بعد فوز عزازيل: ضوء على الروايات الست التي رشحت للبوكر

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
17/03/2009 06:00 AM
GMT



المرشحون الستة من الروائيين العرب هم: الفلسطيني ابراهيم نصرالله عن روايته ''زمن الخيول البيضاء''، والمصري محمد البساطي عن روايته ''جوع''، والمصري يوسف زيدان عن روايته ''عزازيل''، والعراقية انعام كجه جي عن روايتها ''الحفيدة الأميركية''، والتونسي الحبيب السالمي عن روايته ''روائح ماري كلير''، والسوري فواز حداد عن روايته ''المترجم الخائن''. وفي ما يلي إضاءات على الروايات المرشحة كما وردت على ألسنة مؤلفيها:

إبراهيم نصرالله: ''الملهاة الفلسطينية'' لن تكتمل ربما يكون إبراهيم نصرالله من أكثر الأدباء العرب غزارة، مع المحافظة على النوعية العالية لمنجزه. فهو شاعر وروائي وكاتب في أدب الرحلات والنقد السينمائي، ويمارس الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي، وكتب أكثر من أربعين أغنية لفرق وطنية أردنية وفلسطينية، وينشغل هذه الأيام بكتابة سيناريو لمسلسل تلفزيوني طويل مأخوذ من روايته الأخيرة ''زمن الخيول البيضاء'' التي صدرت عام 2008 ولاقت الترحيب واختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.

''زمن الخيول البيضاء'' رواية ملحمية الطابع ومقسمة ثلاثة إلى أجزاء ''كتاب الريح''، ''كتاب التراب''، و''كتاب البشر''، فهل أراد من خلالها أن يستكمل بشكل نهائي ''الملهاة الفلسطينية'' عبر ثلاث مراحل من الاستعمار التركي، ثم البريطاني وأخيرا الإسرائيلي لفلسطين؟ يجيب نصرالله:

لا أعتقد أن هذه الملهاة يمكن أن تكتمل، فهناك الكثير الذي يمكن أن أقوله في هذا الشأن، ويقوله غيري بالطبع، ولكن ''زمن الخيول البيضاء'' كان لا بد منها لكي أتأمل بدايات القضية الفلسطينية ومنعطفاتها وأي روح تلك التي سكنت الفلسطيني في تلك الأزمنة، وكيف تشكَّل، وتالياً كيف تشكلت هويته. بعيدا من هذا، من الصعب أن نفهم ما الذي جرى ويجري اليوم في الضفة وغزة والمنافي التي يوجد فيها الفلسطينيون. وربما كنت إنسانيا، في حاجة الى هذه الرواية، مثل أي شخص أحبها في ما بعد، فقد أتيح لي تأمل تلك الفترة الطويلة، والإحساس بأنني عشت هناك وكنت واحدا من تلك الشخصيات التي تحيا وتموت وتنهض مرة أخرى. وليس ثمة وسيلة للفهم في اعتقادي أفضل من أن نحفر بأنفسنا في أي قضية، ونتأملها من مختلف جوانبها.

وعن البطولة الأسطورية التي منحها للخيل في الرواية يقول: لم أكتب لأنتقم من الماضي، أو أستعيد ما مات، كتبت لأضيء الحاضر الذي تعيشه شخصيات الرواية، وقد كنت على المستوى الشخصي مفتونا بالخيول، وليست مصادفة أن يحمل ديواني الأول اسم ''الخيول على مشارف المدينة''. ولعل مجاز الخيل بدأ يسكنني بقوة متزايدة بعدما كتبت رواية ''طيور الحذر'' ولم أجد أفضل من الخيل كائنات يمكن أن تحمل أزمنة البراءة تلك في جوهرها، كما أن وجودها يعمق العمل ويوسّعه. ولا أذيع سرا هنا إن قلت إن الحيوان يلعب دورا أساسيا في كل عمل روائي كتبته، ربما كانت طفولتي هي المرجع في هذا المجال، سواء من خلال المعايشة لكثير من الحيوانات، أو في الرغبة بمعايشة بعضها كالخيول. وفي اعتقادي أن الخيل لو غابت عن هذه الرواية، لكنا أمام رواية أخرى تماما، وغير قادرة على التعبير عن روح ذلك الزمان وتقلباته في البراءة والرداءة، في الطيبة والقسوة، في الموت والحياة.

