برهان الخطيب.. من المتاهة إلى الجسور |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات
برهان الخطيب (1)
صدرت مؤخراً للروائي العراقي الكبير برهان الخطيب رواية جديدة وتحمل عنوان "على تخوم الألفين". وبها يكون الكاتب أصدر عشر روايات بين 1968 سنة صدور روايته الأولى "ضباب في الظهيرة"، و2011 سنة صدور روايته الأخيرة( )، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين. من رواياته هذه "ضباب في الظهيرة"، و"الجسور الزجاجية"، و"نجوم الظهر"، و"ليالي الأنس في شارع أبي نواس"، وعندنا أن روايته "شقة في شارع أبي نواس" تبقى إسهامه الأهم في مسيرة الرواية العراقية. ولد الكاتب في محافظة بابل عام 1944، ومع أنه بدأ الكتابة الأدبية قصةً ونقداً منتصف الستينيات قبل أن يغادر الوطن إلى موسكو ليستقر هناك، ربما من غير الدقة، نقدياً، اعتبار برهان الخطيب ستينياً بشكل مطلق، وهو الأمر الذي يمكن أن يقال أيضاً عن كتّاب غيره، لكننا بسبب تجربته الروائية الأولى "ضباب في الظهيرة" أولاً، وبقاء أنفاس هذا التيار تتردد بهذا القدر أو ذاك في أعماله التالية ثانياً، وانتماء روايته "شقة في شارع أبي نواس" التي نراها أهم أعماله، بدرجة ما إلى الستينين ثالثاً، رأينا أن يكون توقفنا الخاص بتجربته عند هذا التيار. فبعد تلك المحاولة التجريبية المتواضعة فنّاً وإنجازاً على مستوى الرواية العراقية وعلى مستوى الإنجاز الشخصي للخطيب والمتمثلة في "ضباب في الظهيرة"، بخمس سنوات، يطلع علينا الروائي بتجربة جديدة أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها جميلة، وهي "شقة في شارع أبي نواس"- 1973- التي سجّلت تميزاً فنياً واضحاً مقارنة بتلك المحاولة الأولى لتحتل مكانة استحقتها بين الأعمال الروائية التي صدرت أواخر الستينيات والنصف الأولى من السبعينيات، وستعززها عام 1975، وإنْ بدرجة ما، تجربته الروائية الثالثة "الجسور الزجاجية"، الأمر الذي يبرر لنا منهجياً ونقدياً التوقف عندها بشكل أساس هنا عابرين إليها من "ضباب في الظهيرة"، ومنها إلى "الجسور الزجاجية". وإذا ما كانت وقفتنا هذه قصيرة فإننا إنما أردناها أشبه بمقدمة لدراسة التجربة الروائية للخطيب دراسة تفصيلية، نأمل أن تُتاح لنا الظروف لتحقيقها في المستقبل.
(2) تقدم "شقة في شارع أبي نواس" ثلاث شخصيات شابة طلاباً في معهد الفنون الجميلة، تضمهم شقة في شارع أبي نواس، هم: الأولى هي (كاكا حميد) الكردي، وهو سجين سياسي- شيوعي- سابق يترك في غرفته، حين يُزجّ في السجن، الفتاةَ الكردية (نعيمة) التي كان قد وجدها تائهة، ليستحوذ عليها أعز أصدقائه فتحمل منه، وهو ما يذكرنا برواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ. الشخصية الثانية هي (سامي) الذي يبدو أن الرواية تريد به البعثيين. الشخصية الثالثة هي البدوي (عداي) وهو قومي التوجه سلبي الشخصية. وتتابع الرواية قصصهم عبر تقنية الفلاش باك، وحركتهم في الحاضر، بما في ذلك علاقاتهم بـ(نعيمة) التي تقتحم شقتهم وحياتهم. ولعل هموم هذه الشخصيات، إضافة إلى ما يختلف فيه كل منهم عن الآخرَيْن طبيعةً واتجاهاً سياسياً وتفكيراً وسلوكاً، يكاد عداي يجمعها في قوله: "مشكلة الجنس والخبز والسياسة"( ). وكل ذلك في ظل أوضاع وقضايا معروفة في العراق، منها انقلاب 8 شباط 1963 وما تلاه من أحداث واضطرابات، وقضية التمرد الكردي في شمال الوطن، ومطاردات قوى الأمن للعديد من الفئات السياسية. ولعل للقارئ- واستناداً إلى إشارات عديدة، وإلى طبائع الشخصيات، وإلى مسار الأحداث المرسومة- أن ينظر إلى (نعيمة) على أنها رمز العراق، والشخصيات الثلاث من حولها هي القوى الرئيسة التي كانت تتصارع حول العراق في بداية الستينيات وهي: الشيوعيون، والبعثيون، والقوميون. وتعلقاً بموضوع الرواية أو موضوعاتها، ومركزية السياسة في ذلك، نعتقد أن ما منع رواية الخطيب هذه من أن تصل في تميزها إلى مستوى أن تكون ضمن الأعمال المتميزة في تراث العراق الروائي، هو "اهتمامه المتطرف بالسياسة التي جعلته يتخلّى عن الموضوعية التي يحتاجها العمل الروائي في التعامل مع الموضوع وعدم إخضاع هذا الفن للتبشير أو الإيصال المجرد لآراء الكاتب السياسية"( ). نقول