المقاله تحت باب منتخبات في
27/05/2010 06:00 AM GMT
كنا ظننا النقاش انتهى او في الأقل خمد، غير انه لم يفعل سوى البدء على ما يبدو. بعد شهر وايام عدة على صدور "أفول معبود" لميشال اونفري لدى دار "غراسيه" حيث لا يجد الفيلسوف الفرنسي سوى فائدة واحدة للتحليل النفساني تنحصر بعلاج مبتكره اي سيغموند فرويد، لا يزال المؤلّف السميك، يتسلّل الى مقدمة الكباشات الأدبية. صار هذا البحث حجة للانهماك في النقاش في كل بلاتو تلفزيوني حيث يعدّ اونفري من الزوار الدائمين، وفي مختلف منصّات الرأي في الصحف والدوريات المتخصصة، اكانت وطنية تغطي انحاء فرنسا ام محلية مناطقية. والحال، ان العدوى لم تحيّد "لو موند" و"اكسبرس" و"لو موند الكتب" وغيرها من عناوين، فيما واصل المولود الكتابي الجديد ككل مؤلفات اونفري السابقة، تسلّقه لوائح الكتب الأكثر مبيعا ليحجز لنفسه مكانا مريحا في غضون اسابيع. على مرّ صفحات تزيد على ستمئة، يتهجم الفيلسوف ميشال اونفري على ركائز فرويد الشخصيّة ويتّكل في ذلك على نقد اخلاقي يصلح مطيّة ذات فاعلية استثنائية، بغية زعزعة سلطة احدهم في المبدأ. غير ان المنحى يتراءى مقصّرا في هذا المكان في عرف متخصصين عدة يعتبرون التحليل النفساني لا يحتاج الى فرويد ليكون. في كل حال لم تكذبهم في هذه المقاربة مجموعة من النقاد الملتئمين في سابقة حول رأي واحد يقنُص الكتاب بشراسة غير معهودة. وفيما كان اليزابيت رودينسكو والان فينكيلكراوت والطبيب النفساني جاك الان ميلر وسواهم المبادرين، التحق بهم ديّان اخر هو ناشر اونفري السابق الفيلسوف برنار هنري ليفي. في اعمدة اسبوعية "لو بوان"، شهر كلٌّ من هنري ليفي واونفري السلاح في وجه الآخر. اغدق هنري ليفي على مؤلّف اونفري نعوتاً من مثل "سخيف ومن دون فائدة وعلى شفا التفاهة"، حيث عاين "نسجا من افكار سطحية اكثر منها شريرة". قابله اونفري باعتبار هنري ليفي صحافيا لا اكثر، وفي حال عدّه فيلسوفاً لمجرد التسلية، صار فيلسوف شخصِهِ يهبّ لنجدة امرئ يشبهه: "منافق وكاذب وشخصية نرجسية ومصاب بجنون العظمة". بدا النص والنص المقابل تصفية لحساب ثقافوي، ربما لأن الاثنين متماثلان الى حد بعيد، ليس في بعض سمات الطيف الخارجي فحسب وانما في المنطق الكلامي وايقاعه ايضا. والحال، ان خصام هنري ليفي-اونفري في جوانب كثيرة ليس سوى صراع كبرياء، صراع "ايغو". فيما ظهّر الفصل الاخير من الجدال جانبا باعثا للمرح كما لفت الفيلسوف والروائي باسكال بروكنير في كلامه الأخير الى مجلة "لو نوفيل اوبسرفاتور" بعد فترة صمت مصمم، أُخذ على اونفري محاولته تمشيطا اخلاقيا استعاديا. وجد بروكنير ان انزال الاحكام المبرمة بكتّاب الماضي، يخاطر في الاقتراب من نمط محاكم التفتيش، وان من شأن المقاربة المفرطة في التعالي أن تجنح صوب ما يشبه الماكارثيّة الفلسفية. ليس من حاجة الى القول ان اونفري رافع مفهوم الجمهورية فوق كل اعتبار، محترف الاستفزاز من الطراز الرفيع، وسبق له