.
المقاله تحت باب في السياسة في
26/02/2011 06:00 AM GMT
ما تشهده المنطقة اليوم هو لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة، تتفكك فيها صلابة الجمود وتنطلق منها سيولة جديدة، تحمل مع الأمل قدرا كبير من عدم اليقينية واحتمالات الفوضى. ليس غريبا أن التغيير في ليبيا يبدو أكبر تكلفة ودموية منه في تونس ومصر، فقد كان واضحا منذ البداية أن السيناريو لن يكون واحدا ونتائجه لن تتشابه حتى لو أدى كل احتجاج إلى إسقاط النظام القائم، فالسؤال الأكبر هو: ماذا بعد النظام؟ المهم أن شعوب المنطقة اكتشفت، بعد زمن طويل، أن بإمكانها أن تغير نظمها السياسية، وأن زمن سحق الجموع بالأسلحة الثقيلة أو بالكيماوي ودفنهم في مقابر جماعية من دون أن يعرف أحد، قد انتهى؛ لذلك يبدو الاحتجاج الجمعي أقرب السبل إلى فرض التغيير على أنظمة تقاومه، رافضة استيعاب الحراك الاجتماعي أو مطالب الأجيال الجديدة، متصورة أن الأجهزة القمعية قادرة، وحدها، على الحفاظ على «النظام»، لكن الحقيقة هي أنه من دون «شرعية» لا قيمة لأجهزة القمع عندما يقرر الناس أن يخرجوا إلى الشارع. في البلدان التي لا يبدو الأمر فيها متصلا بديكتاتورية تحكم منذ عقود، يبدو أن حراك الشارع يريد أن يستثمر ضعف النظام لا قوته، هشاشته لا صلادته، من أجل فرض تغيير في سلوك السياسيين أو في السياسيين أنفسهم. هذا ما يحدث في العراق وهو يصحو على وقع احتجاجات شعبية متزايدة انطلقت في الجنوب والشمال، في الكوت والسليمانية، وكان هدفها تذكير الطبقة السياسية بأن زمن الانتظار قد انتهى وأن الشارع لم يعد يتحمل مزيدا من السلوكيات المنفرة واللامسؤولة التي مارسها السياسيون طوال الزمن الماضي. لقد أدت الاحتجاجات إلى فرض استنفار في أوساط الطبقة السياسية وأحزابها وإلى تقديم تنازلات مهمة لم تكن مطروحة للنقاش، لا سيما بإلغاء ما كان يسمى المنافع الاجتماعية للرئاسات. من الواضح أن اكتشاف الشعوب لآلية الاحتجاج المحمية بالتغطية الإعلامية ومراقبة العالم الخارجي كان يعني نهاية لزمن انصراف السياسيين عن صوت الناس ولامبالاتهم، وتذكيرا بأن هروبهم من المحاسبة الدستورية والقانونية لن يمكنهم من الهروب من محاسبة شعبية قد تأخذ شكلا أكثر قسوة وتراجيدية. بدأت الاحتجاجات في العراق في لحظة كانت الطبقة السياسية قد أهدرت كل ما لدى الناس من صبر وأمل، ولم يكن غريبا أنها كانت اللحظة التي تشهد إضاعة الوقت في مناقشات ترفية عقيمة حول عدد نواب رئيس الجمهورية الذي هو بذاته رئيس بروتوكولي، وحول صلاحيات مجلس السياسات الاستراتيجي الذي لا يمثل سوى حلقة زائدة لإنفاق أموال الميزانية ومصادرة سلطة البرلمان. كان يعني ذلك أن الطبقة السياسية سائرة باتجاه إجهاض ما تبقى من الآليات الديمقراطية، خصوصا أن ذلك ترافق مع نزوع غير مبرر لبعض أعضاء مجالس المحافظات نحو نسيان واجباتهم الحقيقية والتركيز على مصادرة بعض الحريات الفردية عبر مزاعم تتعلق بحماية هوية البلد. لكن، في بلد قد خرج لتوه من فوضى كبيرة، ودفع استحقاقات كبيرة لم ولن يدفعها أي شعب آخر للتخلص من الديكتاتورية، ومن بينها استحقاق الاحتلال الذي تكاد آخر مظاهر وجوده تنتهي في الأشهر المقبلة، يبدو أن المظاهرات إذا خرجت عن السيطرة قد تقود إلى كارثة جديدة، ربما نتيجتها إنهاء وجود العراق نفسه. لا شك أن لدى المواطنين كل الحق للاحتجاج على سوء الخدمات وفساد الطبقة السياسية، لكن ما يجب أن يدركه الجميع هو أن المظاهرات ليست بديلا للآليات الديمقراطية، وفي البلدان التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية كان الناس يسعون إلى انتزاع رضوخ من الحاكم للمبدأ الديمقراطي ولتداول السلطة، كانوا يريدون المظاهرات كقناة عبور إلى الانتخابات، وليس العكس. وبالتالي فإن بلدا يقر دستوره بالديمقراطية وبتداول السلطة وبالانتخابات كآلية وحيدة لاختيار من يحكم، فإن التظاهر والاحتجاج يجب أن يتجه إلى إصلاح الديمقراطية وأشكال ممارستها لا إلى إسقاط الديمقراطية. وبالتالي فإنه إذا غاب عن الاحتجاج إدراج لمطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة ومحددة لا تقود إلى الفوضى فإن خروج الناس إلى الشارع سيكون عقيما وسيتم توظيفه لمصلحة أولئك الذين لديهم سيناريو واحد هو الفوضى. ليست للاحتجاجات العراقية هوية واضحة، ويبدو أن هناك جماعات متباينة، بل ومتناقضة، تريد الخروج إلى الشارع، فمن شيوعيين يعتبرون «البعث» ألد أعدائهم، إلى بعثيين سابقين يريدون الانتقام بأي ثمن، إلى إسلاميين يدعون لخروج الاحتلال، إلى علمانيين يدعون إلى كبح الإسلاميين، إلى مؤيدين لبقاء الأميركيين زمنا أطول من أجل السيطرة على العملية السياسية، إلى غالبية هدفها الوحيد هو تحسين وضعها الحياتي. السؤال هو: هل يمكن لتلك الغالبية ألا تسمح للأقليات ذات الغرض السياسي بسرقة احتجاجها ووجودها بالشارع؟ هل تمكن السيطرة على مجموعة تريد أن تلفت نظر الإعلام، لا سيما ذلك المعروف بعدائه للعملية السياسية في العراق، من أجل ادعاء أن عنفا قد مورس ضدها من رجال أمن و«بلطجية»؟ إذا خرجت الاحتجاجات عن السيطرة فإن الأقلية الفوضوية تكون قد سحقت آمال الأغلبية التي تريد إصلاحا، وعندما تحل الفوضى يكون الجميع قد انسحقوا والسيادة في الشارع هي لأولئك الذين يمكنهم أن يملأوه برجال ميليشياتهم المسلحين والمعدين لهذا اليوم. وفي عراق حكومته المركزية ضعيفة أصلا، وجهازه المؤسساتي والبيروقراطي والأمني يعاني خللا وعدم اكتمال، فإن تدميرا ما موجود وإعلان «البيان الأول» لن يكون النهاية، بل بداية لانفصال الأطراف عن المركز ولحرب أهلية أخرى حول من يسيطر على ماذا! علينا أن نفكر ليس فقط بحماية الديمقراطية عبر إصلاحها، وتأهيل الطبقة السياسية عبر محاسبتها، بل وأيضا إنجاح الاحتجاج عبر حمايته.
|