جدل العلاقة بين الاستبداد والعبودية الطوعية |
. المقاله تحت باب في السياسة لم يظهر مصطلح المستبد الا في القرن الخامس قبل الميلاد، ابان الحرب الفارسية الهيلينية، وكانت كلمة المستبد despot المشتقة من الكلمة اليونانيةdepotes مستعملة بمعنى رب الأسرة، او سيد المنزل، او السيد على عبيده، ثم خرجت الى المجال السياسي، ليوصف بها نمط من الحكم المطلق، الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه بمثابة سلطة الأب على أبنائه في الأسرة، او السيد على عبيده(1). وفي القرن الثامن عشر جعل مونتسكيو (1689-1755) الاستبداد احد الأشكال الأساسية للحكم بموازاة الحكومتين الملكية والجمهورية. فبينما تسود المساواة في الحقوق بين الجميع في النظام الجمهوري الديمقراطي، تتفشى في الاستبداد مساواة من نوع آخر كما يقول مونتسكيو، اذ (يتمتع جميع الناس هنا بالمساواة، لا لانهم كل شيء، كما هو الحال في الديمقراطية، بل لانهم لا شيء، انه إزالة المراتب بوساطة التسوية العامة)(2)، ويتمتع الحاكم في الاستبداد بحرية مطلقة، تتيح له التصرف بلا حدود او قوانين او قواعد، فيما تسري على جميع أفراد الشعب عبودية تسلبهم ابسط الحقوق البشرية، ويخضع كل شيء في حياتهم لنزوات وأهواء ورغبات المستبد، ذلك ان الدولة تختصر في شخصه، انه الدولة كلها. ان الحكم أو النظام الاستبدادي يمثل شكلا من أشكال الاحتلال الكامل للشخص، والاستعمار الداخلي للمجتمع، بنحو يستقل فيه فرد طاغية في التسلط على بقية افراد الشعب، من دون ان يخضع لقانون، ويتحكم في حياة المواطنين، ويحرص على صياغة وعيهم، وتكييف مشاعرهم، وتلوين أحلامهم، بما يكرس سلطته ويمددها على كل شيء، من دون ان يستثني حقلا في البلد من هيمنته. وتطغى في فضاء الاستبداد غلبة الفرد على المجتمع، وغلبة القوة على الإجماع، وغلبة الايدولوجيا على الواقع، وغلبة الكاريزما على المسار الموضوعي للتاريخ، وغلبة الواجب على الحق، وغلبة الحكومي على الاجتماعي، واتساع مفهوم الدولة واضمحلال مفهوم الحرية. وبكلمة موجزة يفضي الاستبداد الى اختزال الفرد في المجتمع، واختزال المجتمع في الدولة، واختزال الدولة في شخص الحاكم. ويتغلغل الاستبداد في المجتمع، وفي العائلة، والجماعات والأحزاب، والمجتمعات، والدول، وان الخلاص من الاستبداد لا يتحقق الا عبر تفكيك نسيجه الكامن في بنية العائلة، وجميع التنظيمات السياسية والنقابية والمهنية. كما يتطلب التحرر من الاستبداد اكتشاف أنماطه في السياسة والاقتصاد والدين والفكر، فالاستبداد السياسي وان كان أبشع ألوانه، لكنه يتوكأ على الاستبداد الديني والاقتصادي والثقافي، فلا خلاص من الاستبداد الا بالخلاص من ثقافة الاستبداد، والمعتقدات والمقولات والمفاهيم، ومجموع الروافد المعرفية التي يستقي منها، وتكمن في اللاهوت الكلاسيكي ابرز روافد ثقافة الاستبداد. وتعود الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتفشى في الاجتماع الاستبدادي الى بنى نفسية واجتماعية كامنة وعميقة في حياة الناس، وهي تشكل مرتكزات وأسس هذا النمط من الحكم، وحسب تعبير الكواكبي (المستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم حر، وهذا صريح معنى: كيفما تكونوا يولَ عليكم)(3). ويرتبط الاستبداد ارتباطا عضويا بالعبودية الطوعية، واستعداد الناس للانصياع للطاغية، وتمجيده، وتبجيله، ورغبتهم في الخضوع له، واستعارة أسماء وصفات الله وخلعها على المستبد، وحسبما يراه الخبراء في الأسس السيكولوجية للسلطة، فإن الجماهير هي التي ترضخ للاضطهاد وتطلب السيطرة عليها، وان الذي يقودها الى ذلك هو متعة الخضوع ولذة الانقياد الراسخة في النفس البشرية، أي ان الناس هم الذين ينذرون أنفسهم للخدمة والعبودية الطوعية. استبداد سياسي أم ديني؟ ويشدد الكثير من الباحثين والدارسين على ان الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، وانه ما من مستبد سياسي الا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، او تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله. ويحكمون بأن بين الاستبداديين السياسي والديني مقارنة لا تنفك، متى وجد احدهما في امة جر الآخر اليه، او متى زال انتفى رفيقه. ويبرهنون على ان الدين أقوى تأثيرا من السياسة إصلاحاً وإفساداً، وان ما من امة او عائلة او شخص تنطع في الدين، أي تشدد فيه، الا واختل نظام دنياه، وخسر أولاه وعقباه(4). ويؤكد مونتسكيو وجود بديل عن القانون الأساس في النظام الاستبدادي، وهو الدين، وانه بالفعل السلطة الوحيدة التي تقف فوق السلطة. وان(الدين في الاستبدادية هو بحد ذاته استبدادي، انه خوف مضاف الى الخوف)(5). وطالما جرى استخدام التأويل التسلطي للنصوص الدينية في تبرير ذلك النمط من العلاقات بين السلطان ورعيته، (فكانت السلطة- عبر العصور- تحاول دائما استخدام الدين لتسويغ التصرفات السلطانية تجاه المجتمع. قال الأمويون إنهم من قدر الله، أو من أمر الله. وقال العباسيون إنهم أقرباء الرسول، وسيحفظون بالتالي دين الرسول أكثر إن وصلوا للسلطة. وقال السلاجقة إنهم ما حاولوا الوصول للسلطة الاّ من أجل نصرة (مذهب أهل الحق)، وقال المماليك إنهم ما جاؤوا للسلطة الاّ ليردّوا عبّاد الصليب، والمغول عن بيت المقدس والحرمين)(6). ان الرؤية الكونية في اللاهوت الكلاسيكي المبنية على المفاهيم العبودية تغذي التصور الرأسي للعالم، الذي يؤسس لشبكة من مقولات الاستبداد، ويكرس التسلط في المجتمع. فقد ورثنا تصورا رأسيا للعالم، يتصور العلاقة بين الطرفين علاقة الأعلى بالأدنى، ولما كان الأعلى اكثر قيمة من الأدنى، وأعلى رتبة وشرفا، فعلى الأدنى طاعة الأعلى، وعلى الأعلى أمر الأدنى، الأعلى هو الأكثر علما، إلهاماً وكسباً، والأدنى اقل علما، ولا إلهام له، وتحصيله محدود بالمهنة والحرفة، الأعلى معصوم من الخطأ، على صواب مطلق، في حين ان الأدنى يخطئ، ويحتاج الى الهداية والرشاد، الأعلى مهمته النظر والتفكير والتخطيط والقرار، والأدنى مهمته العمل والتنفيذ والتحقيق والإجراء، والياقة البيضاء بتعبير الاجتماعيين أعلى قيمة وفضلاً من الياقة الزرقاء، الأعلى بالطبيعة والكسب، بالهبة والتعليم، بالاختيار الإلهي، الفوري او التاريخي، والأدنى أيضاً فرضته الطبيعة، فكل ميسر لما خلق له، ومنذ خلقت الدنيا، الناس أمام ومأموم، آمر ومأمور، قائد ومقود، نموذجها علاقة الله بالعالم كما تصورها المتكلمون، وعلاقة النفس بالبدن، كما تصورها الفلاسفة، وعلاقة النص بالواقع كما تصورها علماء أصول الفقه (7). كما ان العلاقات في هذا النوع من المجتمع هي علاقات عمودية، وليست افقية، بمعنى