.
المقاله تحت باب في السياسة في
20/02/2012 06:00 AM GMT
كلما أردتُ الكتابة عن قضية المرأة وحقوقها ومظلوميتها المتراكمة في العراق، وجدتُ مقولة "كارل ماركس" الخالدة ماثلةً أمامي: ((في ضوء علاقة الرجل بالمرأة يمكن للمرء أن يصدر حكماً عن درجة التطور الكلي للإنسان. إن خاصية هذه العلاقة هي التي تقرر إلى أي حدٍ قد اقترب الكائن البشرى من نفسه كإنسان....وإلى أي مدى يصبح فيه السلوك الطبيعي للإنسان إنسانياً، وإلى أي مدى يصبح فيه الجوهر الإنساني في الإنسان جوهراً طبيعياً ... )) (المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844م). واليوم وبعد مرور تسع سنوات على اللحظة التي دشن فيها العراق عصرَ الإسلام السياسي الحاكم في منطقة الشرق الأوسط، عادت إلى الواجهة السوسيوسياسية من جديد مفاهيمُ "العفة" و"العورة" و"العار" و"الاحتشام" بوصفها أعز المسميات "الشرف–جسدية" التي أنتجها العقل "الذكوري– اللاهوتي" في رحلته الصراعية الطويلة مع مُثُـــل التنوير والمساواة والعقلانية. لا أريد أن أخوض اليوم في البُعد الحقوقي الجندري لهذه المعضلة البشرية المزمنة، وما ترتب عليها من انتهاكات فظة تجاه المرأة العراقية جرى توصيفها وتوثيقها علمياً وإعلامياً ومنظماتياًعلى نطاق واسع في حقبة ما بعد العام 2003م؛ بل أودُ التنقيب عن الجذر "الانثروبو- نفسي" لما يمكن الاصطلاح عليه بــــ"عـقـدة الـمـرأة" التي باتت تشكل ركناً أساسياً من سيكولوجية الإسلام السياسي. وقد جاءت آخر التمظهرات المرضية الجلية لهذه العقدة عبر التعليمات الصادرة مؤخراً عن وزارة المرأة في العراق بتقييد حرية الملبس لموظفات دوائر الدولة بدواعي "الحشمة" و"العفاف". وهنا أزعمُ إن "عقدة المرأة" لدى الإسلام السياسي عقدة مركبة ثنائية البُعد (جنسية – ثقافية) نتجت عن التفاعل الجدلي بين هذين البُعدين على مدى التأريخ الإجتماعي للإنسان. فالمجتمعات الشرقية ومنها المجتمع العراقي، تؤمن في غالبيتها السكانية، ومنذ قرون بعيدة، أن "شرف" المرأة يكمن في جسدها بالأساس، وليس في عقلها أو شخصيتها، بل أن جزءاً مهماً من شرف الرجل نفسه صار يتحدد بمدى "عفة" جسد زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته أو قريباته. واذا كان الرجل هو الذي سنّ هذا التشريع أو المعيار أو القيمة لأسباب تتعلق بسعيه "التأريخي" لتوطيد مكانته القيادية في الأسرة والمجتمع، من خلال تأمين ممتلكاته وتوريثها الآمن الى ذريته، فأن جسد المرأة كان لا بد له أن يصبح جزءاً من هذه المِلكية "المقدسة" التي ينبغي أن لا تمس، بوصفه – أي جسد المرأة – جزءاً ملحقاً بذات الرجل من جهة، ولكونه "وعاءً" بيولوجياً لإنتاج ورثته المنتسبين الى دمه من جهة