تحولات الواقع والإنسان في الروايـة العراقيـة |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات معروف أن الرواية هي فن المدينة، ولما كان مجتمع المدينة بطبيعيته أكثر أنواع المجتمعات تغيراً واستجابة للتجديد وتمثّلاً للتحولات، فقد كان من الطبيعي أن تعنى الرواية في استجابتها لمتغيرات المجتمع المديني وتحولاته بفعل التغير وما ينتج عنه. والرواية العراقية ليست استثناءً من هذا التعميم الصحيح إلى حد كبير، فهي كانت دوماً مستجيبة للمتغير، وخاصة لما شهده المجتمع العراقي، وضمن ذلك البغدادي، من تحولات، وأكثر ما اتضحت خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، وفي سنوات 1958- 1963، ثم في النصف الثاني من السبعينات، وفي سنوات الحصار، وأخيراً بعد سقوط بغداد. لكن ذكر مراحل التحول هذه لا تحصر التجربة بتلك التي ظهرت في تلك المراحل، ولا بالأعمال التي عُنيت بما حصل في هذه المراحل، فالواقع أن استعراضاً لمسيرة الرواية العراقية في مرحلتها الفنية، وعبر العقود والمراحل الاجتماعية والسياسية والحضارية، يلحظ بوضوح، ولا نريد أن نقول بسهولة، هذه الاستجابة، بروايات "الزقاق المسدود" و"كما يموت الآخرون"- 1965- لياسين حسين، و"النخلة والجيران"- 1965- لغاب طعمة فرمان، و"السفينة"- 1970- لجبرا إبراهيم جبرا؛ ومروراً برواية "المخاض"- 1974- لفرمان، و"القمر والأسوار"- 1976- لعبد الرحمن مجيد الربيعي و"ظلال على النافذة"- 1979- لفرمان، و"الرجع البعيد"-1980- لفؤاد التكرلي، و"بحثاً عن مدينة أخرى"- 1980- لمحيي الدين زنكنه، و"الغرف الأخرى"- 1986- لجبرا؛ وانتهاءً بروايات "مطر أسود مطر أحمر"- 1994- لإبتسام عبدالله، و"يواقيت الأرض"- 2000- و"العيون السود"- 2002، و"الحدود البرية"- 2004 لميسلون هادي؛ وغيرها من الروايات التي سنتوقف عند تعالم بعضها عند قضية التغيير والتحولات ووقائعها.
( 1 ) يبدو أن فرمان عندما كتب روايته الأولى "النخلة والجيران" كان محملاً بخزين كبير من التجارب والذكريات والملاحظات ووجهات النظر حول فئات من المجتمع البغدادي. وضمن ذلك كله كان للتحولات التي شهدها هذا المجتمع في فترات بعينها، وعلاقة الأفراد بها مكانة غير عادية تركت بصماتها في هذه الرواية التي نعرف أنها عُنيت بالمجتمع البغدادي الفقير خلال الحرب العالمية الثانية، وكما ستفعل هي وغيرها مع معظم روايات الكاتب الأخرى. وقد تمثل توظيف هذا الجزء من خزين فرمان وفاعليته وما يعنيه فكرياً وفنياً وجمالياً في عدة أوجه، ومن خلال عدة جزئيات من الرواية. من أهم ذلك وأكثره تصريحاً عما نذهب إليه وأبكره ضمن سياق الرواية ما يمس (سليمة الخبازة) عندما يخترق عالمها شبه المنعزل من يمكن أن نسمّيه رسول التغيير والتحول المنتظر أو المبشر به، نعني (مصطفى الدلال)، ليداعب قلبها بمعسول الكلام عن العالم المتغير وتحقيق الأحلام بدءاً بالتظاهر بالاستغراب من بقاء عالمها وحياتها على حاليهما: "- البيت بعده مثل ما كان؟ - شيتغير منه؟ - لا، قصدي تعمير ترميم! ... [وقال:] ومن يجسر يسوي شيء والدنيا حرب؟ وكل شيء بالنار"- الرواية، ص 13. وفي خطوة تالية، يقول: - اليوم ديركبون سيارات، وطيارات، وباجر، من يدري ايش راح يصير. يمكن يصعدون لسابع سما"- الرواية، ص 16. ثم: "- والناس تريد فايدتهه. يعني، الله يرحم أبوك، إذا السيارة توصل للكاظم بنص ساعة ليش نركب عربانة توصل بساعتين، يعني إذا أكو كهرباء يخلّي الليل نهار ليش نشعل شمعة، وإذا أكو فرن يسوّي صمون ويطلّع مية صمونة كل ربع ساعة، ليش الخبازة توكف عالتنور، والدخان عامي عيونها، وهي كل ساعة تطلع عشر قرص؟"- ص18. وهكذا يسير (مصطفى) بـ(سليمة) خطوة فخطوة في ما يحدث من تغيرات وتحولات في بغداد، وهو في حقيقة الأمر يغرقها في عالم التغيير والتحولات التي يُفترض أنها تتحقق، بل في ما يفرزه التغير والتحول من الزيف والخداع والاستغلال وفقدان الضمائر التي أفرزها التغيير. فيرتج هذا العالم وسرعان ما تمتلئ صاحبته بالأحلام، لكن هذه الأحلام سرعان ما ترتج هي ذاتها حين تلمح (سليمة) في صباح اليوم الثاني (مرهون السايس) حائراً إزاء خبر بيع الطولة، ومن حوله بعض الجيران.. "وسألت: خير إن شاء الله؟ ردت امرأة عليها: - عيني، الدنيا خربت. - شكو؟.. إش صار؟ - بعد كل شي يصير. - يمه دكولّي.. شكو، إشصار؟ - وإلويش؟- سألت ببرود، وكانت عينا مرهون الحزينتان تتضرعان إليها- وأضافت: - يعني إش وازاه؟ قالت امرأة جاءت من زقاق مجاور: صارت عنده فلوس.. شبع. قالت أسومة العرجاء: أشو الطولة من آني انخلقتْ موجودة.. عيني من يذكر على طولة حاج أحمد آغا! قالت زوجة حمادي العربنجي: عيني شبع، والناس من تشبع تسوي الأكو والماكو... واحنا إش مدرينا؟ يمكن ما شاف ورا الطولة فائدة. كل واحد يركض وراء مصلحته. -... صاحت أسومة العرجاء: يمه متسكتون، الناس من تصير عدها فلوس تتخبل. ليش إحنه منعرف حاج أحمد آغا؟ جانت صايته الزركة مركعة. قال مرهون بصوت ناحب: جان ينام ويايه بالطولة. - ماعون باكلة ما جان يهلّه ينكّع. - وهسه صار يملك نص الدنيا"- الرواية، ص29- 31. وعندما تأخذ الفلوس طريقها إلى الإنسان لا بد أن تقوده إلى التغيير، إذ يبدأ برؤية الحياة لا كما كانت، والناس لا كما عرفهم، بل القيم ليست كما عُرفت اجتماعياً وإذا كانت مثل هكذا تغيّرات عادة ما تترك تأثيرها على الفرد أو الأفراد الذين تقع لهم، فإن الأمر يتعدى الفردية حين تكون التغييرات أو التحولات جماعية، أي على مستوى المجتمع أو الوطن أو فئة معينة منه، وهو ما حدث لبغداد أو العراق في ظل وقوع التغير والتحولات في ظل الوجود الإنكليزي: "- أم حسين، لو ما الإنكليز جان هسه ميتين من الجوع. - صدك... بس إش كد راح يبقون؟ - يبقون، أم حسين، يبقون ليوم القيامة. الإنكليز ما يدخلون ولاية ويطلعون منها. إنت تفطنين عالانكليز. ... - لا، من يفطن؟ - لعد خليهم، وخل الشغل ماشي."