المقاله تحت باب في السياسة في
10/02/2008 06:00 AM GMT
اتعهد علناً بان يشهد عام 1963 ولادة البرلمان العراقي المنتخب
أمضيت بعضاً من الليلة الماضية برفقة الزعيم عبد الكريم قاسم. بدأت مقابلتي معه في التاسعة من مساء الخميس وتواصلت حتى فجر الجمعة. ففي حوالي الثانية عشرة ليلاً كان على الزعيم قاسم ان يستقبل مبعوثين من محطات الاذاعة والتلفزة الفرنسية، عبّر لهم عن انشراحه لعودة العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا. لا يحب رئيس الحكومة العراقية اجهزة التسجيل الصوتية ولا ضوضاء آلات التصوير. كما يبغض المقابلات التقليدية المستعجلة. اما اجوبته فهي عامة بل عامة جداً احياناً. ولقد بدا لي متوتراً، "يبدد توتره" في منديل صغير يضغط عليه بشكل دائم في راحة يده اليسرى التي تسند كتفاً تعرض للشلل منذ ان اخترقته رصاصات خصومه. فمحاولة الاغتيال التي نجا منها بمعجزة في عام 1960 تركت آثاراً عميقاً عليه، حيث خرج منها ضعيف البدن. فهذا الرجل الذي اعود لملاقاته للمرة الاولى منذ حزيران 1959، لم يفقد شيئاً من حيويته ربما، الا ان ثمة تجاعيد تعتلي الآن جبهة وجهه الاسمر كما ان ملامحه توحي ببعض القلق. لقد قال لي «ان ساعتين او ثلاثة من النوم تكفيني يومياً، وانا مستمر هكذا منذ اربعة سنوات. فعندما اسمح لنفسي بالنوم اطول من ذلك يداهمني احساس بالذنب. تنتظرني واجبات كثيرة.. بينما عمر الانسان قصير جداً..». وسمح لي الزعيم قاسم، بمعية ضابطين من مساعديه وبضعة مراسلين اجانب كانوا في مكتب ملاصق لمكتبه، ان ازور قسم الارشيف العائد لسكرتيره الصحفي الضابط برتبة رئيس سعيد نوري. وهنا طلب الزعيم ان يقدم لنا الشاي، ثم توجه لي منهمكاً في احاديث حول مواضيع لا ترابط بينها احياناً. موضوعاته المفضلة هي الحديث عن حب المقربين والتضامن العالمي وخصوصاً البؤس، اضافة الى الوسائل الكفيلة بتحرير الفقراء من مشاكلهم. ويقول الزعيم: «انا نفسي منحدر من وسط فقير جداً، وهو ما اعترف به بكل فخر، كان ابي نجاراً، وقد واجهت أمي الكثير من الضنك في سعيها لكي احصل على تعليمي المدرسي. لذلك استطيع ان اتصور ماذا تعني المدرسة في حياة الاطفال. وهو ما يفسر لكم لماذا انا في عجلة لضمان التعليم المدرسي لكل الاطفال الفقراء في بلادي. ذلك لأنني اريد ان اجنبهم المشاق التي واجهتها في طفولتي». حتى تلك اللحظة كان حديثه مثيراً للعواطف. الا ان نبرته واسارير وجهه ما لبثت ان تغيّرت كما لو انه أخذ بلعب دور شخص آخر اكثر تلاؤماً معه، حيث راح يبدو صارماً بل ومهدداً.. وهو يضيف: «لكن حذار... ان اقدامي ثابتة بمتانة على الارض، كما ان رأفتي لا تذهب ابعد من الحدود المقبولة. انني لا احب التنظير، لكن عندما يتعلق الامر بالمساس بهيبة الدولة سنضرب بسرعة وبشدة. فنحن لا نمزح عندما يتعلق الامر بالمساس بالمبادئ. إن ما قام به نفر من الطلاب قبل ايام حيث سمحوا لأنفسهم بالاعتصمام في مكاتب ادارة جامعة بغداد، هو تجاوز على سلطة الدولة. واقول بشكل واضح على الدولة، ولا اقول على عبد الكريم