.
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
04/10/2009 06:00 AM GMT
قرأت، في موقع (كُتّاب العراق) الإليكتروني، تعليق السيدة مي عزيز علي على الحلقة الخاصة بوالدها الفنان العظيم عزيز علي من المسلسل المنوع (زنود الست) الذي يُعرض على قناة الشرقية، وفيه تعبر عن بعض ألم مما رأتْه تشويهاً ومغالطات ومخالَفة للوقائع والحقائق حول شخصية والدها الفنان الراحل وحياته، فكانت وقفتنا هذه في ضوء ما عرضته الشرقية وما رأته السيدة حول ذلك. وابتداءً أود أن أشير إلى أن علاقتي بفن الفنان الكبير تعود إلى سنوات شبابي حين اشتريت في أحد أيام العام 1974، وبالصدفة، مجموعة أشرطة من بائع أشرطة قديمة وكان بينها شريط سمعت منه أغاني لم أسمعها من قبل فبهرتني.. وكانت تلك أغاني الفنان عزيز علي.. ومنذ ذلك اليوم لم تفارق أشرطة هذا الفنان العظيم مكتبتي الموسيقية. وتأتي الواقعة الثانية حين استلمت مكتبي، بعد تعييني موظفاً في وزارة الثقافة والإعلام في العام 1975، لأجد فيه مجموعة من الصور الفوتوغرافية كانت بينها صورة جميلة للفنان عزيز علي وهو يجلس على كرسي مدرسي اكتشفت بعد حين أنه في مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد التي عرفت فيما بعد أنه مؤسسها، فوضعتُ الصورة في أحد أشرطة أغانيه ولا زالت في مكانها لحد الآن.. وأخيراً تأتي الواقعة الثالثة المتمثلة في عمود الأستاذة مي عزيز علي في الوقت الذي سيصدر لي فيه كتاب اسمه "هومسيك.. حب الوطن حين يكون أكذوبة في الإبداع" أشير فيه إلى الفنان العظيم بوصفه واحداً من كبار محبي الوطن والمضحين في سبيله، في الفقرة الآتية: "نعرف كيف كان الفنان المنلوجست الكبير عزيز علي يهيِّئ يطَغَهُ- فراش النوم وملحقاته- بعد كل أغنية أو مونولوج يغنّيهما، استعداداً لسَوْقه إلى المعتقل، إذ هو لم يكن ينطلق في قول شيء إلا من العراق وحب العراق، وما كان يقول من شيء إلا في ما يراه خيراً للعراق، في ظل سلطات، لاسيما تلك التي ارتبطت بالإنكليز، كان إبداعُه يضعها في موضع الإدانة أو على الأقل الإحراج دائماً". وأخيراً يأتي البرنامج المنوع الخاص بالفنان، وتعليق ابنته عليه، فكانت وقفتنا هذه عن البرنامج وعن كتابة السيدة مي عزيز عنه، ونُجمل فيه رأينا من خلال النقاط الآتية: أولاً: يجب أن نقول بدايةً إن العظيم عزيز علي سيبقى عظيماً أبداً لسبب بسيط، وهو أنه عظيم فعلاً وأصالةً وبكليته وليس بفعل أو عمل أو سلوك بعينه. وإذا كان المبدع بمثل هذه المواصفات، فإنه بوصفه علَماً ليس ملكاً لنفسه أو لذويه، بل هو ملك للوطن وللناس، وعليه فهو، نتاجاً وإرثاً وشخصيةً، مادةٌ بأيدي الكتّاب والمبدعين والمؤرخين والتربويين.. يتعاملون معه بالأشكال التي يريدون ومن الزوايا التي يجدونها مناسبة. ومع أن هذا لا يُتيح لأي من هؤلاء تغيير الوقائع، فإنه لا بد أن يقود إلى تجاوز المحاكاة المجرّدة. وهنا كثيراً ما يقع الخلاف بين ذوي مثل هذه الشخصية، الفنان أو المبدع أو العالم أو السياسي، حين يعجزون غالباً عن تقبّل كل ما يرونه خروجاً على ما يعرفونه عنها، وبين من يتناولون هذه الشخصية، خصوصاً حين يكون هذا التناول إبداعياً وذا رؤى خاصة، من الذين يسمحون لأنفسهم بالتخيّل والتكييف وإجراء ما يرونه ضرورياً من تغيير ما دام لا يمس الحقيقة. ثانياً: يجب أن لا ننسى أن الشرقية كانت أول قناة تكرّم فناننا بعد الحرب حين بدأت تقدم منلوجاته المعبرة عن جلّ أوضاع بغداد والعراق، الأمر الذي قاد قنوات أخرى إلى تقليدها. وإذا لم يكن هذا بكثير على هذا الفنان الكبير، كونه أكبر من تلك القنوات بالطبع، فإنه مهم جداً لأنه يأتي بعد انقطاع أجيال عن عطائه.. وهذا ما يسجل نقطة لصالح الشرقية. ثالثاً: وتعلقاً بهذا يجب نعرف أن العمل الفني، أي عمل فني، لا يُعامل كما تتعامل مع التاريخ والوثيقة والترجمة الحياتية مثلاً. فالعمل الفني، غناءً أو قصةً أو روايةً أو دراما..