- الرواية، ص 110. في "النخلة والجيران" تفسد القيم، وتضيع المواقف، وتتبدل الضمائر، لتتحرك النفوس المريضة، في ظل ذلك كله، نحو من لا يزالون داخلياً يعيشون عالم الأمس وهم يواجهون قيم اليوم فيقعون.. وهكذا تكون (سليمة) ضحية سهلة لـ(مصطفى) الذي يعرف كيف يستغلها، بسرقة مالها بحجة إدخالها شريكة في فرن بدايةً، ثم بالسكن في غرفة في بيتها، فالزواج بها، قبل أن تكتشف كم كانت مخدوعة. وإذا كان ذلك قد تمثل في حوادث فردية، وشخصيات معينة، ومواقف وأفعال وتعبيرات ترد هنا وهناك، فإن التعبير الجمعي والمعبر بشكل أكثر عمقاً وشمولاً قد كان في الحقيقة في وجهة النظر المهيمنة على الرواية، وربما نستطيع القول في الرواية نفسها ككيان ووحدة واحدة، في الواقع أن قارئها يمكن أن يرى أن المحرك أو ألـ motive - إن صح التعبير- هو التغيير والتحول الذي يتعرض له العالم الذي تتعامل معه الرواية، عالم الطولة/ بغداد/ العراق، الذي يتراءى باستمرار خلف الأحداث والشخصيات. وهذا الأمر الأخير نفسه ينجر بالبعد عينه تقريباً في روايات أخرى لفرمان يتعامل فيها مع التغيّرات والتحولات التي شهدها العراق عبر كل مراحل تاريخه الحديث. ( 2 ) في "المخاض" يعود المغترب (كريم) ليواجه التغييرات من لحظة خروجه من مطار بغداد ودخول المدينة، بعد أن تكون ثورة تموز وإعلان الجمهورية في عام 1958 قد قامت وتركت تداعياتها المختلفة ببصماتها على بغداد، شوارع وأبنية، مع دلالة أبعد من ذلك، تتضح في القيم والمفاهيم التي يبدأ البطل يواجهها حين يقرر السكن مع عائلة فيسأله صديقه (محسن): "- وهل رأيت البيت؟ - لا يعنيني البيت، بل يعنيني الناس الذين يسكنونه. - كيف لا يعنيك؟ تأتي تعباً، وتريد أن تستريح فلا تجد جواً للراحة. - لا أذكر أنني استرحت في البيت طوال حياتي، فلماذا أطلب أن أستريح الآن؟ - أنا أعرف بيتاً تستريح فيه... - لا، يا محسن، أعطيت للرجل كلمة. - وهل هي خطبة حتى تخجل أن تفسخها؟ الناس يفعلون ذلك بسهولة"- المخاض، ص87. وهو يجد أن التحولات هي أعقد من أن يتقبلها كل واحد، وأعقد من يتفق حولها الجميع: يسأله (نوري) السائق: "- وخبزة الفقير مع من؟ أريد أسألك بالله. - مع الجمهورية، يا عم نوري. - أنا لا أعرف جمهورية ولا بطيخ.. أنا أعرف الناس اللي عندهم، واللي ما عندهم. قل لي كم ديناراً عندك، كم حوشاً، كم سيارة، حافي لو عندك كم حذاء، وسأقول لك من أنت؟"- الرواية، ص89. وإذا ما كان لا بد للثورة أن تفرز خلافات ما بين الناس والرؤى فإن الأهم من ذلك والأخطر هو أن مثل هذه الخلافات وفي ظل التحولات والتغييرات على مختلف الصعد يترك تأثيره احتقانات وحقداً وقسوة وسادية يبدأ (كريم) يراها ويواجهها حين راحت الفئات الاجتماعية والسياسية تمارسها بعضها مع البعض الآخر.. تقول له (آمنة)، زميلته في العمل: "- وهل الثورة قاسية إلى هذا الحد؟ - الثورة تحتمل كل شيء. الثورة صراع. - صراع طبقي؟ كم ملأتم آذاننا به! لماذا لا تقول ببساطة إن الناس استولى عليهم مرض حب الإيذاء.. السادية؟ ... - يمكنك أن تقولي ذلك إذا كنت تعتبرين الثورة شراً، ولكن الثورة خير وبركة. لماذا يثور الناس؟ لأنهم يريدون أن يجيبوا حياة أفضل... - لا أدري، لا أدري. مجرد أن الناس تغيروا، وأضحوا قساة كالحجارة، لا يرحمون، ولا يعبأون لشيء. إذا لم يطعنوك بخنجر، أهانوك ببرود دم. ... - هل كدرك داود؟ لم تجب مباشرة، بل قالت: هذا داود شاب متزن، عصامي، تحول إلى مخيط ينغز، ينغز. ... - أبوه سبب له هذا التأزم في نفسه. ... - أنا أعرف أنه يُخفي اسم أبيه، لأنه قندرجي، ويلقب باسم عائلة أمه.. أعرف.. العقدة"- الرواية، 175- 176. ومما يجذب الانتباه هنا، وتعلقاً بالتغير وكما رآها فرمان وأحسها ووعاها أو وعاها أبطاله أننا نجد أنه إذا كان أصل التغير في المجتمع، فإن الروائي قدر رصد الوجه السلبي منها كما تتمثل في السلوك الفردي، الأمر الذي يقود بطل "المخاض" إلى الحزن والابتئاس واليأس والإحباط العميق: "عاد إسماعيل يقول: أنا لا أعرف كيف يقتل الإنسان نفسه. كيف تبيح ذلك؟ هل الحياة رخيصة بهذا الشكل؟ - أحياناً تبدو كذلك. - يعني يئست.. أصبت بانهيار. - عندما بدأت أشرب لم أرد أن أقتل نفسي. - ولكن كنت في حال سيئة. خفتُ أن تموت"- الرواية، ص274. وحين ننتقل إلى أكثر روايات فرمان تعاملاً مع التغيير والتحولات الاجتماعية، وهي "ظلال على النافذة"، نجد الكاتب يقدم التحول بوصفه تحولاً واقعياً ورمزياً في الوقت نفسه. فلنا أن ننظر إليه على أنه تحول واقعي خاصة حين نراه متمثلاً في الشخصية/ الفرد، وكما تمثل من قبل في بعض شخصيات "النخلة والجيران"، و"المخاض". فرواية "ظلال" قامت بدرجة ما على تحول مصنوع في حياة "عائلة عراقية بحتة انتقلت من حيها القديم، ولكنها أخذت معها إلى الحي الجديد كل تقاليدها"، لكنها في دلالاتها أرادت بظننا ما هو أبعد من ذلك، نعني التحول الاجتماعي العام إذ تومئ إليه الرواية، وكما تعبر عنه، إلى حد كبير، إحدى الشخصيات الرئيسة، (شامل) الذي يبين ذلك من خلال شرح موضوع مسرحية يقترحها على فرقته المسرحية: "شامل: القصة غاية في البساطة والتعقيد. الأب رجل عصامي، من حي بغدادي، قديم، أنشأ نفسه من مهنة بسيطة، وتدرّج حتى أصبح من سكان أحياء بغداد الجديدة، ولكنه أخذ معه كل تقاليد وعادات الأحياء القديمة، ولازمه شعور بضعة المنشأ، والضياع في البيت الجديد، فكان يراقب أهله، وكأنه في غابة"- ظلال على النافذة، ص68. ( 3 ) لقد جاء الكثير من السلوكيات، تعلقاً بالتغييرات الاجتماعية، بأشكال ردود أفعال شخصيات روايات فرمان، خاصة حين كانت التغيرات في أطر سياسية أو كانت الأحداث السياسية المسبب الرئيس لها، مقابل هذا بعض أبطال جبرا لهم أكثر صراحة في التعبير عن ذلك، كما يتمثل بشكل خاص في رواية "السفينة"، وتحديداً في رفض شخصياتها لواقع الوطن والأرض بعد أن تغير في أعقاب ثورة تموز 1958، وهروبهم منه، ولعل أقوى هروب وتعبير عنه هو الذي مثله انتحار أحد مسافري السفينة، (الدكتور فالح)، ينقل لنا الفلسطيني (وديع عساف) قول ثالث، هو (محمود): "- بانتحاره، يُخيل لي أن فئة كاملة من المجتمع تنزاح عن مسرح حياتنا. فقلت محتداً: نعم تلك الفئة المفكرة التي تتحدى سيف الظلم بصدرها. إنها في زوال سريع. - لا، لا. ليس هذا ما قصدت. عالمنا في انقلاب هائل، وهذا بعض أعراضه"- السفينة، ص 229. وإذا كان التغييرات والتحولات الاجتماعية والحضارية والسياسية، كثيراً ما يعبّر الكثير من المثقفين عن مواقفهم منها ورفضهم لها، حين لا يجدونها ملائمة لهم بالهروب الذي هو في الوقت نفسه تخلّ عن مسؤولية أن يكون لهم أدوار في ما يحدث، مع أو ضد أو مشاركة أو مواجهة... فإن (وديع عساف) نفسه يعبر عن هذا الهروب من الواقع الجديد، وعن رأيه فيه بشكل أكثر صراحة حين يقول لـ(عصام السلمان) في نهاية الرواية: "- هنا يا عصام بلغت أسطورتك حدها، ثم تبددت، انكسر من حولك، وما عليك إلا أن تخطو فوق الحطام والردم- إلى حيث توجد حريتك. - في بغداد؟ - نعم في بغداد. حريتك لن توجد إلا فيها"- الرواية، ص239. إذا كانت السلبية هي التوصيف الصحيح لتعامل شخصيات الغالبية العظمى من الروايات العراقية، كما رأينا في النماذج السابقة، فلعل عبد الرحمن الربيعي هو من الروائيين القلائل الذين تعامل مع التغيير والتحولات بقبول يتمثل في قبول شخصياته وربما مشاركتهم فيه. أكثر رواياته تعاملاً إيجابياً مع ذلك هي "القمر والأسوار"، التي تبدو وكأنها تتغنى بالتغيرات التي تشهدها عمرانياً محلة من محال الناصرية في منتصف القرن الماضي، عبر وضوح ما يمثله هذا الشكل من التغيرات، لا بد أن تكون في المجتمع والأفراد وبدلالة هذا الذي يُبنى الواضحة: "انتشر في الزقاق خبر مفاده أن بيوت العاهرات التي تحتل جزءاً كبيراً من وسط المدينة ستُهدم وسيُبنى مكانها مسجد ومدرسة وملعب لكرة القدم"- القمر والأسوار، ص 67. وهو واحد من تغييرات في ما يُسمى بالتعبير الاقتصادي والسياسي بالبنى التحتية للمجتمع التي لا بد أن تقود إلى تغييرات في البنى الفوقية، وضمنها الاجتماعية، وهذا بظننا ضمن ما تهتم به الرواية، وتتعامل معه أو في ضوء تأثيراته المتحققة والمتوقعة الشخصيات. ولأن التغيرات كثيراً ما كانت، بفعل السياسة وبقاء الأطر والقيم السياسية والاجتماعية القديمة، تغييرات سياسية، أو اجتماعية محجمة بما تخدم السلطة لم يكن غريباً أن ترفضها الشخصيات، إلى حد الهرب من الوطن كما رأينا، وكما يفعل بطل رواية "بحثاً عن مدينة أخرى" لمحيي الدين زنكنه، الذي إذ لا يجد نفسه منتمياً إلى مدينته يقرر البحث عن مكان آخر، وكما سيفعل بطل إحدى الروايات المتأخرة، وهي رواية ميسلون هادي "يواقيت الأرض". ( 4 ) وحين ننتقل إلى روايات العقدين الأخيرين أو التي تتعامل مع واقع هذين العقدين، نجد أن واقع الحروب والاحتلال والفوضى والمعاناة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تفرض نفسها، كما نجد ذلك مثلاً بشكل خاص في روايات ميسلون هادي. فإذا كانت روايتها الأولى "العالم ناقصاً واحد" قد تعالمت مع التغيير على المستوى الفردي، وتحديداً من خلال أبوين يفقدان ولدهما شهيداً في الحرب مما يترك فراغاً في عالمهما، فإن كل رواياتها الأخرى تتعامل مع التغير والتحول في الواقع الاجتماعي وتأثيرهما في المجتمع والأفراد، خاصة في ظل سنوات الحروب والحصار والاحتلال الأمريكي. إن تحول ميسلون هادي من المستوى الفردي للتغير أو لتأثيره في روايتها الأولى إلى المستوى الجماعي- الاجتماعي- في الروايات التالية لا يعني اختفاء الأول بالضرورة. في الواقع أن الكاتبة في "يواقيت الأرض" تنطلق في ذلك من الفرد في خضم ضغوطات التغير التي يحسها فيه، ولكن بفعل تأثير ضغوطات الواقع المتغير، وحركة التحولات غير العادية فيه في وقت بدا وكأن هذا الواقع/ الوطن، أو بتعبير أدق انتماء البطل إليه ، ممثلاً بالناس أو