قاسم. ولذلك، ارسلت مفرزة عسكرية لاخراجهم منها. الا انني مع ذلك حرصت على ان اجرد الجنود من الاسلحة قبل ان ارسلهم لينصحوا صناع الفوضى بالعودة الى رشدهم». الدسائس الانجلو – امريكية وفجأة توقف الزعيم عبد الكريم قاسم عن الكلام. الا ان شفتيه استمرتا في التحرك، او هكذا تبديتا لي، كما لو انه اخذ يتفوه بكلمات موجهة لغيري. ثم للحظة خيل لي ان ابتسامة منه اوشكت على الارتسام على وجهه، غير انها لم تكن في الواقع سوى حركة لا إرادية من فكه الاعلى. كان ينظر لي نظرة توحي بالتركيز، مما اكد لي بان الرجل متألم جسدياً كما معنوياً. وهنا انتقل الى الحديث عن فرنسا قائلاً: «توجد بيننا وبين الشعب الفرنسي روابط لم يمكن لأحد ان يفسدها بما في ذلك حرب الجزائر. لقد قمنا بسببها بقطع علاقاتنا مع الحكومة الفرنسية. وتوجب من اجل ان نعيد علاقاتنا مع فرنسا، تدخل رجال الأدب الذين جاءوا الى بغداد للمشاركة في احتفالات ذكرى الفيلسوف العراقي الكندي. فلقد تأثرت جداً من جانبي بخطابات الاساتذة جاك بيرك وبلاشير. اذ اكتشفت آنئذٍ الى أي درجة كان شعبنا قريباً من الشعب الفرنسي». ويواصل الزعيم عبد الكريم قاسم قائلا: «الا انني لا اقول ذات الشيء حيال الانجليز والامريكيين. فما الذي لم يفعله هؤلاء لكي يستعبدوا العراق ولكي يحكموا قبضتهم على ثرواتنا؟ والادهى من ذلك، انني استلمت قبل بضعة ايام فقط مذكرة تهددني فيها واشنطن بفرض عقوبات ضد العراق إذا تمسكت بمواقفي. ولا ادري كيف يعطون لأنفسهم الحق باستخدام لغة كهذه؟ ان الفترة الهاشمية ولّت الى غير رجعة. وهم لا يدركون ان جمهوريتنا لا يمكن قهرها طالما هي نابعة من ارادة الشعب وحده. - هل هناك مؤامرات أخرى تهدد نظامكم؟ - هناك المؤامرة الاخطر. وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا انما ضد فلسطين بشكل خاص. فهناك مؤشرات في الاجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الامريكية. وهم يدركون ان النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل اي شيء من الحكومات التقدمية المناهضة لاسرائيل. والامريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية، ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق. لذا فهم يخلقون بنا شتى الصعوبات داخل البلد بهدف اشغالنا بعيداً عن الاهتمام بالمشكلة الفلسطينية. وفيما يتعلق بسوريا، فانني اقولها علناً باننا سنكون الى جانبها مع اول اشارة. فهو يسعون، كما في العراق، الى تلغيم البلاد من الداخل. انني اعرف اسماء كافة العناصر المخربة، الا ان الامر لا يعود لي بصفتي رئيساً للحكومة اصدار الامر باعتقالهم انما اترك الاجهزة المسؤولة في الدولة كي تقوم بواجباتها الملقاة على عاتقها. ايضاً ان من المفيد ان نمنح لكل فرد منهم فرصة العودة الى رشده. فما اعتقده احياناً مع نفسي هو انه لابد ان يأتي ذلك اليوم الذي سيعودون فيه الى جادة الصواب. انني افضل العفو عند المقدرة، لكن يجب عدم استغلال ذلك. وكما تعلمون فان عليّ منع عناصر التخريب من التقاط