هجرة نحو خراب .. بعدسة زياد تركي |
المقاله تحت باب في السياسة أقام المصور الفوتغرافي والسينمائي زياد تركي معرضا للصور الفوتغرافية التي التقطها في بغداد عن الفقراء العراقيين الذين احتلوا دوائر الدولة الخاوية واستخدموها سكنا لهم لعدم وجود مأوى آخر . هؤلاء البؤساء هم طليعة المهاجرين والمهجرين من ديارهم والذين عافوا مساكنهم هربا من العنف الطائفي والذين اسكنوا في الخيام ببلدهم أو انتشروا في المهاجر طلبا للامان . زياد تركي اطلق على معرضه : " هجرة نحو .. خراب " واقيم في المركز الثقافي الالماني بدمشق . نقدم فيما يأتي المقال الذي كتبه مروان حمي عن المعرض ثم كلمة الفنان التي القاها في تقديم معرضه .
رؤى فوتوغرافية و شخوص رافدية
كتب مروان حمي: افتتح في صالة معهد " غوته " معرض التصوير الضوئي للفنان العراقي زياد تركي ( 16 / 6 / 2008 ) تحت عنوان" هجرة نحو ... خراب ". قدّم " تركي " صوراً رائعة ونادرة كانت بمثابة سجل توثيقي يومي لظروف حياة مهجري الحرب في بغداد، أولئك الذين فقدوا منازلهم واتخذوا الابنية الخاوية على عروشها مأوى لهم. حصل الفنان " زياد تركي " على دبلوم فنون مسرحية سنة 1986، و بكالوريس سينما في بغداد عام 1998. وهو عضو في اتحاد السينمائين، نقابة الفنانين، جمعية الفنون البصرية (CVAS)، وجمعية المصوين العراقيين. اما اخر معارضه الفردية، فكانت في مدينة " هامبورغ " 2007 ، بمناسبة مهرجان السينما العراقية بعد عام 2003 . الكلمة وتعبيرية الصورة " الكلمة تمثل فكرا انسانيا مستفلا خالصا "، بهذه العبارة افتتح الفنان " زياد " معرضه. ولعل السبب الذي دفعه الى اختيار هذه العبارة، هو صدقية الكلمة ومدى قدرتها على تجسيد الفكر الانساني الحر والمستقل، وتصوير ذاك الفكر في صور وثائقية معبرة تغدو على مر الزمن شاهداً حياً على ممارسات الواقع وتناقضاته. انتقى " تركي " صوره بعناية فائقة من واقع حياة المهجرين واللاجئين العراقين المرير، ما اكسب صوره ايحائية بائنة، وشرعية واقعية زائلة، ومحاكاة انسانية صادقة ابتعدت عن التاويل والترميز والانحيازية. فمراقبة الواقع كانت مادته العينية، وكأنها ذاكرة سرمدية تنتقي الاحداث، تسجلها ثم تعالجها سيمنائيا. وتبين ذلك جليا من خلال كلامه " مهمتنا الاساسية هي مراقبة الواقع ومجرياته"، ذلك ان صانع الفيلم الحقيقي هو الوثائقي الذي يستقي موضوعه من احداثيات الواقع اكثر من الروائي، ايمانا منه ان قدرة الصورة التاثيرية تخاطب كل الشرائح في إطار رموز لغوية وغير لغوية واحدة يوحّدها خاصية فريدة تكمن في اختراق مكنونات كل اللغات والثقافات على اختلافها وتباين انماطها. الحقيقة والبضاعة الفاسدة جاءت موضوعات " تركي " في الصور لتؤكد الحقيقة التي قالها " لم تستطع كل عدسات التصوير التي ذهبت الى العراق ان تسجل لحظة ألم عاشها طفل او امرأة او أب خائف او محتضر بريء ". تلك الحقيقة التي عجز السياسيون ووسائل الاعلام على قولها، وحتى الفن على اختلاف مدارسه وألوانه ومشاربه لم يكن بمنأى عن هذا العجز. وحدها انسانية عدسة " تركي " احيانا، و عفويته كفنان احيانا اخرى، كانت المعبر والحاكي والراوي في صوره التي اظهرت عبثية الخراب وحتمية القدر وشجون الحرب في لوحة فنية فريدة لم تخطها أنامل فنان عادي بريشة اعتادت التقصد او عدسة دأبت تصوير المأسي، إنما لوحة خطتها احداث ووقائع حية كانت الدافع الابرز الذي جعل من" المهجرين والابرياء أرقاما في لعبة غير منتهية من جهة، وثمنا لبضاعة فاسدة اطلقوا عليها " الحرية ". و فقا لما عبر عنه " تركي ". عدسة " تركي " والشخوص الرافدية لم يختبر " تركي " التصوير فقط، إنما اختبر " فن الاختيار" ايضا، إذ تمكن من اختيار شخوص وهيئات موضوعاته وفق رؤى فوتوغرافية سينمائية خرجت على المألوف والموضوعية. فشخوصه اقتصرت على فئتي الاطفال والنساء فقط دون الرجال. ومرد ذلك يعود في رأي " تركي" الى ان الرجال كانت لديهم القدرة في حماية عوائلهم من ذاك الدمار والخراب ولم يفعلوا. فعلامات الحزن والام والمعاناة كانت بادية على قسمات وجوههم وهم يفترشون أرض مبان مدمرة والهلع يشطر فؤادهم كلما يحط الليل رحله الحالك، وكأنه القدر المنجي لاحلام الطفولة المعذبة، في ان يختار لهم التحول الى جنود قتلة او متسولين حينا، او ان يفتح امامهم بوابات الانتظار واللاستقرار على ذرا وروابي