ان جرّب تلك الانعطافات المباغتة في عام 2006 مع "قصة مضادة للفلسفة" في مجلداتها الستة لدى "غراسيه" ايضا، حيث صار من الأوراق النشرية الاكثر ظفرا. اعاد في المجموعة وضع الفلاسفة الماديين والمتعويين وسبينوزا ونيتشه في مواجهة افلاطون، وكل فيلسوف ساهم في ضمّ المسيحية الى السلطة الفكرية منذ الفي عام. اما في مقابلة مع "النهار" على هامش معرض الكتاب الفرنكوفوني، في نهاية عام 2009، وفي سياق رده على سؤال طرحتُه في شأن الجسد كحامل للفكر وعن احدانية سبينوزا، فقد عرّج اونفري على الخاصية لدى نيتشه ليضيف ان اصحاب صحة عقلية قليلة الشأن، يبلورون فلسفة قليلة الشأن ايضا. قال: "ثمة شخص مثلا انجذب الى أمه ورغب في ان يمارس الجنس معها حمل اسم سيغموند فرويد، وطوّر نظرية عقدة اوديب وسوّق لهذه المسألة في العالم برمته". كان ذاك الغمز من قناة مؤسس التحليل النفساني، مجرد اشارة الى مسار كتاب اؤتمن على إحداث دويّ. لا مجال للتغاضي عن ان تاريخ التحليل النفساني اتّسم بتناوب بين الدُرجة والنبذ. فرويد عينه، كتب في عام 1914: "خلال السنوات المنصرمة، تسنى لي ان اقرأ اكثر من عشر مرات نظريات تنبئ بموت التحليل النفساني، وتفيد ان الزمن تخطاه، بل لفظه. كان في إمكان جوابي ان يتّخذ شكل البرقية التي ارسلها مارك تواين الى الصحيفة التي اعلنت خبر موته الكاذب، حيث يرد "ان خبر وفاتي ينطوي على مبالغة كبيرة!"، في اعقاب كل ورقة نعي علِّقت على نعش التحليل النفساني، لكان كسب في المقابل مناصرين ومتعاونين جددا. ان اعلان الموت لأجدى من الارتطام بصمت الموتى". يميل ميشال اونفري صوب فلسفة تعتمد القصف المكثف ولا تتمهل عند فروق صغيرة في وسعها ان تغيّر المقتربات جذريا. غير ان الفضيلة الاولى للنقاش المتمحور على مؤلفه، تتمحور على قدرته على تحريك تكلّس فكري يتشبّث بالنطاق التحليلي راهنا. في السبعينات من القرن المنصرم، كان ثمة مدّ وجزر بين التيارات المختلفة، وانتاج تنظيري رفيع في فرنسا، غير انه تهالك وتحجّر ضمن مجموعة من العقائد وقف عندها من دون ان يسائلها. اكثر من ثلاث مرات في غضون شهرين، اخذ ميشال اونفري على عاتقه في جريدة "لو موند" ان يحفّز التداول في كتابه، ذلك ان الماركسية في منطقه ماتت لأنها لم تستطع ان تكون جدالية، وأن التحليل النفساني آيل الى الموت للسبب عينه. ازاء رأي اونفري الجازم، انصرف المحلل والطبيب النفساني الان دو ميجولا، وهو صاحب ابحاث مرجعية في هذا الاختصاص، الى تفنيد كتاب اونفري. ذكّر بأن شخصية فرويد ابان حياته كانت موضوع نكات ذات مضامين فاحشة، وبأنه عومل كمسوّق للإباحية في الأوساط البورجوازية في فيينا خصوصا. ليتركّز النقد بعدذاك تدريجا على نظرياته "الغامضة والنسكية والبعيدة من حسّ منطقي وعلمي"، طبع فكر الطب النفساني، وتحديدا اعمال بيار جاني في فرنسا. استعرض دو ميجولا باقة من الاعتراضات التي يواجه بها اونفري فرويد والتحليل النفساني، ليبرهن انه غير محدّث في هذا