في سردية الوجع العراقي

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/08/2010 06:00 AM
GMT



 (هذي قسمتي من الله يا حادي) - حضيري أبو عزيز

بطش الوالي بجميع الحلاقين في المدينة. فبادر الحلاق الأخير قائلاً؛ سيدي الوالي، السر الذي بيني وبينك في بئر عميق. عندها كشف الوالي عن قرنين، وبلباقة استمر الحلاق بأداء عمله. ومع مرور الأيام راح الحلاق يعاني من انتفاخ في البطن، حتى غدا فاضحا. ذات يوم خرج في البرية، وقريبا من أحد الآبار، راح يئن بصوت خفيض (الوالي لديه قرون) كررها حتى اختفى الانتفاخ. في أحد الأيام جاء راع وصنع نايا من القصب المحيط بموقع البئر، فأصدر نغما يقول: (الوالي لديه قرون).

إنها حكاية (الحلاق والوالي والراعي، واللوازم السردية فيها: السر والقرون والناي)، حكاية قد تحدث في أي زمان ومكان، حين يحتمي الحلاق بالسر حفاظا على حياته، ويحتمي الموظف البسيط بانتظامه في عمله، ويحتمي الوزير بالحرص على أداء مهامه، ويحتمي القائد السياسي بخدمة البلاد والعباد. لكن مسار القتل يتبدى حين يجعل الوالي من القرون أداة للقتل، والوزير من منصبه أداة للإثراء غير المشروع، والسياسي من الشعارات سبيلا للضحك على ذقون الجماهير، والحزبي حين يجعل من الحزب أداة للوصول إلى المنصب والوظيفة، ورجل الدين حين يجعل من الدين وسيلة لإمرار مآربه، فيما تبقى لازمة الحياة والتنميط الذي تزخر به الحياة، حيث ربط الراعي بالناي، والجندي بالسلاح والحاكم بالكرسي والحلاق بالمقص والخياط بالإبرة.

بين نسقين وحادث واحد، تتجلى أحوال الكهرباء العراقية، حيث الإشارة إلى وزير الكهرباء وهو تكنوقراط قيض له تحقيق الإنجاز في فترة قياسية في النسق الدكتاتوري، والمهمة إصلاح الكهرباء المدمرة، والرجل تمت الاستعانة به من قبل المؤسسة السياسية الديمقراطية، للعمل على مواجهة مشكلة الكهرباء العصية على الحل. لكن التجربة المباشرة نجم عنها فشل ذريع وتواصل غريب في تنامي انقطاع الفاعلية والترهل والجمود والتوقف الملفت. حتى تصاعدت الاحتجاجات الشعبية، ليصار إلى تحميل الرجل مسؤولية الإخفاق، بعد أن تم تخصيص مليارات الدولارات من أجل هذه الدلوعة المغناج والتي يطلقون عليها (كهرباء). فهل يرتبط الأمر بالمقارنة بين السيئ و الأسوأ، بين نسق الترقيع ونسق الترويع، بين الهزيل والأكثر هزالة. فهل كتب على العراقيين الدخول في دوامة المقارنة بين السابق واللاحق، الماضي والحاضر، حتى ليتطابق الواقع العراقي مع الدارمي الذي يقول؛ (سبحه ولحايا طوال ومحبس عقيقي، بدلنه بالمولاي كلمة رفيقي).

جمهورية الخوف وجمهورية الفوضى

احتمى وزير الكهرباء من سلطة الاجتثاث بسر الصنعة والخبرة والكفاءة، لكن النسق السائد بدد هذا السر، وجعل منه نهبا للتجريح والتقريع والانتفاص، وهو القادم من حقبة (الخوف يعدل الشوف). فقد تعرض الدال (الكفاءة) ولواحقها إلى هجمة شرسة من المضمر النسقي، حيث الاصطفاف الطائفي والتقسيم الحزبي والانحياز العرقي. وغاب الاستهلاك الجماهيري لــ (الديمقراطية)، لتبقى رهنا وفق تفسيرات النخبة السياسية الراهنة، حتى فسرت انتفاضة أهل البصرة والناصرية الكهربائية، وبعد ماراثون أيوبي، يعز على شعوب العالم طرا، بالـ (الشغب). وهكذا تتبدى قرون الوالي القاتلة تلك التي طاشت رصاصاتها حتى قتلت مواطنين عراقيين، اقترفوا ذنب التفسير الخاطئ للديمقراطية، فماذا يعني غياب الخدمات لسبع سنين، كيف عاش أجدادنا؟ ما هذا الدلع والعجالة؟ لماذا نسي العراقيون أن الصبر مفتاح الفرج؟ لقد عشتم من غير كهرباء وطنية لسبع من السنوات، فلتعيشوا سنتين إضافيتين! فهل هي لازمة الراعي بالناي والجندي بالسلاح والعراقي بالكهرباء! وإذا قالت حذام فصدقوها، باعتبار الخضوع لخطاب المؤسسة الرسمية، فيما يبقى التأثير الفعلي، مجرد مقالات تدبج في هذه الصحيفة أو لقاءات في فضائيات، أو نكات وآهات يتداولها العراقيون خارج نطاق المنطقة الخضراء. حتى تنادت زايرة موحة؛ (شبعنه ضيم من المغراطية)، أما حجية صبيحة فقد لاذت بالصمت خشية اتهامها بالإرهاب. والذي لا يعجبه فليشرب من مياه دجلة التي غدت آسنة تعاني الانكسار والمرارة. إنه الكمد الذي يغرسه طيف الحجاج الذي أعلنها (من تكلم قتلناه ومن سكت مات كمدا).