ان تصور العلاقة بين الله والإنسان دائما يتخذ نمطا عبوديا، يكون فيه الإنسان خانعاً ذليلاً، فيما يبدو الإله قهارا جبارا متكبرا، لا تحضر في هذه العلاقة صورة الله الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، ووسعت رحمته كل شيء، وانما صورة السيد المتعالي المتمرس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب. ويجد هذا النمط العمودي للعلاقة بين الإله والعبد مدلوله الاجتماعي في مختلف اشكال العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فالحاكم غير المحكوم، الحاكم يأمر بما يشاء، وليس للمحكوم الا السمع والطاعة، من حق الحاكم ان يفعل ما يريد في رعيته، إرادته إرادة مطلقة لا يضبطها قانون او تقيدها تشريعات، هو في القمة والرعية في القاعدة، لا يرتقي شخص الى مقامه السامي، الا حينما يفيض عليه بمننه وعطاياه، فيدنيه من قربه، ويمنحه من مكرماته. ذلك ان رعاياه كافة هم ممتلكاته يتصرف بهم بما يحلو له. اما العلاقة بين الاب والابن، والمعلم والتلميذ، والضابط والجندي، والتاجر والعامل، والإقطاعي والفلاح، والرجل والمرأة، فهي دائما علاقة تبعية وخضوع، علاقة امتلاك، الأعلى يمتلك الأدنى، يدربه باستمرار على الانصياع والانقياد، ويتفنن في تربيته على الامتثال، ويتوسل بمختلف الأساليب من اجل تدجينه على التنازل عن حريته. في فضاء الاستبداد يسود أسلوب التلقين في التربية والتعليم، ويجري التعامل مع الطفل في الأسرة، وهكذا التلميذ في المدرسة، باعتباره وعاءً نملأه بمصفوفة نصوص وشعارات، ونحرص على ان يستظهر هذه النصوص ويحفظ تلك الشعارات، من دون ان يبذل أي مجهود عقلي بتدبر او فهم مضمونها، حتى أضحى العلماء هم حفظة النصوص، وليس المجتهدون النقاد الذين يغربلون الأفكار، ويقتلون القديم بحثاً. ويفضي أسلوب التلقين الى تدجين المجتمع وتتخذ العلاقات فيه شكلا عموديا، يمارس فيها الأعلى الاستبداد على من هو أدنى منه، ويغيب الشكل الأفقي للعلاقات الذي يبتنى على المساواة والحرية. وتختنق الحياة السياسية بالاستبداد، بنحو يمسي فيه الكل إما مستبداً يمارس الاستبداد، او يقع عليه الاستبداد، ويصير الكل ممارساً للاستبداد على من هو ادنى منه، الزعيم السياسي على مرؤوسيه من وزراء وغيرهم، وهؤلاء يسقطون الاستبداد على من يليهم في مراتبهم الوظيفية، بنحو يُمسي التسلط نسيجا متفشيا في طبقات المجتمع ومؤسساته كافة، فالتسلط تنتجه السلطة المستبدة، وتصوغ شخصية رعايا وإتباع مجردين من كل ارادة في الاختيار، الاّ إرادة التسلط التي يسقطونها على من هم دونهم، كما ان هؤلاء الأفراد الذين أنتجتهم السلطة المستبدة يمدون هذه السلطة على الدوام بحياتها وكيانها، الذي يفتقر وجودها واستمرارها عليه. فلو لم تصنع السلطة هذا النمط من الرعايا لما تواصل بقاؤها، بمعنى ان الإتباع تتشكل شخصياتهم في فضاء الاستبداد والتسلط، وهم أثر من آثار السلطة ونتيجة لها، مثلما هم المادة الأولى التي يشتق منها تسلط المستبد، وتتكرس سطوته، ذلك ان السلطة تشكل بنية عامة شاملة، يتشبع بها المجتمع بأسره، ويعاد تكوينها باستمرار، في إطار المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وحسب تعبير فوكو فان (السلطة ليست في مكان واحد، انها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد، في