السياق، ويشير الى كتّاب طرحوا شؤونا مماثلة كالبروفسورين دوبري ريتزين وجيرار زوانغ. لفت دو ميجولا الى ان طبيعة النقد الذي توالى منذ نحو مئة عام، لم تتغير. هؤلاء وغيرهم، دلّوا اونفري الى الطريق. كان ادوار كلاباريد احدهم وهو سجّل في عام 1915 مأخذا اساسيا على فرويد ناقداً مفهومه لجنسانية الطفولة. كتب: "ليس هناك اي مغزى في القول ان لذة الرضاعة هي لذة جنسية". والحال، ان التحليل النفساني كاختصاص طارئ، حرّك الافكار والمواقف ولم يكن ثمة مفر من ان يواكبه تحامل علني بمستوى الحماسة التي اطلقها. في نهايات العقد الاول من القرن العشرين، اعتُبِر البرفسور ايف دولاج احد اكثر المجادلين حيوية في فرنسا في هذا الخصوص، وهو لم يتردد في مجلة "الطاولة المستديرة" مثلا في تصوير "المحلل النفساني كقاضي تحقيق ومستنطق مُضعّف بمهووس جنسي يهوى شرّه لأنه وجد في تمرين التحليل النفساني رضى لهوسه الايروسي، تماما كحب مدمن الكوكايين او المورفين للسمّ الذي يتجرعه". عاد الى المسألة في عام 1920 ليرشّ مزيدا من الملح على الجرح المفتوح: "فرويد صاحب ذهن منحرف خاضع لمفاهيم منهجية انجرّ الى نسب طابع عالمي لعنصر على حدة، لا يطبّق سوى في حالات خاصة. جعله ذلك يلجأ الى تبديل مسار الحقائق والتفسيرات ليؤطرها ضمن تصوّره المسبق. حمّل العقل البشري تشوّها كان ضيحته الاولى". سيتكرر هذا التقريع مرات عدة بعدذاك. على هذا النحو نشر ابن الفونس دوديه، ليون، كاتب الافتتاحية في مجلة "الفعل الفرنسي"، المعروف بأفكاره اليمينية المتطرفة، سلسلة مقالات اولاها "كذبة خطيرة: الفرودية والتحليل النفساني"، حيث جاء: "اعتزم التوقّف ها هنا عند ما خلّفه السيد فرويد. ادرك تماما اني ادفع ابوابا مفتوحة وادوس اطباقا مكسورة. تقول حكمة مذهلة ان ثمة امواتا ينبغي لنا قتلهم. فرويد منتحل صفة وشخص همجي، وهاتان الصفتان الوحيدتان اللتان تلائمانه". استهدفت جوقة من الملاحظات التحليل الحديث وجعلته يمسي في مطبوعة "منارة نانت" احدث "غاز سام تتهدّد انبعاثاته بخنقنا"، ومن تبعات البروفسور فرويد الأثير "المولود في فيينا وصاحب الروح البروسيّة المقيتة". في حين ذهب فريق من الكتّاب المفتونين بالنهج البازغ، ومع استتبابه في فرنسا، الى استشراف حلول التنظير الفرويدي مكان التنظير البروستي (نسبة الى بروست). حدث هذا كله قبل ان تنجز الحرب العالمية الثانية فضلا عن حقبة الاحتلال، لفّ فرويد وعلم النفس بصمت تام. يؤكّد اونفري في "افول معبود"، انه تم الترويج لصورة خرافيّة لفرويد مبتكرا اكتشف "قارة اللاوعي العذراء وحده"، فيما يتجاهل ان فرويد افضى في عام 1930 الى احد الاشخاص الذين اخضعهم للتحليل يدعى سمايلي بلانتون، برفض منتقديه التسليم باستناد التحليل النفساني الى مركّب وقائع تم جمعها رويدا بجهد ووفق منهجية، وتشبثهم باعتباره "انزل من السماء او خرج من الجحيم ككتلة من الحمم". يجزم ميشال اونفري انه لم يدّع طرح افكار غير مسبوقة