أخرى. وبالتدريج، وبالاتكاء على أساس متين وفرته الايديولوجيا الدينية المرتبطة نفعياً بمصالح طبقات الكهنة، استحالت هذه القيمة الاقتصادية-الاجتماعية الى ثقافة سلوكيةٍ سائدة، وإلى عقدة نفسية راسخة لدى الجنسين على حد سواء، آليتها الكبت الجنسي، الذي صارت تتباين درجته من مجتمع الى آخر طبقاً لدرجة تطور البنية العقلانية العامة للمجتمع. ولنحاولْ الآن استنطاق عُنصُرَيْ هذه العقدة التي ورثها الإسلام السياسي الذكوري لكونه امتداداً معاصراً لذلك الاتجاه الفكري التأريخي القديم الذي استند إلى آليات التحريم والتعهير والتعوير بوصفها وسائل "مقدسة" ناجعة لإذلال نصف المجتمع وجعله ملحقاً بنصفه الآخر: • العنصر الأول (أي البعد الجنسي للعقدة) - المرأة ليست أكثر من "شيء" أو في أحسن الأحوال هي "مخلوق" منتج للذة الإيروسية فحسب، وجدتْ لإشباع الغريزة الذكورية. - ولأنها الوحيدة المالكة لسلطة منح اللذة للرجل، وبدونها يتعذر ذلك، فيجب إذن تقييدها بالممنوعات والمحظورات لئلا تكتسب استقلاليتها وتمارس حرية منح اللذة أو حجبها متى شاءت عن الرجل. - إنها سلعة ممتعة تخضع للخزن والتداول حسب الطلب الذكوري ((احتشمي وتبرقعي وتحجبي بأزياء أنا أحددها لك فأنا مولاك ووحدي من يحق له أن يأذن لك بعكس ذلك حينما أشاء وأينما أشاء)). - ((نحن الرجال المتأسلمون غيورون من بعضنا حينما يتعلق الأمر بأملاكنا وسلعنا، ولذلك اتفقنا أن نكبح جماح كل النساء لئلا يستمتع بعضُنا علانيةً بهن - ولو بالأبصار فقط- في غفلة من بقية الرجال. أما أن نقوم بامتهانهن بالتحرش أو الاغتصاب أو الزواج العُرفي أو المتعوي أو المسياري فهو مباح لنا ما دام لا يحدث علانيةً ولا يخدش كبرياءَ بعضنا)). - فعل التحشيم أو التحجيب يراد به القول لا شعورياً بأن ثمة "فضيلة" نحن الرجال فرسانها وحماتها والمدافعون عنها. وبتعبير أدق: إننا فضلاء وأبناء صالحون للقوى الإلهية العليا. - التابو (أي جسد المرأة) وظيفته هنا أن يضفي القدسية على أفعالنا التحريميةـ فبدون التحريم تنتفي القداسة لأن الأشياء بطبيعتها التلقائية متاحة ومتيسرة، وهذه الإتاحة لا تجعلها مقدسة. فنحن نحرّم ونضع الحدود لكي نعرقل تلقائية الأشياء، وعندها تبرز فضائلنا المدعومة "افتراضاً" من القانون الإلهي. - إن الميكانزم النفسي الأساسي المحرك لهذه العقدة هو ما يدعى بالمصطلح الفرويدي بـ"التكوين العكسي"، أي أن يُظهر المرء لاشعورياً عكس ما يبطن لأنه غير قادر على مواجهة صراعاته الباطنية نظراً لفداحتها الأخلاقية المقوضة لقيمته الذاتية. وهكذا فالمتأسلمون إنما يمارسون الإنكار والتلهية لغرائزهم الشبقية المكبوتة عبر ممارساتهم الفظة الهادفة لــ"تعـفيف" المرأة ضمناً وصراحةً.
