وقائع انقلاب 8 شباط واعدام الزعيم عبد الكريم قاسم |
المقاله تحت باب في السياسة قبل اعدامه قال : تستطيعون قتلي غير ان اسمي سيظل خالدا
+++ العاصمة العراقية هادئة تماماً. ونلاحظ اعداداً كبيرة من المسلحين المدنيين يمخرون الشوارع. انهم اعضاء «الحرس القومي»، الذين يحملون اشرطة نسيجية خضر على سواعدهم وينسقون مع رجال الشرطة. وهم يتحركون تحت اشراف من الجيش بشكل واسع، الا ان مهمتهم الاساسية هي قنص الشيوعيين، وهي عملية بوشرت حال توقف المقاومة في وزارة الدفاع. هناك عدد من الشيوعيين ظل حتى يوم الثلاثاء 12 شباط، يواصل خوض معارك صغيرة في عدد من الاحياء ضد الحرس القومي. لكن هذه المعارك تبدو بمثابة النزع الاخير في مقاومة توشك على الانطفاء. اما الاعتقالات فهي من الضخامة الى درجة يستحيل علينا الآن اعطاء رقم محدد عنها. الكثير من عمليات الاعتقال تتم لمجرد الشبهة او الوشاية. ولقد جرى انشاء معسكرات اعتقال جماعية كبيرة في وسط الثكنات العسكرية واينما امكن، لالقاء كافة المدنيين الذين اعتقلوا في غضون ايام الانقلاب المنصرمة ولم يعدموا بعد. لكن الاعدامات التي جرت لغيرهم هي باعداد لا تحصى وبدون محاكمة. ان عدد الذين قتلوا لحد الآن لم يتم الكشف عنه بعد. ففي وزارة الخارجية يقولون عن احتمال ان العدد هو «اربعون ضحية»، ثم يضيفون مستدركين: «ان الرقم لم يتحدد بعد على وجه الدقة». لكن التقديرات الحقيقية الاكثر تواضعاً واتزاناً وتتحدث عن سقوط الف قتيل على اقل تقدير في العاصمة بغداد وحدها حتى الآن. في اللحظة الحالية تستعيد بغداد حركة شبه عادية، والاجواء بدأت تتجه نحو الهدوء. اذ يبدو ان يوم السبت 9 شباط كان، بإقرار الجميع، اليوم الاكثر رعباً. لذا فقد حبس الناس انفسهم في المنازل، حيث حصل قطع في الكهرباء، كما ان اصوات رشقات الرشاشات كانت تسمع في اركان الشوارع. وبينما كانت الاوامر والاوامر المضادة تذاع من الراديو، كان شبان من حملة الاشرطة الخضراء على السواعد يمارسون ما يشبه لعبة الحروب الصغيرة مقيمين دكتاتورياتهم في كل حيّ. التجول لا يتم الا بتصريح خاص يرخص به، الا ان اولئك الذين بحاجة ماسة له لا يعرفون لمن يتوجهون بالطلب لاستحصاله. وحتى عندما ينجحون في الحصول على مثل تلك التصريحات فانهم لا يجدون من يعترف لهم بصفتها الرسمية. وكمثال على حملات «التطهير» الواسعة ما حصل في وزارة مهمة كوزارة النفط، حيث لم يسلم فيها سوى اثنين من الموظفين بينما القي القبض على كافة العاملين في الوزارة حتى صغار السن منهم وارسلوا الى المعتقلات. ففي الاوساط الرسمية للنظام الجديد نسمعهم يقولون بشكل دائم: "لدينا قوائم باسماء جميع الشيوعيين ولن نترك أحداً منهم يفلت من يدنا". والقلق كبير جداً في اوساط المسيحيين الكلدان الذين، كما يقال، اصطفوا مع الشيوعيين. ان الاضرار المادية اقل مما تم تخيله، اذ كانت وزارة الدفاع مركز الهجمات الجوية، ومن الواضح بداهة انها تعرضت للقصف بكثير من القذائف والتي بمعظمها لم تكن صواريخ انما قنابل صغيرة العيار، وان كان كلام راديو بغداد خلال الساعات الاولى بعد انقلاب يوم الجمعة المصادف 8 شباط، الذي أكّد قائلاً «لقد سحقت