الرافدين " مهد الاساطير". فتركي لم يخطئ لما عبر عن ذلك بقوله " لاذت تلك الوجوه تحت سقوف مبان مخترقة، والصبية تائهون بين رغباتهم وبين فقر موجع يحيلهم جنودا قتلة او متسولين او منتظرين". استحالة العودة بمناسبة يوم اللاجئ العالمي بيّن " تركي " في افتتاحية معرضه، ان اللاجئ العراقي يموت مئات المرات كل يوم، بين ان يقبل كلاجئ ويمنح الاقامة، وبين التفكير بإبعاده الطوعي. طالبا من الجهات المعنية بحقوق اللاجئ العراقي ان تفصل بين رغباتها وقوانينها وبين صفقاتها السياسية، وان تضع حدا للذين قرروا استحالة العودة وتمكنوا من نصب " خيمة كراهية " باتت الظل الذي تستفيء كل اطياف الشعب العراقي. مؤكدا ان الهجرة نحو ... خراب، هي هجرة نحو العراق ذاته، عراق الدمار والاحزان والموت وانعكاس ذلك على انهيار الاسرة وتداعي اركانها وبالتالي خرابها ايضاً. وعن مدى مساهمة الفنان العراقي في اظهار واقع اللاجئين العراقين، اجاب تركي انه ساهم فقط بمسؤلية في تسجيل ذاك الواقع، فالهجرة الداخلية هي هجرة نحو الخراب ودور الفنان يكمن في تذكير او تنبيه العالم باوضاع اللاجئين. " تركي " المخرج السينمائي لايمتهن " تركي " التصوير فقط، بل يعمل منذ سنوات في مجال السينما كمخرج حاصدا جوائز عالمية في مهرجانات دولية عديدة. فيلمه (Hometown Baghdad) حصد جائزة " الويبي" لعام 2008. كما انه صوّرفيلما سينمائيا بعنوان ( غير صالح ) للمخرج العراقي عدي رشيد، ليفوز الفيلم بجائزة أفضل فيلم اسيوي لعام 2005 . اما فيلمه ( تحت الرماد ) الذي انتجته منظمة اليونسكو، سنة 2007 والمصوّر في اربيل، فقد تناول موضوع الطائفية بين المثقفين ومدى اختراقها لصفوفهم. وكتب الفنان زياد تركي
(1)
لم أتخيل قط أن ما حدث في بلدي كان سريعا لدرجة فاق سرعة إدراك اناس اعتادوا العيش على كوكب الأرض بقوانينه الازلية في السرعة والتعاقب وربط الاسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات . إن ما حصل في العراق بعد 9 نيسان 2003 كان خارج الموضوعية وخارج المألوف ، لم تتسع له كل عدسات التصوير التي ذهبت إلى هناك لتسجيل ولو لحظة الم عاشها طفل أو امرأة أو أب خائف أو محتضر بريء . الإعلام والفن عجزا عن قول الحقيقة صافية ، فما بال السياسيين ؟ وكم من الشوائب علقت بهذه السيرة وربما ستبقى عالقة لزمن طويل ؟ وكم سيبدو العالم الإنساني بمنظماته الدولية أو الحكومية فاسدا بنظر (الحقيقة) ؟ وكم نحن عبثيون عندما لا يسعنا الا أن نكون أرقاما في لعبة غير منتهية . هذا ثمن كبير لبضاعة فاسدة أطلقوا عليها ( الحرية) . لكنه.. الخراب. (2) قصاصات فوتوغرافية من صورة كبيرة ما تشاهدونه اليوم .. رؤية فوتوغرافية لوجوه عبثت ببنايات الدولة المنهارة ولاذت تحت سقوفها المثقبة بالرصاص والشظايا . وجوه ضائعة في حزمة الظلام داخل الكادر وخارجه . صبية تائهون بين رغباتهم وفقر موجع يحيلهم ربما إلى قتلة أو متسولين.... أو تائهين خارج الحدود كما فعل البعض وأنا منهم . عرفتهم و شعرت بهم عندما صورتهم في العام 2004 أما الآن فلا اعلم عن أمرهم شيئا . هذا ما بوسعي أن اعرضه عليكم اليوم .
اشكر بعمق ومن دون مجاملة او انحياز المنظمات الثقافية الألمانية والخارجية الألمانية التي ساهمت بجد وبرغبة بالتعاون معنا كفنانين عراقيين من خلال مساعدتنا في مشروع الفلم الرائع الذي أخرجه بألم كبير الفنان عدي رشيد في العام 2003 وكنت قد صورته بحب وألم عميقين. وكذلك استضافة معرضي الأول في معهد غوته بسنغافورة فضلا عن مهرجانات الفلم العراقي ومنجزات أخرى مهمة في طباعة الكتب والدراسات العراقية. (3) التماس بمناسبة يوم اللاجيء العالمي. على كل من يعنيهم أمر اللاجئين العراقيين في العالم أن يعلموا بان الكثير من العراقيين في أوربا يموت يوميا مئات المرات بين أن يقبل كلاجئ ويمنح الإقامة وبين التفكير بإبعاده ( الطوعي) كما يحلو لمسؤولينا وصفه . نرجو إن يثبتوا للإنسانية قدرتهم على الفصل بين رغبتهم وقوانينهم وبين صفقات ومجاملات سياسية سيكون الخاسر الوحيد فيها هو الإنسان الحالم بإبعاد أبنائه عن أجواء الكراهية . أما نحن في دول الجوار فإننا ننعم بين أشقائنا بما يستطيعون تقديمه لنا في التعليم وخدمات أخرى مخصصة اصلا لمواطنيهم ولكن الأمر قد طال أكثر مما ينبغي نرجو منهم أن يضعوا حدا لآلام ممن قرروا استحالة العودة . |