بديل أزمنة المزبّن والسجن والمشانق والشعر والثورة والمنافي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
25/04/2010 06:00 AM
GMT



لم يعد ينقصنا سوى كلاب الليبرادور لحراسة الأمن والحقيقة والقانون والعدالة، فبعد كل هذه الأعداد الغفيرة من "الكلاب" السائبة في المكاتب الحكومية وغير الحكومية، وصل هذا الصنف من الكلاب الذكية للمساعدة في ترسيخ سلطة القانون وتحقيق العدالة والديمقراطية، ولا ندري ما هي عيوب كلابنا العراقية الجميلة والمشردة في الطرقات لو تحصّل لها مستوى من التدريب والوعي الأمني والمأوى والرعاية؟ أم أن كل ما هو عراقي لا يصلح للقيام بأي دور حضاري حتى لو كان هذا الدور دور العض والسلخ والنهش والنباح؟ الشرطة الوطنية تتدرب في الخارج، وشريحة من الكتاب دُرِّبوا في الخارج، وقضاة وغيرهم تم تدريبهم في الخارج ومع ذلك لم نجد في النهاية غير كلاب الليبرادور كمنقذ من الموت وغياب الأمن.
لكن ألا يشكل هذا الكلب" المستورد" من الخارج خطراً على الكلاب المحلية مثل كل الأفكار" المستوردة" من الخارج؟ ولماذا يكون الخارج دائما مصدرا للأفكار والكلاب والأخطاء والحروب؟ وهل يعقل ان خلاصة ستة آلاف سنة من الحضارة تنتهي بحراسة كلاب ليبرادور مستوردة من الخارج بسعر أكثر من عشرة آلاف دولار للكلب الواحد في حين أن هذا السعر يتجاوز سعر عشرة عمال عراقيين معروضين في سوق العمل على الأرصفة ولشهر واحد وأكثر؟
حين كان يجب وضع حواجز اسمنتية حول الدوائر والمدن والشوارع، كانت هذه الحواجز مستوردة من الخارج، كما لو أن كل " الحواجز" الداخلية غير كافية في الفصل بين الناس، وهذا الفصل قائم في النفوس كما هو في المقابر، بين الأجيال، كما بين المناطق، بين الذين يحكمون وبين الذين لا يحكمون، وحين كان يجب تحقيق التغيير السياسي الجذري، كان يجب جلب الجيوش" المستوردة" من الخارج، وبما ان الجيوش وحدها لا تكفي بلا غطاء فكري وثقافي وقانوني، تم" استيراد" الديمقراطية من الخارج، بل القانون والدستور والأسلحة حتى لو كانت هذه محمولة أو كتبت بقلم محلي، فليس المهم هو الأصابع بل الأهم العقلية.
كما فشلت أجهزة السونار في تحقيق الأمن، ستفشل كلاب الليبرادور في تحقيقه، كما ستفشل الديمقراطية أيضا، بل حتما، و تفشل السجون السرية والعلنية مع أن الوطن كله صار سجنا مفتوحاً، لأن جلب كلاب حراسة من الخارج لا يقل غباءً عن جلب ديمقراطية من الخارج، لأن الديمقراطية" المستوردة" من الخارج مثل كلب حراسة مستورد من الخارج يحتاج الى مأوى خاص ورعاية خاصة وتغذية خاصة وتدريب خاص ومناخ نفسي خاص ولغة خاصة: الديمقراطية كأغنية المهد لكي تكون جميلة وممتعة ومؤثرة يجب أن تكون طالعة من الحنجرة الأولى والبيت الأول والموروث الأول والمناخ الثقافي والسياسي والتاريخي الأول، بل من الطقوس والعادات وأخلاق المائدة والطريق والزيارات وأصول الحكم وشعائر دفن الموتى وطقوس الحب والقانون والغضب والنوم والضحك والمشي ـ المشي موسيقى تعكس ايقاع النظام السياسي في أي بلد واذا رأيت شخصا يمشي ويستدير، فجأة، ويغير مسار الطريق عدة مرات بصورة فجائية فعلى الأغلب انه عربي أو عراقي منفي لأن كل الطرق تتشابه وكل الاتجاهات واحدة.