انفاسها. ورغم هذا كله لا تتوقف اذاعات وصحف بعض الدول العربية من اتهامي بالاختلال وحتى الجنون الحاد وبالدكتاتورية وبغيرها من الاتهامات.. لكننا لن نترك لهذه الاتهامات ان تستفزنا سيما ونحن نعرف بأنها تصدر عن ادوات في خدمة الاستعمار. فهذا الاخير اوجد له بعض الوسائل يأمل عبرها ان يتسلل الى صفوفنا. - سيادة الرئيس، مضت سنتان منذ وعدتم العراقيين بدستور دائم وبانتخابات وبمجلس تشريعي. اين وصلتم في انجاز كل هذه المشاريع؟ - تحدى ان يُذكر لي مثال واحد عن تعهد قطعته ولم التزم به. ففي يوم من الايام، وكان ذلك في 11 حزيران 1959 خلال مؤتمر الشبيبة الديمقراطية الذي انعقد في بغداد، قطعت وعداً ببناء «مدينة الثورة». آنئذ اعتبرني كثيرون مجرد حالم وطوباوي. لكن الجميع اليوم بامكانهم الذهاب الى هذه المدينة اللطيفة التي يعيش فيها ثلاثمائة وخمسون الفاً من السكان جميعهم من ذوي الدخل المحدود. وقريباً ستكون لها حدائق عامة وشوارع مبلطة ومسبح كبير. وفيها الآن عدد من المدارس ومستشفى ومستوصفات بنيت بالتزامن مع بناء المنازل. وهذا ليس كل شيء. هناك ايضاً سد دربندخان الاروائي الذي كلف الدولة 26 مليون دينار واترك الكلام عن الطرق والساحات والنصب والعمران والمصانع الحديثة والاصلاح الزراعي وغيرها. وكل هذا بهدف اشاعة الرفاه الاجتماعي. اننا لا نعادي الاغنياء ما داموا مستعدين لمعاونتنا في سعينا الهادف الى رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للفقراء. اما فيما يخص الدستور، فانني اتعهد الآن علناً بان لجنة من الخبراء ستشكل بل نهاية شهر شباط 1963، لتكلف باعداد مشروعي دستور دائم وقانون انتخابي جديد. وسنضع تحت تصرفها من اجل ذلك، نصوص عدد من الدساتير الاجنبية ومنها النصوص السويسرية والالمانية والفرنسية والمصرية والسورية... وفي كل الاحوال، انني اتعهد علناً أمام الشعب بان يكون عام 1963 هذا عام ولادة الجمعية الوطنية العراقية... * * * صار الوقت متأخراً حيث كانت عقارب الساعة تشير الى الثانية فجراً. الا ان الزعيم قاسم بدا كمن يشعر بحاجة قوية للتكلم عن منجزات ثورته. وعنها تحدث طويلاً. انه يرفض تهمة الدكتاتورية التي توجه له ويشعر بسرور ان يرى من يستمع له وقد اقتنع بما يقوله. على أية حال، بامكاننا ان نتصور ما نشاء عن هذا الرجل الذي اعلنت الصحافة الدولية والعربية مراراً طوال السنوات الاربع الماضية عن سقوطه الوشيك بينما هو عرف ان يصمد في موقعه. بيد ان الزعيم قاسم لم يعد ثورياً. فلقد وجدته واقعياً مؤمناً برسالته ويتمتع بطريقة تفكير راجحة واكثر تطوراً من تلك التي يتمتع بها كثير من زعماء الدول العربية سواء الذين ينظرون له نظرة حقد او نظرة شفقة. كانت الساعة قد بلغت الرابعة وخمسة واربعين دقيقة من ذلك الفجر الذي بدأ يطل علينا. عندئذ وجدت ان الأوان قد آن كي انصرف. استأذنت الرجل، فمدّ لي يده مصافحاً وهو يقول: «سلّم لي على عمال المطبعة في الجريدة». 4 شباط 1963، من ادوارد صعب- بغداد/ صحيفة الليموند
ترجمة : الدكتور حسين الهنداوي
|