الدكتاتورية الخائنة كالجرذ تحت انقاض وزارة الدفاع»، اوحى بالاعتقاد بان الوزارة تعرضت لتدمير شبه كلّي. عموماً، ورغم آثار المعارك فيها، ليس لبغداد هيئة مدينة مهدمة تحت القصف بما في ذلك احياؤها الاكثر تعرضاً للاصابات. قتل قائد القوة الجوية برشقة من رصاص رشاش اما عن كيفية حصول الانقلاب الذي قامت به مجموعة من العسكريين المتمردين في يوم الجمعة الذي يصادف اليوم الرابع عشر من شهر رمضان، فان التفاصيل اصبحت معروفة الآن لدينا. لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم موجوداً في وزارة الدفاع، التي هي مقر اقامته الاعتيادي، في اللحظة التي قامت فيها طائرات قاعدة الحبانية بمباشرة هجماتها صبيحة يوم8 شباط. فيوم الجمعة هذا كان كغيره يوم التعطيل الاسبوعي للمؤسسات الرسمية والخاصة. فقد كان السكان قد سهروا حتى وقت متأخر عشيته، وكانت الشوارع خالية الا من عدد قليل من المارة. كما ذكرت الاذاعة العراقية ان الزعيم عبد الكريم قاسم قام في ليلة الخميس على الجمعة بواحدة من جولاته التفقدية التي اعتاد القيام بعا الى عدد من احياء العاصمة. وفي الساعة الثامنة والنصف توقف البث الاذاعي فجأة. ثم تبين ان فريقاً صغيراً من العسكريين استطاع الاستيلاء على محطة الارسال الاذاعي الواقعة في منطقة تبعد حوالي خمسة كيلومترات شمال شرقي بغداد. وقد تكوّن الفريق من بعض الضباط الشباب شأن معظم الذين شاركوا في تنفيذ هذا الانقلاب العسكري. في نفس الوقت، بوغت قائد الجوية العراقية (الزعيم جلال الاوقاتي) بجماعة اخرى من صغار الضباط نجحت باقتحام منزله وسارع افرادها الى غرس بنادقهم الرشاشة في صدره طالبين منه ان يضع توقيعه على أمر يقضي بشن عملية جوية ضد وزارة الدفاع الوطني مقر اقامة الزعيم قاسم. ولما رفض ان يفعل ذلك، ازداد الضباط الشباب حدة في عدوانيتهم. عندئذ وضع الزعيم (الاوقاتي) احد اطفاله في احضانه معتقداً ان ذلك كفيل بردعهم قليلاً، الا انهم على العكس صاروا اشدّ شراسة وخطراً في تهديدهم. وهنا، وتحت فوهات البنادق الرشاشة المتحفزة نحو رأسه وافق على توقيع أمر القيام بالعملية. بيد انهم وحال انتهائه من وضع توقيعه اطلقوا عليه رشقات رصاص عدة اردته قتيلاً في الحال. هذه هي البداية الفعلية الاولى لعملية تنفيذ الانقلاب العسكري. وفي تلك اللحظة كانت عدة طائرات قادمة من قاعدة الحبانية قد ظهرت فجأة فوق قاعدة عسكرية اخرى كائنة في موقع جنوب غربي بغداد تسمى بـ «معسكر الرشيد» يرابط فيها عادة قسم مهم من القوة الجوية والدبابات. فالجماعة المتمردة كانت تعرف مسبقاً بانها لا تمتلك أي حظ في كسب ضباط الجو العاملين في معسكر الرشيد الى جانبها. لذلك سارعت، عبر عمليات قصف نُفذت جيداً، الى تدمير جميع اسراب الطائرات الرابضة هناك خلال بضعة دقائق فقط. وبفضل الفوضى التي نتجت عن ذلك، بوشرت الهجمات الجوية على مقر وزارة الدفاع الوطني. حيث كانت الطائرات القادمة من معسكر الحبانية تحلق على ارتفاع منخفض، مقتفية مسار مياه دجلة المتاخم للجانب الشمالي من وزارة الدفاع، قبل ان تنطلق لتلقي قذائفها فوقها ثم تصعد محلقة عالياً في سماء مدينة بغداد نفسها. هذه الفعاليات الجوية التي