وعن السرد الذي ينتمي إلى الواقعية السحرية في الرواية يقول: لست أدري إن كان الأمر يتعلق بنوع من الواقعية السحرية، إذ إن التراث الفلسطيني والمخيلة البشرية والمدونة اليومية للحياة تزخر دائما بما يحيل على الأسطوري والسحري، وقد أفدت مما أوحاه اليَّ التراث الفلسطيني والقصص الشعبية الفلسطينية، وطوعته أو حررته بالطريقة التي رأيتها أنسب لكتابة رواية تعبّر عن فلسطين، وتفاجئ الفلسطيني الذي كان يعرفها، بأنه لم يكن يعرفها تماما، بعيدا عن الذاكرة المتداولة، والتي تبدو في أحيان كثيرة مشتركة ومعمّمة.

محمد البساطي: لست من كتّاب الأيديولوجيا

الكاتب المصري محمد البساطي أحد أبرز الروائيين العرب المعاصرين، لذلك لم يكن ظهور اسمه بين قائمة الكتاب المرشحين لنيل جائزة البوكر العربية مفاجئاً لمتابعي انجازه الروائي والقصصي الذي يعود الى اربعين عاما مضت، الا ان الكاتب في روايته ''جوع'' التي ظهرت في قائمة الروايات المتنافسة يقف في قلب عالمه الأثير، وهو عالم القرية المصرية الذي اقترب منه في معظم اعماله ولا سيما ''صخب البحيرة'' و''فردوس'' و''أوراق العائلة'' و''الخالدية'' و''دق الطبول''، لكنه يعمل على ازاحة الهاجس السياسي لصالح التركيز على كابوس الواقع الاجتماعي الذي تعيشه شخوص الرواية.

يقول البساطي: فوجئت بوصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما فوجئت بالاستقبال اللافت لها. فعندما كتبتها، اعتبرتها رواية عادية تكمل الطريق الذي رسمته لنفسي لكن الاستقبال النقدي لها لفتني الى أشياء لم تكن في ذهنى، ومن ثم ظلت ترفع من قيمة العمل وهي تعدد طرق قراءته.

وعما أظهرته الآراء النقدية إزاء الرواية يقول: أعترف بأن كتابتي دائما كانت تبدو لي مثقلة بالحكايات الفرعية، وهذه عادة لم أكن أستطيع التوقف عنها، وفي ''جوع'' بالذات لم تكن هناك حكاية واحدة بل حكايات فرعية تتناسل داخلها، لان طبيعة موضوع الرواية كانت تفرض ذلك، وخيل إليَّ أن الحكايات الفرعية ستصيب بنية الرواية بالترهل الى أن قرأت ما كتبه الدكتور صبري حافظ في تفسير هذه التقنية وابتكر مصطلحا رائعا في شأنها سمّاه الترصيع السردي.

وحول انتمائه إلى جيل الواقعية الاشتراكية من الناحية الزمنية وافتراقه عنه ابداعيا، يقول: تنبهت الى هذا في فترة مبكرة من حياتي لأني عندما قرأت رواية ''الأرض'' للشرقاوي، لم أحبها إطلاقا لأن الفلاح فيها كان مجهزا بالتعليمات الثورية الخارجة من أدراج الرفاق المناضلين في صفوف الاحزاب الشيوعية. وبالمثل، عندما قرأت قصص محمد صدقي وأدركت تأثيرات مكسيم غوركي عليه، ثم قرأت دراسات محمود أمين العالم عنه وكيف كان يرفعه الى فوق، قلت في نفسي لقد خضع العالم لصدقي. ما أعنيه أن هؤلاء كانوا كتّاب ايديولوجيا أكثر منهم كتّاب فن، فالكتابة شيء آخر وفي طبيعة الحال كنت اشارك هؤلاء الكتّاب رسالتهم النبيلة في الدفاع عن الفقراء لكن وسيلتي كانت مختلفة. كنت أقول لنفسي ''عايز تتكلم في الاشتراكية اكتب دراسات إنما الابداع شيء آخر''. في تلك الفترة المبكرة من حياتي لم أكن على علاقة وثيقة بأيٍّ منهم، لكني قرأت كل أعمال الشرقاوي وأحببت منها كتابا واحدا هو ''محمد رسول الحرية''، وقلت لنفسي من يملك مثل هذه العقلية الممتازة في البحث لا يمكن أن يكتب رواية جيدة. وفي ظني أن ما أعطى رواية ''الارض'' قيمتها هو الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وليس النص الادبي في ذاته.

