جدل الإهانة والكبرياء في الحياة العراقية

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
18/07/2010 06:00 AM
GMT



هل نبالغ إذا وصفنا حياة الفرد العراقي ضمن الإطار السوسيوسياسي بأنها سلسلة متناسلة من إهانات قصدية يومية، مصدرها السلطة بنوعيها المحلي والكولونيالي معاً؟ وهل نتوهم كثيراً حينما نقول ان هذه الإهانات المفروضة، غالباً ما كانت تُقاوَمُ بدوافع متأصلة تـنشد الكرامة والعزة والكبرياء الوطني، نابعة جميعاً من دواخل هذا الفرد؟!
تمارس سيكولوجية "الإهانة" وظيفتها بين طرفين. فمرتكب الإهانة يطبق ستراتيجيات سلوكية لإذلال الطرف الآخر وثلم كبريائه وتفتيت احترامه لذاته، سعياً إلى إضعافه معنوياً وحرمانه من موارد القوة النفسية، وصولاً إلى تركيعه واستسلامه. أما متلقي الإهانة، فيشعر بتدهور قيمته الذاتية، وفقدانه الهيبة والاعتبار، وبأنه مستباح وعاجز عن مواجهة قوى تهدر آدميته؛ دون أن يعني ذلك استسلامه بالضرورة، إذ يعتمد الأمر على موقفه الإدراكي من الإهانة، وإلى أي مدى يسمح لها بالتغلغل إلى أعماقه أم يتمكن من تحييدها وتركها مهزومة عند أسوار الذات الحصينة!
وقد قُسر الفرد العراقي طوال العقود الخمسة الماضية على تجرع يومي لنمطين من الإهانات: "العقلية" و"الجسدية". فملايين العراقيين خلال حقبة البعث جرى قمع نزعاتهم الحرة للاعتقاد والاحتجاج عبر إبادتهم جسدياً في غرف التعذيب والمقابر الجماعية وساحات الحروب، أو خنقهم معنوياً بإرغامهم على الهجرة أو اعتزال المشاركة السياسية العامة أو اضطرارهم المهين لبيع إراداتهم مجاناً لتبقى رصيداً "لا ينضب" في شركة الحزب الأوحد؛ فضلاً عن سياسة التجويع والإفقار والحرمان وتدمير النظام الصحي ومنظومات الكهرباء ومياه الشرب وبقية البنى التحتية، التي ابتدأت مع فرض العقوبات الاقتصادية الدولية عقب احتلال الكويت 1990، وهي سياسة لا تزال نتائجها المأساوية متواصلةً حتى اليوم بالرغم من الزوال الرسمي لتلك العقوبات.
ثم جاء الغزو الأميركي 2003م ليهين عقول العراقيين ومشاعرهم مرتين: إذ أخضعهم لحكم أجنبي مباشر، وسلبهم في الوقت نفسه حق إنجاز التغيير السياسي المنشود بأنفسهم بالضد من تقاليد تراثهم الفكري الراديكالي العميق بشقيه اليساري والديني؛ فضلاً عن إشعارهم بأنهم أصبحوا رهائن لعصر أميركي طويل، بسجونه المذلّة، وعرباته العسكرية الجاثمة على أعز ذكريات المكان والتأريخ، وممارسات جنوده القادرين في أي وقت ومكان على انتهاك كرامة المواطن دونما مساءلة أو عقاب. كما جاءت سياسة هذا الاحتلال المتمثلة باستيراد بيوض "الإرهاب" وإعادة تخليقها في مفاقس لوجستية محلية، وبتأجيج الطائفية السياسية باستخدام تكنيكي "مجلس الحكم" و"فرق الموت السلفادورية"، لتؤدي إلى تكريس الصورة النمطية المجتمعية القائلة بعنف الشخصية العراقية وتمردها ودمويتها، الأمر الذي خلّف وصمةً جديدة في إدراك العراقيين لذاتهم الاجتماعية، انسحب بالضرورة على أسلوب إحساسهم بسمعتهم وكبريائهم الوطنيين.
أما آخر الإهانات العقلية، فتتمثل بالازدراء والتجاهل وتناسي الوعود الذي ما برحت تمارسه الأحزاب الفائزة بالانتخابات النيابية الأخيرة في آذار 2010، حيال ملايين المواطنين الذين أدلوا بأصواتهم لصالحها، إذ تواصل هذه الكيانات السياسية عقد تفاوضاتها العصابية منذ شهور دون أدنى أشارة إلى أن الهدف هو إنقاذ البلاد واحترام كرامة الناخبين، وليس تقاسم السلطة أو عدّ الناس "مطيةً" للوصول إلى كراسي الحكم فحسب. وفي مقابل كل ذلك، تؤكد شواهد اجتماعية يومية كثيرة أن الفرد العراقي دأب على تحييد كل هذه الإهانات المتراكمة دون أن يسمح لها بأن تصبح جزءاً من نسيجه الإدراكي لذاته. فهو يشعر بالإهانة التأريخية التي ارتكبت بحقه دون أن يفقد في الوقت ذاته طاقة "الاعتزاز الوطني" التي لطالما اتسع التعبير عنها بأساليب متنوعة كالولع بترديد النشيد الوطني، أو تعليق العلم العراقي على الصدور، أو مظاهر الفرح الهستيري عند تحقيق انتصارات في كرة القدم، أو حينما ضُرب الرئيس الأميركي بالأحذية وسط بغداد، في تفاعل نفسي جدلي يُظهر بجلاء كيف يمكن للإذلال أن ينتج الرفض والكبرياء! ولنأخذ مثالاً واحداً على هذا الجدل من واقع الحياة العراقية.