او تقديم نفسه مجدّدا وانه اتكل على مراجع عدة مثل الأكاديمي المتخصّص في علم النفس جاك فان ريلاير المناهض لاتباع لاكان وفرويد وأحد واضعي "كتاب التحليل النفساني الأسود" في عام 2005. يلفت الى انه عاد الى ميكال بورك جاكوبسين ايضا، أحد اصحاب المواقف الصارمة في خضم نقاش عنيف شهده العالم الانغلوساكسوني وعرف بإسم "فرويد وورز"، اي "حروب على فرويد". غير ان اليزابيت رودينسكو وفي رصيدها ابحاث عدة مخصصة للتحليل النفساني ولا سيما "تاريخ التحليل النفسي في فرنسا" في مجلدين صادرين عن دار "فايار"، توقّفت في "لو موند الكتب" وبنبرة عنيفة عند نقيصة اخرى في كتاب اونفري. اشارت الى انه ليس مؤرخا، ناهيك بأنه جاهل لجميع اعمال مؤرخي فرويد والتحليل النفساني الحقيقيين خلال العقود الاربعة. ازاء فصول الحملة الموجّهة ضده، شدد اونفري على عدم حمله ضغينة ازاء فرويد، رافضاً اعتبار كل نقد مباشر وعلني يبديه ازاء المحللّ، وجهاً من وجوه حبّ لاواع يكنّه له، عملا بمنطق النهج الفرويدي عينه. يريد اونفري التحفّظ عن التحليل النفساني نظاما عقائديا غير قابل للتطور والإضاءة على حياة فرويد وعمله، انطلاقا من مبدأ لنيتشه يفيد بأن الفكر هو دوما اعتراف صاحبه الذاتي. يرغب اونفري في جعل "العِلم" الفرويدي مجرد فلسفة وجودية فحسب. يكمن احد فخاخ كتابة سيرة فيلسوف عظيم في محاولة تقزيم الأفكار المهمّة الى مقاربة نفسانية، وجعل قصة الحياة تفسّر الأفكار وعدم الاكتفاء بجعلها تؤمّن السياق فحسب. بينما المثالي، كتابة سيرة "فلسفية" للفيلسوف. والحال، ان اونفري لا يقدم سيرة "نفسانية" للمحلل النفساني، وانما سيرة "فلسفية" له، لا تنحصر في اقتراض العنوان من ملهمه نيتشه "افول المعبودين" فقط. في مسيرة اونفري، والى المرشد نيتشه يضاف الفيلسوف الاغريقي ديوجين المنتمي إلى المدرسة الكلبيّة من الفلسفة اليونانية القديمة. ذاك شخص لاامتثالي ومستحوذ، دأب يتجول عاريا في انحاء اثينا، شاتماً المارة وحاملا في يده مصباحا مضاء في وضح النهار ليصرخ تحت شمس الظهيرة: "ابحث عن رجل. ابحث عن رجل!". لم يتردّد هذا الفيلسوف المستفزّ والافتضاحي ومالئ الساحة العامة، ان يبادر الاسكندر المقدوني بالقول: "افسح المجال، انت تستر عني شمسي"، فيما كان سيد العالم وقتذاك ينحني فوق البرميل الذي شكّل ملاذا للفيلسوف. يتلقف ميشال اونفري من ديوجين ذاك الحس النرجسي الباطني لتصوير الذات في عروضه المتناسلة في التلفزيون والصحافة، فيما يصف مالرو وبحق تام الأنا بـ "كمّ الأسرار البائس". عندما يتحامل اونفري في سياق الدفاع عن كتابه على "فرنسا المتعفنة"، يبالغ بعض الشيء بلا ريب، ذلك انه هو ايضا منتج سان جيرمان دي بري. غير انه، وبعيدا من الاشكاليات المتعلقة بـ"افول معبود"، يدفعنا اونفري الى اعادة الاطلاع على فرويد. يستحق الثناء ان يقودنا الفرنسي اونفري الى قراءة فرويد تحت ضوء جديد، علّه يفعل بالمثل في ما يخص محور حياته الفكرية: نيتشه.
|