يوسف زيدان: ''عزازيل'' ليست للقارئ العادي

كان ترشيح رواية ''عزازيل'' للدكتور يوسف زيدان ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية إحدى أهم مفاجآت الجائزة، ربما لأن صاحبها لم يطرح نفسه منذ أن بدأ بالعمل الثقافي قبل نحو 15 عاما ككاتب روائي، اذ التصقت به صفة الباحث الذي ألّف وحقّق ما يزيد على 30 عملا في مجالات تاريخ العلوم والفلسفة والتصوف وهو اليوم يدير مركز المخطوطات، أحد أهم المراكز البحثية التابعة لمكتبة الإسكندرية، وربما بفضل ارتباطه الدائم بالمخطوطات وجد زيدان موضوعا متميزا لروايته المثيرة للجدال، التي تتحدث عن ترجمة مخطوطات قام بها مترجم وهمي لمجموعة لفائف مكتوبة باللغة السريانية، دفنت ضمن صندوق خشبي محكم الإغلاق كُتبت في القرن الخامس الميلادي وعُثر عليها بحالة جيدة ونادرة في منطقة الخرائب الأثرية حول محيط قلعة القديس سمعان العمودي قرب حلب في سوريا، كتبها الراهب هيبا بطلب من عزازيل، أي الشيطان.

عن عنوان الرواية الذي من الصعب على القارئ العادي إدراك معانيه، يقول زيدان إن الرواية لم تُكتب أصلاً للقارئ العادي، إما اللجوء تقنيا إلى ما سمّاه جابر عصفور ''مخايلة استهلالية في السرد''، حيث يختفي المؤلف المضمر والمعلن في الحكايات التي ترد في مقدمة المترجم، يقول زيدان: أردت أن يشارك القارئ في النص، يتورَّط فيه، ويحتار قليلاً مثلما احترت، ثم يشرع في النص سالكا الطريق المتوسط بين الواقع والخيال، فيسكب على النص كثيراً من واقعه هو، وخياله، ثم يتوحَّد على نحوٍ خفي بالبطل، ويرى نفسه متجلياً على مرآته. لم أشأ أن أقدم الى القارئ حدوتة أو حكاية مسلية، وإنما قدَّمتُ إليه نصاً يستنفره ويتمازج مع باطنه العميق. ولذلك اقتضى الأمر، هذه التقنية غير المباشرة التي وُصفت بأنها مخايلة استهلالية.

وعن مستويات اللغة داخل ، فهناك أكثر من مستوى لها، مستوى وصفي، ومستوى يمكن أن نسميه دينيا، ومستوى آخر قائم على محاكاة النصوص القديمة. والسؤال: كيف توصل زيدان إلى خلق تلك المستويات على الرغم من أن خبرته كروائي ليست كبيرة، فهل استعان هنا بخبرة الباحث في علوم المخطوطات؟ يجيب: هذا إنتاجُ الانشغال بطبيعة النصوص، تراثية أكانت أم معاصرة. وقد فعلت الأمر نفسه في دراساتى النقدية التي نُشرت في النصف الأول من التسعينات، ثم صدرت في كتابى النقدي ''التقاء البحرين'' في منتصف التسعينات. فالخبرة التي تذكرها، ليست صغيرة ولا جديدة.

وعن حكايات الجنس داخل الرواية يقول: الجنس في ''عزازيل''، وفي ''ظل الأفعى'' قبلها، ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو مرآةٌ لانعكاس الحالة العامة للشخصيات. ولذلك تراه مفعماً بالإنسانية العميقة لهذه اللحظات الفريدة، التي ينطلق نصها المكتوب روائياً، من مفهوم هرمسي للجنس وليس بالمفهوم السطحي له.

إنعام كجه جي: العراقيون ليسوا شوربة متجانسة

تروي الكاتبة والصحافية العراقية إنعام كجه جي في روايتها الجديدة، ''الحفيدة الأميركية''، والمرشحة لجائزة البوكر العربية، قصة شابة أميركية من أصل عراقي تدعى زينة بهنام تركت بلادها مراهقة وعادت إليها بعد الغزو الأميركي مترجمة في صفوف جيش الاحتلال وهي لا تعرف أن أخاً لها في الرضاعة يقاتل في جيش المهدي. لكن الرواية هي أيضاً قصة رحمة، جدّة زينة، التي بقيت في العراق وحيدةً بعد وفاة زوجها، العقيد السابق في الجيش العراقي، ورحيل جميع أفراد عائلتها إلى الخارج. من خلال هاتين القصّتين ومحاولات زينة اليائسة للتقرّب من جدّتها وكسب محبّتها من جديد، نتعرّف بالتفصيل الى ظروف عمل المجنّدين والمجنّدات في الجيش الأميركي داخل العراق. كما نتعرّف في هذه الرواية الى ظروف حياة العراقيين ونعاين مع زينة التغييرات التي طرأت على وطنها الأم منذ الاجتياح الأميركي.

