ماذا تبقى من مشروع الدولة الوطنية؟

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
27/05/2010 06:00 AM
GMT



الحكمة السائدة في الدوائر الأكاديمية الغربية منذ سنوات هي أن «دولة - الأمة» (Nation - State) آخذة بالتفكك تحت ضغط اتجاهين متصاعدين ومتناقضين هما العولمة والمحلية، ومن هنا تم نحت مصطلح «العولمة - المحلية» (Glocalization) للإشارة إلى هذا التطور التاريخي التدريجي الذي أخذ ينخر أساس «دولة - الأمة» بوصفها وليد الحداثة الغربية التقليدية ورأسمالية القرن التاسع عشر. لقد أصبح هذا التحول محسوسا اليوم في البلدان المتقدمة عبر تراجع دور الدولة في قطاعات واسعة وفقدانها السيطرة على مجالات اعتادت السيطرة عليها، ابتدأ ذلك أساسا في حقل الاقتصاد حيث ظل مشروع «دولة - الأمة» مقترنا بمفهوم الاقتصاد القومي الكلي الذي تلعب فيه الدولة دور المنظم والموجه للحركة الاقتصادية الداخلية، وصار نفوذ الشركات متعددة الجنسيات أو العابرة للقوميات (وهو مصطلح أدق علميا) يتجاوز الحدود القومية وقدرة الحكومات على التأثير.
لقد بتنا نسمع بشكل متكرر شكوى الناخبين الغربيين من أحزابهم التي باتت نسخا مشابه بعضها لبعض، وأن يمينها ويسارها يمارسان سياسات متشابهة، لكن الحقيقة هي أن سيطرة الدولة على الاقتصاد باتت أضعف من قبل، وقدرة الحكومات على توجيه حركته صارت أوهن بكثير. وانسحب ذلك على قطاعات ذات صلة، وبشكل خاص الخدمات الاجتماعية. فالدولة اعتادت أن تستمد مشروعيتها من دورها في إعادة توزيع الثورة، وهو في البلدان الرأسمالية يعني تقليل الآثار الاجتماعية لعدم المساواة الاقتصادية، وبلغة الماركسيين هو محاولة تخفيف الأعباء التي تتحملها الطبقات الفقيرة من أجل الحفاظ على مشروعية للمجتمع السياسي القائم الذي تحتل فيه الطبقات الغنية موقع المهيمن. وفي الغالب تلجأ النخب السياسية عندما يستحيل عليها لعب هذا الدور إلى إجراءات قمعية في التعامل مع النقمة الشعبية لدى الفقراء أو إلى حرف انتباههم نحو قضايا مثل الصراع مع الخطر الخارجي أو الأصالة الثقافية أو الرسالة التاريخية، وما إلى ذلك من شعارات.
انسحاب الدولة عن دورها الاجتماعي كانت له آثار بالغة، وتسبب في فراغ ملأته قوى اجتماعية بديلة كالكنيسة أو المسجد، وقد يستغرب القارئ إن عرف أن هناك دراسات تناولت صعود الظاهرة الطائفية في الولايات المتحدة، واتجه التحليل فيها إلى ربط هذا الصعود بالسياسات «النيوليبرالية» التي تبنتها إدارة ريغان، وتراجع دور دولة الرفاه، ونجاح المؤسسة الدينية في لعب دور المخفف للمعاناة وتقديم بعض الخدمات الاجتماعية من أجل كسب الأتباع.
الناس ميالون بطبيعتهم إلى التماهي بهوية جماعية معينة، وهي عادة ما تكون تلك التي يجدون أنها تخدم حاجاتهم الحياتية أو مصالحهم. وللسبب نفسه نجح الإسلام السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية في أن يتحول إلى مركز جذب للفقراء والعاطلين عن العمل واليائسين من المستقبل. وما يحصل اليوم في أميركا عبر ظاهرة أوباما، هو العودة إلى التراث التقليدي حول دور الدولة ومحاولة تخفيف بعض النتائج الكارثية للسياسات النيوليبرالية، وإعادة توزيع الثروة بطريقة تخفف من حجم معاناة الطبقات المتوسطة والفقيرة كما أظهر قانون الضمان الصحي مؤخرا. ولذلك يواجه أوباما هجوما حادا من اليمين الأميركي المتحالف مع الرأسمالية الكلاسيكية، الذي يحاول حرف الأنظار نحو معارك بديلة كالصراع مع المسلمين أو المهاجرين أو الرسالة المسيحية.
في منطقتنا بشكل خاص، وفي بلدان - مثل العراق ولبنان وأفغانستان - يفترض أنها تجاهد لإعادة بناء «دولة - الأمة»، تبدو المعضلة أكبر، فكأننا نحاول الآن أن نبدأ مشروعا انتهى مفعوله في أماكن أخرى من العالم. لقد ارتبط مشروع «دولة - الأمة» بوضع سياسي واجتماعي ونمط من التطور التقني - المادي، تجاوزته الظروف الراهنة. فإحدى أفضل أدوات بناء الأمة خلال القرن العشرين كانت التلفزيون الحكومي، وقدرة الحكومة على احتكار السيطرة على الإعلام والتعليم ووسائل التثقيف الجماهيري الأخرى، وبالتالي بناء المجتمع الجماهيري الذي يرتبط ذهنيا بمجتمع وطني موحد. لكن حتى هذه الوسيلة ما عادت ممكنة مع تطور الفضائيات والإعلام الإلكتروني، وتحديدا الإنترنت، والحرية التي بات يمتلكها المتلقي في اختيار ليس فقط قناته التلفزيونية بل وأيضا المصدر الذي يتلقى منه الأخبار والمعلومات.
الدولة ببساطة فقدت القدرة على السيطرة على المعلومات، وبالتالي على التحكم في المعرفة، وهي، إن استعرنا من فكر فوكو، أحد أهم عناصر السلطة. فالقدرة على إنتاج المعرفة هي قدرة على إنتاج السلطة.
ثم مع تضخم ديموغرافي يبدو خارجا عن السيطرة، ومع تبعية اقتصادية تجعلنا أسرى مطلقين لما يخرج من باطن الأرض الذي لم يكن أكثر من مصادفة لم نصنعها بل أصبحنا صنيعتها، فإن بناء مجتمع قومي قادر على تنمية هوية مشتركة والتخفيف من النتائج الاجتماعية للفجوة الاقتصادية بات أمرا شديد الصعوبة. ورغم أن الدول النفطية لها حظ أكثر من غيرها بسبب ما يتوافر لديها من سيولة نقدية تسهل لها بناء مشاريع جديدة، فإنها سيولة عادة ما يتلاشى الكثير منها في صراع السلطة، كما هو حال العراق.