إن اي نظام ديمقراطي في العالم مهما بلغ من القوة والفاعلية والجدوى لا يصلح ابدا لتحقيق العدالة حين يُنقل الى منظومة تفكير وبيئة ومناخ وموروث مختلف، وفي حال النقل القسري يكون هذا أشبه ما يكون بنقل دم من فصيلة مغايرة الى دم آخر: إنه ليس قتلا للديمقراطية المنقولة بهذا الشكل أو ذاك فحسب، ولكنه قتل لـ" فكرة" الديمقراطية بصورة عامة كما تم من قبل قتل أنبل الشعارات كالحرية وغيرها .ان الديمقراطية حتى في بلدان عريقة في هذه التقاليد تعاني من مشاكل كثيرة يفرضها الزمن والتطور والعلم وهناك جدل مستمر حول مدى التطابق بين الديمقراطية وبين العدالة والقانون لأن الديمقراطية في كل البلدان لم تنجح حتى اليوم في خلق المطابقة بينها وبين العدالة الانسانية، وتدور نقاشات متواصلة ومنذ سنوات في أوروبا حول فكرة" التضحية" التي تعني ان الديمقراطية القائمة لم تلغ مساوئ اللاعدالة والظلم المتنوع والغنى الفاحش والفقر الواضح ولا خيار من أن تتم التضحية ببعض مبادئ العدالة من أجل سعادة ورفاهية الأغلبية الساحقة، وعلى المضحى بهم القبول بهذا القدر من ضمانات العيش والحياة والسعادة حتى يصار الى تحقيق وضع أفضل.
هذا يعني بتعبير مختزل ان الافكار الانسانية التي لا تراعي الشروط المحلية وأنساق القيم السائدة والمتوارثة لا تنبت في غير تربتها الأصلية ولا ينقص هذا من التضامن البشري ومن الوحدة الانسانية بل يغني ويثري ويعمق ويقارب بين الهويات والأعراق والنظم الانسانية القائمة على الاختلاف والتنوع وليس التشابه الذي ينتج" الدمج" القسري وهو أسوأ أنواع التمييز العنصري والعرقي والديني والثقافي والفكري.
أي تأمل عميق في صورة كلب من فصيلة الليبرادور يحيل الى ذاكرة عميقة وبعيدة ومجروحة: كيف يمكن تصور ان هذا الكلب صار بديلا ـ في الأقل ـ عن قرن من العمل السياسي والسجون والمشانق والمنافي والحروب والقصائد والثورة الشعرية والكوارث والأفكار والآثار وبقايا الحضارة ومسلات القوانين الأولى والصلاة والجوع والطرد من العمل وكرع الكؤوس في الحانات ونتف الشعر والبحلقة في الجدارن من أجل" التغيير الجذري" بل كنا لا نريد تغييرا عاديا متوازنا متسلسلا بل التغيير الجذري ونسف الواقع وموت الماضي وهدم النسق وغير ذلك من مفردات الحلم واليوتوبيا الانسانية المشروعة في عهود حزينة.
العزيز والحامي والحارس رينزو وهو اسم كلب امريكي مستخدم في الجيش كما يقول مدربه ميلر يستطيع القيام بكل ما نطلبه منه وهو التفتيش والدخول الى البيوت وكشف المتفجرات، اي ان رينزو يقوم بما يفترض أن يقوم به رجال الأمن والقانون في العراق بل يلغي هذا الكلب كل الأدوار الصاخبة للأجيال العراقية السياسية وينسف صور المظاهرات والمسيرات الرافضة عبر قرن، بما في ذلك وضع خاتمة هزلية لدور الجيل الستيني الأدبي وخاصة الشعري الذي لم يقبل بغير حليب النجوم و" الثورة على الواقع" وتنتهي كل هذه الاحتفالات الثورية عند مخالب حامي الدار رينزو وسلالته.
مسؤول عراقي رفيع المستوى ـ وكيل وزارة الداخلية ـ صرح قائلا:( تم تهيئة حظار خاصة لإيواء تلك الكلاب، فضلاً عن الملاكات الطبية...) والمقصود بتهيئة الحظائر هو غرف نوم وحمامات وساحات لعب وتدريب وطعام من نوع خاص وحماية ورعاية طبية وسوى ذلك، ولا ندري لماذا لا يتم توفير هذه الخدمات للناس بدل هذه الكلاب، وعندها سيستقر الأمن حتى لو ظلت العدالة غائبة.