الضحك وسيطا تداوليا

حاولت المعارضة الحكومية ركوب موجة الكهرباء واللعب على أنغامها، عبر بث شفرات التعاطف مع الشعب العراقي، الذي يعاني من الحر الشديد والغياب المفجع للخدمات. إنها المحاولة للإمساك بسر اللعب في حقل التقرب من الشعب، عبر استثمار دلالة الفراغ، وتقديم النموذج البديل القادر على المبادرة، إلا أن طابع المناورة يبقى فاضحا. إلى الحد الذي لم ينجم عنه سوى ضحك العراقيين، والذي يتماثل مع صوت ناي الراعي، ولكن بصوت (ناي الضحك)، فكان دلالة للمواجهة وحفز آلية تحقيق الانتصار وشفاء الغليل، على من جاء يتوسل جماهيرية (النص)، ليجعل منه متوافقا مع الآلام والأحزان والعقم واللاجدوى التي نزلت على أم رأس العراقيين. الحكومة تستحضر القرون لإخافة الناس، والمعارضة الحكومية تستحضر (بئر الكذب) لحصد المزيد من الانتفاع، والناس تعتمد (ناي الضحك) كأسلوب كشف إنه توسط دلالة (القرون، البئر، الناي) حيث مضمون المسخ، ذلك الذي يطغى على المجمل من المعاني.

كل يستحضر رمزه الثقافي، صاحب السلطة ينادي (كأنه قميص عثمان)، باعتبار مواجهة الاعتراض الدائب والدائم من قبل القوى السياسية والقوائم الحزبية المنافسة والشعب. والسياسي المعارض يحشد (حصان طروادة) مستخدما ما هو متاح وممكن في تقويض مكانة الخصم ومداعبة عواطف الجماهير، والمواطنون الذين وعدوا بحلم الديمقراطية المجهض، يرفعون شعار(لطم شمهودة) حيث الخيبة وحصاد الريح.

انتفخت أوداج المنتفعين من العملية السياسية، فيما انتفخت بطون العراقيين من الألم والحسرة. كبرت ثروات المنتفعين واللصوص وبالمقابل كبرت مساحات المزابل والأنقاض. الرسمي يبرر الخلل تحت دعوى التراكمات التي خلفها النظام السابق، والعمليات الإرهابية. والشعبي لم يعد أمامه سوى صب جام غضبه على الديمقراطية، تلك التي جلبت عليه كل هذه الويلات. لقد توقف الشعب العراقي عند مستوى التداول للوسائل الديمقراطية من؛ انتخاب وحرية تعبير وتداول للسلطة، وتصدرت مقولات من نوع تحفيز الواقع سعيا إلى التغيير والانتقال من التسلط إلى الحرية، لكن العنف بقي السيد الأكبر، في أعقاب فشل المؤسسة الرسمية في مواجهته، بل أن أعراض الخلل تتبدى في توسع مدى البطالة والتي راحت تشمل القطاع الأوسع من القوى العاملة، حيث الربط المباشر بين الوهن والفساد وأوضاع الاستبعاد والإقصاء الصريح لفئات من الشعب، بناء على الفروض الحزبية والطائفية والعرقية. حتى غدا الإيهام متصدرا على حساب الواقعي والأصيل الذي يحفز مخيلة المجتمع. وإذا كان الظن السائد يتمحور حول وظيفة الديمقراطية بحل العقد السابقة، والانفتاح على نظام التغير، باعتبار تغير الأسماء والشخوص السياسية، وانتظام الفعل الديمقراطي، فإن المفارقة في المجال العراقي، كانت قد انجزت العكس، حيث الحضور الكثيف لأسماء بعينها في المؤسسة السياسية، والتغير اللافت في طريقة التعاطي مع الديمقراطية، تلك التي تتسع حينا وتضيق في أخرى، وكأن تصميمها يقوم وفق مقاس الشخصية السياسية، تلك التي تتحصن بها عند اللزوم، فالديمقراطية هنا وبحكم ارتهانها من النخبة السياسية تتحول من صانعة معنى، إلى مجرد علامة أيقونية، حيث التغييب المقصود لمسار التغيير. و(احاه يانار قلبي)؟