صاحب الفرن الذي يبيع الخبز للسجن، ويشعر بالفرح لان السجن موجود). شبكة مفاهيم ويسري التسلط من الحياة السياسية الى العائلة، فتتغلغل مفاهيمه في القيم الأبوية وعلاقات القربى بين الزوج وزوجته والأب وأبنائه، ويتفنن رب الأسرة في مهارات ترويض وإخضاع أفراد أسرته، حتى يمسخ شخصية الطفل، ويطمس ما لديه من تلقائية وعفوية، ويقضي على روح التساؤل الفطري، والنواة الجنينية للنزوع النقدي في تفكيره، ويستأصل ممكنات الإبداع والابتكار في عقله، وتتواصل عملية الترويض والتلقين متوسلة بشتى الأساليب، وطالما تتوكأ على العنف الجسدي، والعنف اللفظي، ومختلف ألوان العنف الرمزي، ويستحيل الى وعاء معبأ بمقولات الخضوع والاستسلام، ورفض كل ماله صلة بالحرية، وتبني ايديولوجيا الاستبداد المناهضة للحرية والدفاع عنها. تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثل نسخة مكررة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظاما ذهنيا، يتجلى في عقلية ونمط تفكير أحادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معاقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق، والتهرب من اية مسؤولية، انها نفسية عبيد، ابرز سماتها الشعور بالدونية والحقارة، والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ اي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دوراً آخر في حياته، لا يعبر عن شخصيته، ولا يمثل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، وانما يعيش على غرار ما يريده المستبد، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع. اذا ترسخ شعور الإنسان بأنه بلا كرامة، وانه شخصية تافهة، فانه يعجز عن المساهمة بأية عملية بناء، او الاضطلاع بمهمة مميزة في الحياة، كما ينطفئ كل ما يمكن ان يحلم به، وتذبل كل أمنية وأمل يستشرف من خلاله المستقبل، والإنسان كائن لا يمكنه العيش والمشاركة في صياغة العالم ما لم يحلم، ويتطلع الى غد بديل، ترتسم فيه صورة مغايرة لواقعه الراهن، وكما يقول ايريك فروم (لا شيء أكثر تأثيرا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من إقناعه بانه تافه ورديء). يحرص الطاغية على تكريس ثقافة استبداد تكبل المجتمع، وتشل فاعليته، تتفشى هذه الثقافة في مقررات التربية والتعليم، ووسائل الإعلام، والخطاب السياسي، والهياكل الإدارية في المؤسسات، والآداب والفنون، واللغة، والرموز والعلامات المستعملة في المجال التداولي كافة. وتسود معظم كتب مرايا الأمراء أو نصائح الملوك والأحكام السلطانية، صورة مخيفة للسلطان، يقول الدكتور رضوان السيد: (ان السلطان عندهم- بل السلطة- أداة قهر، وقهر فقط. ولذلك كان رمزها الأسد والنمر والذئب، لما يتميزون به من قدرة على البطش، والإقدام غير المتردد...)