المجتمع قد بدأ ينفلت منه تدريجياً دون أن يقوى مع وعيه بما يجري على التشبث به. وهو الإحساس الذي كان قد بدأ فعلاً يتسرطن في دواخله: "كان قد أصبح جِدّاً منذ وقت قصير.. أو طويل.. بل قصير.. وقبل ذلك بسنوات كان قد فاجأه شاب طويل القامة عريض المنكبين بأن قال له : تفضل عمو. كم بدت الكلمة نشازاً... فما الذي حصل لكي يناديه ذلك الشاب بعمّي ويقول له بكلمة واحدة كم هو جيل آخر.. عتيق وعجوز ومتهدم.. كأنه قادم من زمان العصمانلي او عصر الديناصورات؟" - الرواية ، ص 13. منذ ذلك الحين يبدأ هاجس العمر يتصاعد في داخله ليغرز فيه نصل المعاناة الأبدية للإنسان. ولكن سرعان ما تنبض فيه أيضاً (بطولة) غريبة لمواجهة الاستسلام والانتفاض على هذا الواقع/ الغول، قبل أن يبدأ هذا يُترجم إلى مشروع مغادرة الوطن والهجرة. إن دافع الهجرة لديه قد بدا خاصاً، ولكنّه قد كان في وجه آخر منه عاماً ، ليكون شأن البطل في ذلك شأن جلّ العراقيين في (عصر المحنة) كما شاء بعض النقاد مصيباً إلى حد بعيد أن يسمّي هذا الزمن تعبيراً عن معاناة شاملة لكل العراقيين مما لم يجربوه في حياتهم المعاصرة، وربما لم يجربه أي من أجيال أسلافهم عبر تاريخ العراق الطويل. وقد جاء التعبير عن هذه المعاناة بوعيهم وإرادتهم عبر محاولات التغلب المختلفة على ما تمارسه فيهم المحنة أحياناً بأشكال ردود أفعال مختلفة ينقادون إليها رغماً عنهم. حين رأينا من زاوية نظر معينة أن الأزمة التي عُنيت بها "يواقيت الأرض" هي أزمة الإنسان الفرد مطلقاً أكثر منها أزمة إنسان بعينه ، العراقي مثلاً، ممثلاً بالطبع وفي الحالين في (ناجي عبد السلام)، فإن هذه الأزمة تشتد أكثر وتتفجر بفعل بيئة وظروف خاصة هي بيئة العراق في ظل الحرب والحصار والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي هيمنت على حياة العراقي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي فالرواية من الناحية الحدثية البنائية إنما هي رواية بطلها (ناجي عبد السلام مقصود)، ولكن هذا مزروع في واقع ونابع منه أيضاَ، وبالتالي لم يكن ليقدر على تجاوزه، ذلك هو واقع وطن وأمة.. وهكذا كان من جهة أخرى البعد الوطني أو المحلي، نعني العراقي، والبعد القومي العربي، بكل ما نعرفه عنهما من خارج الرواية ومما قدمته الرواية ذاتها عبر لقطات هي أقرب إلى الضربات الموجعة عادةًً حتى في كوميديتها البنائية منها إلى اللقطات التي نعرفها في الأعمال القصصية والروائية والسينمائية. وهذا الهم الوطني يأتي في ظلال العصر الكوني المتمثلة بالعولمة والفضاء والفضائيات وغيرها ليشكل ما تبدو هموماً أو على الأقل ظلال هموم جديدة مهدد البطل بها . فهو يأتي في عولمته أو كونيّته ليخترق كل ذات لا عبر احتقار الشعوب جميعاً فحسب ، بل عبر احتقار ذات الفرد الواحد وإنسانيته وإرادته وطموحاته. وتأتي رواية "العيون السود" امتداداً لـ"يواقيت الأرض" في الكثير مما تناولته، خاصة حين تعاملت مع تغير الإنسان العراقي تحديداً استجابةً للظروف القاسية وغير العادية التي تعرض لها العراق في عقد التسعينات من حصار، وضغوط داخلية وخارجية، وما بدا واضحاً أنه إعمال