العراق: من صراع المكونات إلى صراع الإرادات

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
13/12/2009 06:00 AM
GMT



إذا كان هناك من اختراق حقيقي نتج عن قانون الانتخابات الأخير، فإنه تمثل في إنهاء شكاوى الأطراف الممثلة للمكون السني من مسألة التهميش، وكانت المفارقة أنه في الوقت الذي ظل السياسيون والمواطنون المنتمون لهذا المكون يشككون في الدستور بل إن محافظاتهم هي فقط التي صوتت ضده في الاستفتاء الدستوري، فإن هذا الدستور هو الذي حمى مطالب السنة ومنع تهميشهم بتحالف المكونين الآخرين واضطر الجميع إلى الدخول في عملية مساومة طويلة تحت قناعة أن تخطي المطالب السنية حتى لو كان ممكنا قانونيا وإجرائيا فإنه سيبقي العملية السياسية عليلة وسيفتح الباب لشكاوى مستقبلية تسهم في إضعاف مشروعيتها. لم يتمثل الاختراق فقط بتكييف القانون لاحتواء اعتراضات نائب الرئيس، بل وبزيادة لمقاعد هذا المكون لم يكن حتى بعض السياسيين السنة يتوقعونها ليقارب وزنهم التمثيلي داخل البرلمان 27% في الوقت الذي تراجع فيه الوزن التمثيلي للمكون الشيعي إلى 49% واحتفظ المكون الكردي بنسبة 22% التي تتجاوز أيضا الحدود الدنيا للمطالب الكردية. وبغض النظر عما إذا كان هذا التوزيع يعكس الأوزان الديموغرافية الحقيقية فإنه كرس حقيقة أن بقاء العراق موحدا ومستقرا سيفرض عدم تجاوز أي مكون وأن حقبة «الحكومة الشيعية» قد تجاوزها الزمن خاصة مع الانقسام العميق داخل المكون الشيعي واحتراق الكثير من سياسييه ليس فقط بفعل فشلهم في تقديم مشروع وطني نهضوي ينتهز الفرصة التي أتيحت لهم ليكونوا في السلطة لأول مرة في تاريخ العراق الحديث، بل فشلهم أيضا في التعبير عن طموحات ورغبات ناخبيهم والدفاع عن مصالحهم وحياتهم. وقد كانت تفجيرات الثلاثاء الأخيرة وما تلاها من ردود أفعال عالية الصوت وخالية المضمون، وممارسات تحاول توظيف دماء الأبرياء في التنابز السياسي وتسقيط المنافس تجسيدا لهذه الحقيقة.
إن المكون السني يدخل الانتخابات القادمة، على تعدد أحزابه، بشعور المشارك الحقيقي الذي يمكنه أن يحدث تحولا جذريا في اتجاهات البلاد المستقبلية، وقد تطلب الوصول إلى هذه النقطة تضحيات بشرية ومادية كبيرة دفع العراق ثمنها ودفعه بشكل خاص مواطنون أبرياء ينتمون إلى هذا المكون، فقد كان اختطاف السنة من قبل المتطرفين وخوضهم مباراة صفرية ضد الجميع، الأميركيين والشيعة والأكراد، أكبر من أن يتحمله المواطنون العاديون الذين تم زجهم بغفلة من الزمن في ثلاث معارك دموية: معركة ضد الاحتلال فشلت لأنها لم تبن على مشروع وطني يستقطب الآخرين. ومعركة طائفية خاضها متطرفو السنة مع متطرفي الشيعة. ومعركة قومية مع الأكراد. أيّ من هذه المعارك لم يتم ربحها بالعنف، الأمر الذي أدركه السياسيون السنة المعتدلون فأخذوا يراهنون على العملية السياسية التي رفضوها في البداية لكي تكون معبرهم إلى إسماع مطالبهم وإلى التأثير في أجندة المستقبل. لقد انتهى عمليا صراع المكونات حول أوزانها وحجومها لصالح معادلة أقرها القانون الانتخابي الأخير لتعكس واقعا سياسيا جديدا، والصراع الذي بدأت آفاقه تلوح عبر العنف والتفجيرات التي شهدناها في الآونة الأخيرة وعبر الجدل السياسي الذي سيزداد احتداما في قادم الأيام، هو صراع الإرادات حول أي اتجاه سيسلكه العراق في المستقبل، وهو صراع لا تتحكم فيه الأوزان الديموغرافية فقط، بل طبيعة التحالفات الداخلية والخارجية؛ لأنه يرتبط بالصراع الاستراتيجي الأكبر في المنطقة، ويتعلق بالقوى الإقليمية الكبرى وبطبيعة المصالح الدولية التي تتهددها محاولات تغيير توازنات القوى وتحدي الوضع القائم، وهو صراع هائل في حجمه وموارده ووسائله، محوره القوة والنفوذ وبالتالي لن يسيطر عليه جدل أخلاقي حول الحقوق والعدالة والمساواة والشراكة، وبالتالي فإنه سيكون عنيفا وطاحنا يتجاوز السياسيين الصغار ومصالح الطوائف ولا يصمد فيه إلا القادرون على فهم المعادلة بطريقة صحيحة.
إن الصراع القادم يتركز حول أي عراق يريده الآخرون، هل هو عراق الثمانينات الذي لعب دور البوابة الشرقية للوطن العربي وخاض حربا مؤلمة ومدمرة ضد إيران انتهت إلى إفلاس البلد وتحطيم طبقته الوسطى وتفكيك نسيجه الاجتماعي؟ أم عراق التسعينات المعزول عن محيطه والعالم والموضوع في صندوق محكم الإغلاق ليعاني حصارا اقتصاديا وتسلطا سياسيا خانقا؟ أم عراق ما بعد 2003 الذي كان لإيران نفوذ كبير فيه على حساب علاقات طبيعية مع المحيط العربي في الوقت الذي تراوحت علاقته مع الأميركيين واتسمت بالازدواجية ما بين كراهية الاحتلال والحاجة لرعاية المحتل؟ إن أفضل عراق ممكن هو ذلك الذي يتصالح مع محيطه ولا يخضع لنفوذ طرف في هذا المحيط كما لا يخوض حربا ضد أي طرف فيه، وإذا كان معظم العراقيين يرغبون في عراق كهذا بعد أن أنهكتهم سنوات الحرب والصراع، فإن القرار لن يكون قرارهم وحدهم لأن اللعبة تتجاوزهم الآن، كما كانت تتجاوزهم طوال تاريخهم طالما افتقروا لقيادات تمثلهم جميعا وتقدم عراقيتها على أي اعتبار آخر وتعرف طبيعة الصراع وتوازناته ومخاطره..