• العنصر الثاني (أي البعد الثقافي للعقدة) - المرأة مؤنثة وليست من جنس الله الذكر بعكسنا نحن الرجال، ولذلك فالسيادة والسلطة لنا. هي جاءت من ضلعنا، أي نحن من صَنعَها ومَنحَها فرصة الكينونة. لكن المرأة هي من تلدنا وتخرجنا إلى نور العالم، ونحن نحسدها لاشعورياً لامتلاكها الرحم الذي ينتج لنا ورثتنا، فكيف يستقيم هذا التناقض إذن؟ يستقيم فقط حين نمحو ذاكرتها الاجتماعية ونقنعها بدونيتها الأنثوية الدنيوية غير الإلوهية. - نحتاج إلى جنس ضعيف يبرهن على قوتنا وسطوتنا. نحتاج إلى عبيد نقنعهم بضرورية عبوديتهم وبأن تبعيتهم لنا إنما هي "مقوننة" ربانياً؛ فالتراتب والتمايز من سنن الأشياء، ولا توجد مساواة لأنها تقع "بالضد" من الشرعة الإلهية. - وهكذا فنحن المسؤولون عن تنميط سلوك المرأة اجتماعياً، من ملبس وحديث وعادات وخيارات وأسلوب حياة. فهي يجب أن تتحرك ضمن حدود الله التي نمثلها نحن بقدرتنا على فرز الحرام من الحلال. - غير إن كل ذلك لا يكفينا، إنما يتوجب على المرأة ايضاً أن تعيد صياغة مفهومها عن ذاتها بما يتلاءم مع نظرة الإسلام السياسي لها. عليها أن تسوغ دونيتها بأن تتوحد بقاهرها (أي تتقمصه) لتصير جزءً ذهنياً متيناً من منظومته الثقافية. وهي بذلك ستأمن قسوته وسطوته، إذ تنحاز له وتبرر له اضطهاده لها بأن تسبغ العدل على ظلمه فتمنحه المعصومية التي ينشدها.
* * * إننا أمام عقدة سيكوسياسية غائرة في النسق الثقافي الذي يبشر به الإسلام السياسي الحاكم في العراق؛ غير أن "الأسلمة" في الواقع اتجاه ايديولوجي يتجاوز قضية المرأة إلى كل مناحي الحياة الاجتماعية. فالعراق بات يعاني أيضاً من أسلمة السياسة والاقتصاد والتعليم والحريات والثقافة والعمارة والأزياء والزمن، بل وحتى أسلمة الطعام والماء والهواء والأحلام!! ولذلك فإن عملنا الفكري والثقافي يجب أن يتوجه أولاً وآخراً إلى مواجهة ما يسمى بـ"تديين الحياة المدنية" بوصفه نوعاً من الأسطرة المجتمعية التي ستبقي إنساننا العراقي خارج فاعليته الواقعية المرجوة، منكفئاً وأسيراً مزمناً لمشاعر ذنب قهرية لا وجود موضوعي لها. علينا أن لا نملّ من التبشير المنهجي بفكرة أن الدين بحد ذاته منظومة أخلاقية سامية يمكن أن يكون لها دورها الإصلاحي البنّاء إلى جانب المنظومات الثقافية الأخرى في المجتمع، أما التديين (أو التأسلم أو الأسلمة) فهو استثمار استبدادي للعواطف الدينية غايته إدامة وتأبيد سلطة الأكثرية اللاعقلانية المالكة على الأكثرية المحرومة الفاقدة. إن اصطفافنا لصالح حرية المرأة وكرامتها يعني أولاً دعوتنا لتحرير عقلية الرجل من سيكولوجية الوصاية التي ابتلى بها. فبالتأكيد إن وصاية إنسان على إنسان أو جنس على آخر أو طبقة على أخرى أو أمة على أخرى إنما هي جميعاً نتاج مؤسساتي أدامته وتديمه قوى الاحتكار الاقتصادي والديني. ونحن لا نملك اليوم إلا أن نسهم ولو بالقدر الأدنى في الحد من عملية تزييف الوعي الاجتماعي التي يتعرض لها الفرد العراقي. وهو إسهام قد يبدو محدود التأثير إلى حد كبير في هذه اللحظة الملتبسة والمأساوية من تأريخ العراق، لكنه بلا شك سيسهم بدرجةٍ ما في حماية الذاكرة الاجتماعية للعراقيين من انقراض مفاهيم عزيزة علينا جميعاً وعلى طوابير لا نهاية لها من عقلانيي بلادنا الراحلين والماكثين، أقصدُ بها مفاهيم التنوير والعقل والحرية والانعتاق والتقدم والمساواة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قدمتْ هذه الورقة ضمن الندوة الحوارية المعنونة (من أجل أن لا يكون مستقبل المرأة العراقية كحاضرها) التي أقامتها مؤسسة المدى ببغداد في 18/2/2012م.
|