، لا يلتزم دقائق الوقائع ما دام يلتزم الجوهر ولا يشوهه.. أما التجاوز على بعض الوقائع الثانوية منها وإضافة بدائل فإنما هو من مقتضيات العمل الفني، ومرة أخرى على أن لا يشوّه الشخصية أو الموضوع أو الحقيقة الجوهرية. وشبيه من هذا ناقشه النقد كثيراً بما في ذلك حتى النقد العربي القديم ضمن موضوع (الصدق والكذب في الأدب). رابعاً: رجوعاً إلى عزيز علي نرى، وقد شاهدنا الحلقة الخاصة به، إن المسلسل عموماً لم يشوه ولم يسئ للفنان الكبير كما ترى الأستاذة مي، حتى وإن اتفقنا معها على وقوع بعض الهفوات وتسجيل بعض المآخذ، ونطمئنها على أنه وبالرغم من تلك التحفظات فإن تلك الحلقات لم تترك فينا شيئاً من الانطباع السلبي. وبظننا أن رد فعل السيدة مي المتمثّل في الموضوع لم يأتِ معبّراً عن وجهة نظر مشاهدٍ أو أو صحفيٍ أو ناقد حيادي، بل هو رد فعل الرائية بعين الناقدة والابنة المحبة والمتحسسة من أية صغيرة قد تمس والدها، وهو تحسس مشروع ومقبول ومفهوم تماماً على المستوى الذاتي والخاص، ولكن يجب أن يتم تجاوزه حين نكتب ونبحث ونناقش علمياً أو فنياً أو أدبياً أو نقدياً. ولنضرب مثلاً بسيطاً على بعض تحفظات الناقدة والابنة المحبة والغيورة على والدها وسمعة والدها التي جعلتها تتخذ بعض المواقف من الحلقة والمسلسل. المثال هو إشارة الحلقة إلى إبعاد عزيز علي إلى الخارج للتخلص من (مشاكله)- كما جاء في الحلقة- حين عُين في إحدى السفارات. فسبب تعيينه هنا لا يسيء للفنان، كما تظن، بل قد نقول إنه يكرّمه. كما ليس بالضرورة أن تكون على معرفة بمثل هكذا سبب حتى وإن كانت ابنته، بل ليس بالضرورة أن يكون حتى الفنان عزيز علي نفسه على معرفة به. ويبقى أن هذا رأي المؤلف أو المعد الذي قد يرجع- وهنا أتكلم لا عن الحلقة بل عن أي عمل فني- إلى مرجعيات ومصادر تشتمل على بعض حيثيات الأمور مما قد لا يعرفها الفنان والابنة نفسيهما. ومثل هذا ما نجده يحدث حين نتعامل مع فنانين وأدباء كبار مثل السياب والجواهري وناظم الغزالي وغيرهم. أما اعتراض السيدة مي على غناء الفنان في مقهى أو ملهًى، فببساطة لأنه يشكل المكان- اللوكيشين- شبه الموحد بين كل حلقات المسلسل. والأمر نفسه يُقال عن أصدقاء عزيز علي، فهي شخصيات في الغالب متخيَّلة، والعمل الفني غير ملزم بمحاكاة الدقائق المتعلقة بمثل هكذا أمور مما يحيط بشخصية العمل أو موضوعه، وهذا من مقتضيات العمل الفني على أن لا يشوّه الحقائق. أخيراً، ومع أن ما كتبته الابنة يدل على حرصها وعلى معدنها الذي هو من معدن الوالد، نقول للأستاذة مي: يجب أن تطمئن من أنه لا يمكن لأحد يوماً أن يسيء إلى هذا الرمز العظيم، وإذا ما وُجد- ولن يوجد- فهو لن يستطيع ذلك أبداً لأنه صرح أكبر من أن يقدر أحد على مسّه. وهذا ما ينطبق على البرنامج التلفزيوني الذي لا نظن أنه يسئ للفنان، ويجب أن لا نحمّله أكثر مما يتحمله أي برنامج خفيف، وإننا لنظن أن مَن وراءه حريصون، مثل فناننا العظيم ومثل ابنته المحترمة ومثلنا، على (بستان) عزيز علي وعلى رموز هذا البستان.. جامعة إكستر - بريطانيا
|