وما إذا كانت اعتمدت قصة أحد ما في الرواية، تجيب: كانت قصص المترجمين والمترجمات العرب الذين جاؤوا مع الجيش الأميركي تملأ الصحف. وكنت قد سمعت، بشكل عابر، عن مترجمة أعرفها من أيام المدرسة الابتدائية وربطتنا صداقة ونحن في تلك السن الصغيرة، ثم هاجرت هي الى أميركا وظلت تكتب لي لكي أبعث لها بكاسيتات الاغنيات الجديدة لعبدالحليم حافظ. تواصلت مراسلاتنا الى أن تباعدت وانقطعت. ثم عرفت أنها التحقت بالعمل مع الجيش الأميركي في العراق. ولم أفهم كيف أن فتاة تربّت كما تربّيت، في المراحل الأُولى من العمر على الأقل، يمكن أن تقدم على خطوة كهذه. ولعلي كتبت هذه الرواية وبحثت وسألت وتقصيت لأنني كنت أُريد أن أفهم.

وهل تصنف روايتها بأنها وطنية؟ تجيب كجه جي: وهل من ضرر في أن يكتب المرء، في هذا الزمان، رواية وطنية؟ ألفت انتباهك الى أن هناك من كتب يتهمني بالتعاطف مع البطلة زينة. كان يريدني أن أرفع من عيار الوطنية فأنتف شعرها، مثلاً، أو أرشقها بالحذاء طالما أن هذه هي الموضة، حالياً، أو أن أقطع رأسها بالسيف وأشرب من دمها. ما رأيك أنت؟ أي درجة من درجات الوطنية تفضل؟

وعن دور الجدة في الرواية، وهل تعتبر الهوية مجرّد انتماء عمودي، يعود إلى الجذور، أم هو انتماء أفقي كما يقول أمين معلوف؟ تجيب: أنا أحترم وجهة نظر أمين معلوف لكنها لا تتطابق تمام التطابق مع قناعاتي. لنقل إن الانتماء العمودي يسقي الجذور، كما كتبت، ويجعل المرء متوازناً وصالحاً لتقبل الانتماء الأُفقي والتفاعل مع قضايا أبناء جيلك، حيثما كانوا على هذه الأرض. إن الهوية، في رأيي، هي نوع من التواطؤ بين اناس تجمعهم لغة وملامح وثقافة أُولى قبل أن تنمو على ألسنتهم لغات أُخرى وتكتسب ملامحهم طابعاً عاماً وتتشكل لديهم ثقافة أبعد من تلك المتوارثة عن السلالة. في هذا المعنى فإنها القميص الداخلي اللصيق بالجسد والذي لا يمنع ارتداء ثياب إضافية فوقه. يحلو لي أن أتصور الإنسان المعاصر مثل لحاء الشجر العتيق أو مثل عجينة ''الميل فوي'' الفرنسية، طبقات طبقات.

ومقارنةً بما كان يحصل في عهد صدّام، هل تعتقد كجه جي أن العراقيين بعد سقوطه كانوا مستعدين للتعامل حتى مع الشيطان؟ تجيب: العراقيون ليسوا شوربة متجانسة. لقد أثبتت الحوادث أن هناك أكثر من ''عراقيين''. لكني أجد أن عبارة ''التعامل مع الشيطان'' تحمل شيئاً من المبالغة. لقد سئموا الحروب وأرادوا أن يعودوا بلداً طبيعياً يمكن للمواطن فيه أن يفكر بلا خوف، أن يكسب رزقه بدون وساطة، أن يقضي أُموره بدون رشوة، أن يخطط لمستقبله ومستقبل أبنائه بدون أن يستدعى هو أو هم للتجنيد من جديد، أن يسافر في بلاد الله الواسعة ثم يعود الى وطنه مثل بقية الخلق. هل تحقق هذا على يد الشيطان؟