في إماتة الإنسان كما عرفناه في الفرد العراقي والعربي عموماً، عبر نزع القيم والتقاليد والمثل كما تربينا عليها برميه في أخطبوط العوز والمعاناة والأمراض والصراع من أجل البقاء، ليجد من يحاول الحفاظ على الحدود الدنيا من الموروث البايولوجي والاجتماعي والأخلاقي نفسَه في ما يشبه البحر الذي لا يستطيع الخلاص، إن استطاع، إلا بجلد مثخن بجراح. في مثل هكذا عالم نجد (مثنى) يحضر محاضرة، مضطراً لأن (يمامة)، الفتاة التي يحبها، تأخذه إليها، وعليه فهو لا يستجيب لما تطرحه إلا بدعابة: "والمقولات كما عدّها أرسطو عشر: واحدة جوهر والتسع الباقيات أعراض والعرض ليس من مكونات المفهوم بل مكونات الماهية. قال مثنى هامساً: جدتي اسمها ماهية. كتمت يمامة ضحكتها وقالت: اش.. اش.. قال بحدة: فعلاً جدتي اسمها ماهية.. وأنا عطشان"- العيون السود، ص 117. وإذا كان تعليق (مثنى) هو بدلالة من دلالاته انسحاباً من هذا العالم- بما يرمز له- الذي تصر (يمامة) مع بقية من بقايا زمن يمضي على البقاء فيه وتشبث به، فإن (يمامة) تتخذ موقفاً مشابهاً من عالم آخر جديد يأخذها إليه، في ما يشبه رد زيارة، هو عالم (مثنى) الذي يجد نفسه فيه، هو عالم (الأوراق والتوريق/ الدولار والعملات) الذي اجتاح بغداد والعراق في ظل الحصار: "قال مثنى: السوق نازل. ... قال صوت ضاحك انطلق من مكان ما: لا تخاف.. بعد ماكو بواري! قال مثنى:َ شتري الآن.. وأَبيع بعدين. ... قالت يمامة: أريد أن أعود إلى البيت. قال مثنى: ولكني لمن أنته بعد. قالت: ابقِ أنت.. أنا راجعة"- الرواية، ص157- 158. أما في روايتها الأخيرة "الحدود البرية"، فإن ميسلون هادي تقدم صورة بانوراية- إن صح التعبير- إن صح التعبير، لبغداد ما قبل الاحتلال الأمريكي الأخير للعراق- في مرحلة الحصار- وما بعده. فتبدأ، في حزيران 1994بـ: "فالت الطفلة: الدنيا كلها طيور ميتة.."- الحدود البرية، ص9. وتنتهي، في حزيران 2003 بـ: "قال خالد: حارة جداً. قال الرجل: هذا هو اليوم الثاني بلا كهرباء"- الرواية، ص 150. وبين ذاك وذاك يقول رجل: "- يا أخي، العالم كله خراب.. والإنسان ينقرض.. ألا ترى أن الإنسان ينقرض؟.. إنه ينتهي من الداخل.. يعجز عن الحب ويهرب إلى الكراهية فيقتُل ويُقتل.. ثم ينقرض"- الرواية، ص 97. بعودة إلى كل نماذج التغير والتحولات في الواقع الاجتماعي والإنسان وانعكاساتها على الأفراد/ الشخصيات ومواقف هؤلاء منها، كما عبرت عنها الروايات السابقة، نجد أنها عموماً تميل إلى أن تكون تغيرات وتحولات سلبية، أو أن المواقف منها كانت سلبية، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عن سبب ذلك. وجواب على ذلك السؤال نقول: إذا كان الروائي جزءاً من المجتمع، والرواية تعبير هذا الروائي عن متغيراته، فإن المجتمع العراقي لم يكد يرى في العقود الأخيرة إلا الويلات والنكبات والمآسي، ولا يزال، فإذن ماذا ننتظر من ابن هذا المجتمع: ماذا ننتظر من جزء من هذا المجتمع أن يقدم غير الذي قدمه الروائي، مع عدم إنكار ما انطوت عليه بعض الروايات من إيماءات تصب في اتجاهات أخرى. أستاذ زائر – جامعة إكستر
najmaldyni@yahoo.com |