ايقظت جميع سكان بغداد من نومهم، اعطت الانطباع خلال بعض الوقت بان ما يجري هو مجرد مناورة جوية. غير ان راديو بغداد سرعان ما باشر باذاعة البيان رقم واحد الصادر من «المجلس الوطني لقيادة الثورة» الذي اعلن «ان زمن الدكتاتورية الخائنة وزمرتها انتهى بعد ان سحقت كالجرذ تحت انقاض وزارة الدفاع». لكن وحتى تلك اللحظة لم يكن الأمر كذلك في الواقع. بل ان الزعيم عبد الكريم قاسم لم يكن آنئذ في أي من المباني التي كانت الطائرات تهاجمها. الشعب يحيي قاسم تحية الوداع ففي فجر ذلك اليوم، وبعد اختتام جولته التفقدية المعتادة في شوارع بغداد النائمة، ذهب الزعيم قاسم الى منزل والدته التي كانت تسكن في منطقة «الكرادة». ولهذا فانه فوجئ، شأنه شأن باقي سكان بغداد، بحصول الهجمات الجوية. ولقد ظل على اتصال تلفوني مع الوزارة لحوالي الساعتين قبل ان يذهب بنفسه الى مقر قيادته العامة في حوالي ما بين العاشرة والعاشرة والنصف صباحاً ليتولى بنفسه قيادة المقاومة ضد الانقلاب العسكري.
ابتداءً من الساعة الخامسة مساءً، اصبحت الطائرات أقل عدداً نتيجة نجاح الدفاعات الجوية الموجودة في وزارة الدفاع باسقاط واحدة منها. فالمقاومة فيها كانت متواصلة بعد، غير ان التعزيزات العسكرية التي اخذت تصل الى المتمردين تزايدت باستمرار. وفي حوالي الساعة السادسة والنصف مساء كانت العاصمة قد شهدت وصول وحدات قادمة من معسكر ثالث اكثر بعداً عن العاصمة. كانت الدبابات المسبوقة بسيارات جيب يجلس فيها عدد من الضباط، تأخُذ مواقعها بشكل بطيء وحذر أول الأمر، ثم بعد برهة تبدأ بدورها بإمطار قذائفها على مباني وزارة الدفاع. ابتداء من هذه اللحظة فقط، اصبح مؤكداً ان قاسم خسر المعركة. استجواب مأساوي وخاطف في الاذاعة، بدأ عبد السلام عارف بنفسه استجواب الزعيم قاسم، وكان استجواباً، حسب رواية العديد من الشهود، خاطفاً ومأساوياً في ذات الوقت. فكل ما كان يهم عارف في الاستجواب هو ان ينطق قاسم امامه انه، اي قاسم، «لم يكن القائد الحقيقي لثورة 14 تموز 1958»، وانه «خان الثورة».. وبينما كان المجلس العسكري المجموع على عجل، في احدى قاعات الاذاعة يجهد لتلبيس اعدام قاسم ورفاقه الثلاثة لباساً قانونياً، كان الضباط الصغار يتشاجرون فيما بينهم لنيل "شرف" رئاسة المجموعة التي تتولّى قتل عبد الكريم قاسم. وقد انتهى الامر باختيار عبد المنعم حميد على اساس انه "تعرض الى الاعتقال بأمر من قاسم". وفور انطلاق رشقات الرصاص التي اودت بحياة عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وخليل كنعان (وكان الأولان جالسان على كرسيين والأخيران واقفان) سارع راديو بغداد الى اعلان نبأ الاعدام حتى قبل ان يذيع نبأ اعتقالهم.. وهنا ايضاً جرى البحث عن شخص يستحق شرف اعلان "موت الطاغية" على الشعب العراقي. وقد جرى في النهاية اختيار بنت الزعيم الطبقجلي. لأن ابيها كان بين الذين حكم عليهم بالاعدام من قبل محكمة الشعب برئاسة العقيد المهداوي، وصادق قاسم آنذاك على قرار الحكم.
جريدة «لوموند»- في 14 شباط 1963/ من جورج هربوز، العوث الخاص لوكالة الانباء الفرنسية في بغداد بغداد/ 13-2-1963 ترجمة : الدكتور حسين الهنداوي |