعارة أو الصورة أو مخاطبة المستوى الثاني من الضمائر المذكرة أو المؤنثة، تالياً تعزيز وجود "الغائب" الذي تتوجه إليه الشاعرة بقصائدها على اختلاف الموضوع الشعري. قصائدها، إذاً، وإن إتخذت من الحالة العراقية المشوبة بالألم، محفزا لها، إلا أنها سرعان ما تنسحب لتصبح قصائد تخوض غمار الذات بوصفها الأرض المهيأة لتتوالد فيها شتى أشكال الحياة والموت والعزلة. لكن قصائدها لا تُفهَم على أنها ذاتية، وإن دلّ شكل كتابتها الرشيق، أحيانا على ذلك. في هذه القصائد، يقوم التوازن بين الذات التي تختبر، والأسباب، التي بامتداداتها السياسية تقف مقابلةً للذات الموحَّدة برغم كل الالتباسات المحيطة بها، على النقيض من الأسباب نفسها التي تظهر كبقايا لمرآة مثبتة في الهواء تطل على نواح مختلفة من هذه الذات. عملية النفاذ إلى الإحساس بالفردية والوحشة، لن يكون هناك ما يمدها بالطاقة إلا مصدر واحد، وإن أزيح هذا المصدر شيئا فشيئا خلال الكتابة: أسباب التراجيديا الجاهزة. وهذا ما يعمل مع اللغة المتينة، والشعرية، للنفاذ بالنصوص بعيدا عن احتمال وقوعها في التقريرية او الخطابية. قصائد منال الشيخ قد تبدو شديدة التعقيد أحيانا، وسهلة كالحساء المر أحيانا أخرى، إلا أننا في كلتا الحالتين، نختبر مستويات عدة من الصور المتصلة بعضها بالبعض، ما يؤسس في ذهننا، وخلال القراءة، لأبعاد هندسية في الفضاء الشعري الواحد، وكل منها يحوي منظومات من الصور، تؤلف طبقة واحدة، وكل طبقة تتصل بالأخرى بخيط خفي هو عبارة عن طريق تتيح لنا التنقل بينها. لذا، فإن قصيدة منال الشيخ، قد يُحتفظ فيها بأصوات عدة، تعمل الشاعرة على تثبيتها، والتنقل بينها لإقامة المقاربات الشعرية، والتخفف من سطوة حالة معينة في القصيدة. وقد تتجاوز هذه التقنية ضرورة الإحتكام إلى عناصر الطبيعة مثلا أو المشاهدات اليومية، وإن بدا حيّز اليومي في "رسائل لا تصل" أوسع نسبيا، قياسا بحدوده في مجموعاتها السابقة. فالمقاربات التي تقيمها الشاعرة، لا تتأسس على اعتبار انتمائها لحالة نفسية خاصة بالأنثى فقط، فهي تستعين بأصوات مستقدمة في القصيدة، غريبة عنها "جغرافيا" وسياسيا، وحتى في تجربتها الإنسانية، كصوت المغني جيمس بلونت أو الشاعرة سيلفيا بلاث. تؤدي هذه الأصوات أكثر من دور في القصيدة، فمن شأنها أن تكسر عزلة الشاعرة، ما يخدم فتح آفاق أخرى خلال الكتابة. ولأنها أصوات تتقاطع في تجربتها في الموت والاحتجاج على العالم، فإنها تحمل صوت الشاعرة في السلة الكونية، وتوسع من هامش الإسقاطات التي تولدها الخصوصية العراقية في القصيدة، كما توحي بوجود ديناميكية تجعل من الممكن تماهي أطراف التجربة الشخصية لأصحاب تلك الأصوات، وصوت منال الشيخ الحاضر كعمود فقري ثابت في العمل. لذلك، يبدو الألم كأن لا جذور ثابتة له، وكأنه ألم معني بالقيمة التي يحملها بنفسه، لا بقيمة اختباره ماديا أو بصريا أو عصبيا أو حتى شعريا بشكل مباشر. أو فلنقل: لا خيط هارباً من قماشته يمكن التشبث به والتوغل عبره إلى جسم الألم نفسه. فالشاعرة التي تعتمد كما ذكرنا على بئر المأساة العراقية، تبدو كمن تحفر عميقا في هذه البئر لاقتلاعها، ما يفضي في كل مرة إلى انتشال أشكال جديدة لهذا الألم، موسِّعةً من مساحته، إلى حد أنه يصبح ألماً ملوناً، كلوحة لكاندينسكي، نعرف أن فيها أسرارا مفرحة أيضا. الألم في مجموعتها، يشبه مفردة واحدة مكررة في معجم ضخم، لكنها في كل مرة، مكتوبة بأسلوب مغاير. فالكتابة الشعرية لا تحدّ بالتراجيديا العرقية الطازجة والمعممة، أي أن التراجيديا ليست البيضة التي تلقي بها فوق ممشى الهوية العراقية لتفقس شكلا خلاّقاً، بل قد تكون أحيانا أحد الالواح الخشبية فقط، في هذا الممشى المفضي إلى شاطئ القلق الفسيح.
م. م.
|