الحبيب السالمي: الحب ليس اختياراً في ''روائح مار كلير''

من باريس (مكان هجرته) إلى تونس (وطنه)، يعرض حبيب السالمي في نبرة ساخرة أحيانا ومريرة في غالب الأحيان، شخوصا رهيفة، لكن بثراء إنساني بالغ. لم تستمله تيمات مثل صدمة المهجر، انشطارات الجسد، والانتمائية، كما هو مكرور في صنف مشهور من الرواية المغاربية، بل رافق من دون نوستالجيا في روايته الأخيرة، ''روائح ماري كلير'' قصة حب بين محفوظ، الدكتور في الآداب والعامل في أحد الفنادق الشعبية التي هي في حوزة جزائري، والشابة الفرنسية ماري كلير. بعد لقائهما الأول في أحد المقاهي، تتكرر اللقاءات في ما بعد لتسفر عن علاقة غرامية مشوبة بالانجذاب والعشق القوي. تأخذ ماري كلير، العاملة في البريد، أغراضها لتستقر في بيت محفوظ، ولتعيد ترتيبه على هواها. ثم تشرع في تربية محفوظ وتعليمه القواعد الأولية للآداب والتصرف في الحياة اليومية: النظافة، الأكل، ترتيب الأغراض الشخصية... الخ. ثم تعلّمه أصناف الأزهار، أساليب التقبيل، وتركبه وراءها على دراجتها النارية، وتقتاده إلى علبة ليلية. بكلمة، تحاول تجريده من ريفيته لتجعل منه إنسانا متحضرا أو على الأقل مندمجا في نسيج المجتمع الفرنسي.

يجمع عالم الحبيب السالمي بين حكي نجيب محفوظ، سخرية ليوناردو دو شياشا وجرأة فيليب روث وصرامة ميلان كونديرا. فمن هم كتّابه المفضلون؟ يجيب: ليس لديّ كتّاب مفضلون. قرأت للكثير من الكتّاب وأحببت الكثير من الكتّاب على الرغم من الإختلافات الشديدة في عوالمهم. ثم إن حبي للكاتب لا يظل على حاله فهو يتزايد أو يتضاءل بل ويزول تماما بحسب تقدمي في السن وخصوصا في التجربة. في فترة ما، أحببت كثيرا روايات ماركيز وتأثرت بها. لكن حبي له تناقص في ما بعد عندما اكتشفت الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، وخصوصا الكاتب الأميركي ريمون كارفر. لم أعد متحمسا لهذه الغنائية الهادرة التي تجرفنا في نصوص ماركيز ونرى تأثيراتها العديدة في ما يسمّى عندنا بـ''الرواية الشعرية''. صرت أميل إلى الدقة والتقشف والقدرة على قول أكثر ما يمكن من الأفكار والأحاسيس والإنطباعات بأقل ما يمكن من الكلمات. اكتشفت مع ميلان كونديرا أن الرواية ليست مجرد حكاية وإنما أبعد وأعمق من هذا بكثير. الحكاية هي بداية الرواية وكل ما يمكن أن نؤسسه ونولده من الحكاية هو الذي يشكل نسغ الرواية. أما نجيب محفوظ فقد تأثرت به في بداياتى الأولى، فهو الذي علّمني فن السرد وخصوصا لغة الرواية. اللغة العربية قبل نجيب محفوظ كانت إلى حد بعيد خارج عالم الرواية. كانت فضفاضة وغائمة ومنفلتة. محفوظ تمكن من ترويضها وتطويعها لتسمّي الأشياء. والرواية هي أساسا فن التسمية. وعن التعارض بل المجابهة بين ثقافتين وسيكولوجيتين في ''روائح ماري كلير'' فعن أي شيء يبحث المغاربي عندما يقيم علاقة مع أوروبية؟ ثم هل هذا يعني أن العلاقة بين عربي وفرنسية محكومة بالفشل؟ يجيب: يبحث عن نفسه كما في كل علاقة حب مع أي امرأة. في الحب تنتفي الفوارق لأن الحب أكبر من الفوارق. في الحب تلتقي ذاتان مدفوعتان بحمّى جارفة تنتابهما لا ندري لا مصدرها ولا كيف يمكن السيطرة عليها أو التخفيف منها. محفوظ لم يختر أن يحب لأن الحب ليس اختيارا. كما أنه لم يختر امرأة فرنسية. كان من الممكن أن يحب تونسية أو مغربية أو كندية أو بلجيكية أو يابانية. وباريس تتيح له ذلك فهي مدينة كوزموبوليتية. باريس مملكة الأعراق واللغات. باريس مدينة النساء والحب. هل أن العلاقة بين عربي وفرنسية محكومة بالفشل؟ طبعا لا، ففشل العلاقة بين محفوظ وماري كلير لا يعني إلا هذه العلاقة.