هذا مع عدم إنكار أن الرواية أعطت إيماءة مبكرة إلى العطاء الذي سيقدمه برهان الخطيب فعلياً في ما بعد سبعينيات القرن الماضي بشكل خاص، وليكون إنجازه ضمن معالم التجربة الروائية. بالطبع أن علاقة الرواية واضحة بالستينيين، على الأقل من حيث الاهتمام جزئياً بأحاسيس الضياع والإحباط عند الشباب، ولاسيما المثقفين منهم. ولكنها لم تستسلم، كما لم يستسلم كاتبها لثقافة الضياع أو التيه والتيارات السوداوية، كما فعله آخرون مثل ياسين حسين وفاضل العزاوي ومحمد عبد المجيد وإسماعيل فهد إسماعيل وعبد الرحمن مجيد الربيعي. فإذا كانت للرواية مثل هذه العلاقة بأنفاس جيل الستينيات هذا، فإنها تعبر أيضاً، في أكثر من جانب، عن الالتزام والوعي مقدمة بعض الشخصيات المتلزمة والواعية، الأمر الذي يبدو وكأنه يهيئ كاتبها لطريق أكثر بعداً عن تيارات الضياع والإحباط والسوداوية وعوالمها، وأكثر قرباً من التيارات الملتزمة، وهو ما سيعبر عنه بوضوح أكثر في روايته التالية "الجسور الزجاجية"، قبل حسم هذا التوجه في روايات تالية ما بعد الثمانينيات. (3) وإذا ما جاءت رواية الكاتب التالية، "الجسور الزجاجية"- 1975- أكثر استيعاباً لطبيعة الفن الروائي ومتطلباته، لا سيما في سعة عالمه، ومعبرةً فكرياً عما يتناقض مع توجهات جيل الستينيات وأفكاره كا قلنا، فإن السياسة، التي اغتالت بعض فن "شقة في شارع أبي نواس"، كما قلنا، قد تواصلت في فعلها السلبي لنكرر بشأنها ما قلناه عن الرواية السابقة إلى حد ما. فمنعها تحميلُها الأفكار السياسية والرمز السياسي مما كان من الممكن أن تحتله من مكانة فنية متميزة بين الروايات العراقية. ونعتقد أنه كان بإمكان الكاتب لا مغادرة السياسة، بل تحييد فعلها أو تأثيره السلبيين في الفن، خصوصاً أن مثل هذا الفعل أو التأثير لا يأتي من السياسة ذاتها، بل من انحياز الروائي في موقفه الفكري والسياسي، بينما نحن نعرف أن الفن الروائي هو فن شمولي وحواري وحيادي- ولا بأس في أن يتكلف الحياد، إذا جاز لنا هذا التعبير، من خلال تقديم الأصوات ووجهات النظر المختلفة- وفي النتيجة هو موضوعي في تقديم العالم الذي يقدمه وشخصيات هذا العالم، وهو ما لم يتوفر عند برهان الخطيب في هذه الرواية، كما لم يتوفر في الرواية السابقة. أحداث الرواية تقع افتراضاً في أعقاب ثورة تموز 1958، حين يخرج (مزعل) من السجن الذي نعرف أنه قد زُجّ فيه بإلباسه جريمة سرقة لم يقم فيها، ليكتشف أن زوجته (شمسة) قد انفصلت عنه وتزوجت من صديقه (صلاح)، وهو ما يكاد يكون متكرراً، فقد رأيناه في رواية الكاتب السابقة "شقة في شارع أبي نواس"، وذكّرنا في حينها- كما قلنا- برواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب". ويبدو كأن الرواية تريد بـ(مزعل) الطبقة العاملة المناضلة، وبـ(صلاح) البرجوازية الوطنية التي تأخذ تغرق تدريجياً ببرجوازيتها ومصالحها على حساب المواقف الوطنية. وهكذا، وكما كان ممكناً النظر إلى عالم "شقة في شارع أبي نواس" وشخصياتها، يمكن للقارئ أن ينظر هنا إلى (شمسة) على أنها العراق، أو ربما الجمهورية بتعبير أدق، وإلى (مزعل) و(صلاح) على أنهما القوتان الرئيستان، الطبقة الكادحة أو العاملة والطبقة البرجوازية، اللتان تتصارعان عليه، وكل ذلك من منظور واضح في يساريته أو ماركسيته أو شيوعيته يمثله الكاتب. ومن هنا تحديداً، كان التوظيف غير المقنع في الفن للموقف الفكري أو السياسي الخارجي، فبتنا نرى، وبما يقترب من التكلف والاصطناع، تبرئة الشيوعيين مما جرى في العراق من صراعات وانحرافات بعد ثورة تموز 1958، وتحميل غيرهم المسؤولية عن ذلك، حتى وإن ارتكب الشيوعيون أخطاءً. وهكذا قد نفهم ما يعني كلام (شمسة) حين تُخيّر بين (مزعل) و(صلاح) في ضوء هذا، إذ تقول: "الاختيار هنا ليس التفضيل بين كفتي ميزان، وترجيح الأثقل، وليس الاتجاه في إحدى الطرق المتفرعة من مفترق، قد يبدو هكذا في الظاهر، ولكني في الواقع لا أملك حق الاختيار... لأن ذلك يتم بحكم وضع نفسي وخارجي معين، أتفهمني يا مزعل؟ أما الفعلة التي قد انحاز لها الآن، أي ما سيحدث، فهي امتداد لما قد حدث فعلاً"( ). ----------------------------------------------------------------------------- |