((الوطن فكرة، قبل أن يكون جغرافيا أو ناسا)): عبارة لم ينطقها فيلسوف أو شاعر أو سياسي مُضطهَد، بل قالها صبي عراقي في الخامسة عشرة من عمره، ولد في بغداد، ويجيد العربية والكوردية بالطلاقة نفسها، يعلـّق صورة الشاعر "الجواهري" في غرفته، ويردد بشكل وسواسي مع نفسه أغنية "بغداد لا تتألمي" لكاظم الساهر. كنتُ حاضراً في بيتهم قبل نحو ثلاث سنوات حينما هتف في فورة حماسه لإقناع أبيه بعدم ترك بيتهم في بغداد واللجوء الى ملاذ مؤقت في دولة مجاورة: ((أنا أحب بغداد، هي وطني، ولا أتصور نفسي مرتاحاً أو سعيداً في أي مدينة أخرى غيرها!)). وحينما لفت أبوه انتباهه الى حوادث الخطف والقتل والتفجير والتهجير التي انتشرت بنطاق واسع وقتها في بغداد، قال الصبي: ((هذا صحيح يا أبي. يبدو أننا أحياناً لكي نبقى على قيد الحياة، نضطر أن نترك أعز الأشياء تموت في دواخلنا.. ونرحل إلى شاطئ السلامة!))؛ فأكمل أبوه بعد أن طفرت الدموع من عينيه: ((ولكي تبقى هذه الأشياء العزيزة حية في دواخلنا، فلربما يكون الثمن هو أن نـُقتـَل بشكل مفجع دونما ذنب أو مبرر!)). إن تحليلاً محايداً لبنية هذه الحوارية، سيفضي الى عدد من النتائج الفكرية، أقترح تعميمها على الحراك المجتمعي في العراق، من باب الافتراض العلمي وليس اليقين الجازم، حتى يثبت العكس:
* إن جيلين يفصل بينهما أكثر من عقدين من الزمن، أمست توحدهما نظرة ثاقبة نحو جدلية الحياة والموت، باتفاقهما إن الحياة يمكن أن تكون موتاً، والموت حياة ً، في لحظات مصيرية من حياة شعب؛ وبمعنى أدق، أن أقصى درجات التعرض للإهانات والصدمات النفسية قد أدى الى تقارب إدراكي فريد بين الآباء والأبناء، الى حد التوحد في نظرتهم لمعنى الوجود.
* إن سيكولوجية "الكبرياء الوطني" تتخذ مضموناً أشد عمقاً وتركيباً متى ما فقد الانسان أمنه النفسي والجسدي وحوربت هويته الاجتماعية، حتى يغدو تفكيره بالوطن وتمجيده له نوعاً من آلية دفاعية يستقوي بها على الاستباحة المطلقة التي يتعرض لها مصيره الشخصي في كل لحظة. يصبح حينها مفهومُ "الوطن" خطَ الدفاع العقلاني الأخير، والتعويذة الرومانسية المستميتة، أمام أسراب النمل الأبيض الناهشة لجدران البيوت.
* إن شعباً (بضمنه الأطفال) قادراً على التفلسف بهذه الطريقة، يكون قد نجح في تأسيس جسر متين فوق هوة العبث الدموي التي تريد ابتلاعه، ولربما قد حقق نجاته سلفاً ما دامت كل مبتكرات إفناء الحياة لم تستطع أن توقف دافعيته نحو صيانة قيم الحياة. ولعل الطبيعة البشرية "الايجابية" قد وجدت برهاناً ساطعاً لتحققها وأحقيتها، على يد الأغلبية المتحضرة من بشر العراق.
هاجر هذا الصبي مع أسرته من بغداد إلى دولة بعيدة، لكنه ظلّ مواظباً على مراسلتي طوال هذه السنوات. كتب لي باقتضاب في آخر رسائله بالايميل: ((اطمئن يا عمو، فالوطن كما تصورتـُه تماماً، هو فكرة حميمة، نحملها وتحملنا أينما ذهبنا. قد تكون فكرة متعبة أحياناً ولكنها ضرورية، لأنها تشبه الهواء...والكبرياء!)).