فواز حداد: من حق الروائي أن ينتقم

يصعب أن نضع فواز حداد بين غالبية مجايليه من الروائيين السوريين، وذلك على الأقل لما يتميز به من تملكٍ لأدوات الفن وتضلّع من استخدامها حتى لو تناول ما يتناوله أولئك الروائيون من موضوعات. ويصعب أن نضع حداد في عداد الروائيين اللاحقين نظراً الى تملكه ما لهذا الشكل الأدبي من تقاليد عريقة، فضلا عن ثقافة واسعة وعميقة تشكل أساساً لا بد منه للفن الروائي. هكذا يبدو فواز حداد شاباً بين الشيوخ وشيخاً بين الشباب، نافراً، متفرداً، ونسيج وحده.

في روايته الأخيرة، ''المترجم الخائن'' (2008)، التي وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، يطلق الترجمة مجازاً يعبّر عن الفن برمتّه، مثل أولئك الفلاسفة الذين يكثّفون رؤيتهم للفن في فكرة أو استعارة يجرّدونها ويسمون بها من دون أن يسوقه ذلك إلى نسيان العوالم الأرضية والبشر الفانين، أو نسيان أن الفنون جميعاً، مهما سمت، تتوخى التعبير عن الحياة والأحلام والرغبات.

يسجل حداد في روايته ما يحصل وكأنه يخاف أن يُنسى، فضلا عن جرأة بالغة وغير مسبوقة في الأدب السوري للجهر بالحقيقة في وجه السلطة. فما أثر ذلك على الفن، هل يمارس عليه نوعاً من القيد؟ يجيب: فعلاً لا أريد للكثير مما حدث أن يبدو مشهداً عابراً، لأنني لا أريده أن يتكرر. الاستنقاع في المأساة مثل الاسترخاء في التفاؤل. ليس علينا ألا ننسى فقط، وإنما أن نخرج بموقف يضع حداً لكل ما يمكن أن يشكل انتقاصاً من حقوق الناس. لا أدري إذا كنت قد أبديت جرأة بالغة، ما أنا متأكد منه، أنني وفّيت رواياتي حقها، من دون النظر الى ما يمكن أن يترتب عليًّ، لأنني لم أفكر في نتائجه.

ويضيف: في ''المترجم الخائن'' بدأت من حادثة بسيطة، ومن الطبيعي ألا أبقى أسيرها، وإنما أن أهيئ السبل للانطلاق منها إلى الأطراف والجوانب والخفايا والخلفيات، عداها لا تأخذ اللوحة أبعادها ولا ألوانها وتمايزاتها وأحجام أجزائها. فإذا كان الوسط الثقافي هو الإطار، ففي الخلفية المنطقة والعالم، وتالياً ليس في الوسع إغفال ما طرأ عليهما من تحولات انعكست على المثقفين باختفاء نظريات وظهور أخرى. ولا تجاهل علاقة المثقف بالسلطة، أو تأثيرات الصراعات في المنطقة على مجتمعات المثقفين وتوجهاتهم نحو بدائل أخرى رائجة.

ويتابع: أشخاص روايتي بحسب مواصفاتهم غير مطابقين للواقع، الخلق الروائي عملية معقدة جداً، ومثلما هم مدينون للواقع، يُكثفهم الخيال، ويحيلهم على نماذج تَمُتُّ الى الصناعة الروائية، وخاضعة للمنطق الروائي البحت. إن وجود أشباههم على الأرض، لهو يتعلق بقراء محددين، وهذا لا يعني الرواية، وإن كان يشير إلى أنني لم أكن أتكلم عن تخيلات وإنما عن فساد وتفسخ. وما يهم الروائي، هو خلق دائرة تشير إلى واقع حقيقي.

من جانب آخر، هل يحق للروائي أن يمارس مثل هذا الانتقام؟ ربما، لن أنزع منه هذا الحق، إنها المساحة الوحيدة المتوافرة له، إزاء بعض الذين يستبيحون الثقافة، إذ ليس لديه منبر يرد عليهم سوى رواياته. فلِمَ لا؟!