(8)، الخوف هو العلامة الفارقة لثقافة الاستبداد، الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من الحداثة، الخوف من الاختلاف، ذلك ان الاستبداد يبحث دائما عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة، يكتب امبرتوايكو (في الثقافة الحديثة تطري التجمعات العلمية الاختلاف، وتعده طريقة لتطوير المعرفة، بالنسبة للاستبداد، الاختلاف خيانة. الاستبداد ينمو ويبحث عن إجماع عن طريق استغلال مشاعر الناس، وتكريس خوفهم الطبيعي من الاختلاف)، الاستبداد مسكون بالآخر، مصدر الرعب الأبدي، حيثما كان آخر لا يهدأ ولا يقر له قرار، الآخر هو الجحيم، هو السر، هو الظلام والموت. لا تولد هوية، ولا تتشكل خصوصية للأمة ما لم يكن هناك عدو، الوحيدون الذين باستطاعتهم ان يمدوا الأمة بهويتها هم أعداؤها، من هنا يغدو التفسير التآمري هو الأسلوب الوحيد لفهم جميع الخطابات والحوادث والمواقف والقرارات الصادرة من الغير، ولا يقتصر هذا التفسير على ما يتبدى من الأجانب خارج حدود البلد، وانما يعمم لكل ما يحدث في المجتمع المحلي، ويصنف كل قول او سلوك لا يروق للطاغية داخل البلد بانه مؤامرة، لا سبيل للتهاون او المهادنة حيالها، يظل المواطن محاصرا بتهمة المؤامرة، في يقظته ومنامه، وترتد تلك التهمة في نفسه الى حساسية فائقة وحصار ابدي على الذات، حذرا من المس بشيء يعود للطاغية او يرتبط به، مع ان كل شيء في الحياة الاجتماعية والفردية متصل ومرتبط به عضويا، عبر نسيج معقد، متوغل في السياسة والإدارة، والتربية والتعليم، والإعلام، والاقتصاد، والثقافة، والأسرة. يهتم الاستبداد باللغة اهتماما بالغا، ويحرص على إفقارها، وتحويرها وتشويهها، ومدها بقاموس مفردات، وعبارات، وجمل، وشعارات، تغذي كراهية الآخر، وتثير الاشمئزاز والفزع منه، وتعطل الوعي النقدي، وتسد أفق الرؤية المتفائلة للكون والوجود، وتغرق الذهن بكوابيس مرعبة لأعداء مفتعلين، متربصين به كل حين، ويعمم مسخ اللغة وتشويهها الى المقررات الدراسية، فان(كل الكتب المدرسية للفاشية والنازية استخدمت طريقة في الإفقار اللغوي، وإفقار القدرة الابتدائية على بناء الجمل بطريقة صحيحة، هادفة من ذلك الى تحديد أدوات التفكير المعقد والانتقادي) حسب تعبير امبرتوايكو. إكسسوارات الاستبداد البيئة الفقيرة لغويا فقيرة عقليا، خصوبة اللغة وثراؤها بقدر ما تقتل التفكير الساذج البسيط، فانها تحيي وتنمي التفكير المركب، ولا يمكن الوثوق بولادة أفكار تنفتح على ما يعاندها الا حين تغتني اللغة بمعجم يرفدها باستمرار بألفاظ ومصطلحات، تنفتح على فضاء عقلي، يتسع باستمرار لاستيعاب وتمثل كل ما هو جديد، في العلوم والفنون والآداب، ويواكب حركة التطور والإبداع في مختلف مجالات المعرفة، ويساهم في رفدها على الدوام. تطغى في قاموس الاستبداد ألقاب التعظيم، وعبارات التبجيل والتمجيد، وتتضخم الألقاب وتكبر، ولا تتوقف عند حد، ولا تقتصر على كلمات خاصة، وانما تواصل زحفها فتبتلع أسماء الله وصفاته، ذلك ان المستبد يتطلع دائما الى السماء، ويتوق الى انتزاع مكانة الإله والاستئثار بها، باللغة المشبعة بأسماء الله يصطنع المستبد لنفسه عالما يضاهي العالم الربوي، ويوحي له عالمه اللغوي البديل بانه ارتقى الى مقام الهي متسامٍ، وتتعاظم قناعاته كل يوم بأنه تجاوز حالته البشرية، وانخرط في المتعالي، الذي لن يصل اليه احد سواه، ومن الطريف ان احد الطغاة في عصرنا أسبغ على نفسه تسعة وتسعين اسما، مثلما هي الأسماء الحسنى لله تعالى. واثر حرمان الفقهاء من السلطة السياسية، استعار بعضهم ألقاب الخلفاء والسلاطين، بعد إعادة إنتاجها من منظور ديني، واستبدال شيء من كلماتها بألفاظ تشي بدلالات مقدسة، فخلعوا على أنفسهم غطاء لغويا لاهوتيا، يرقى بهم الى مقامات ملكوتية عليا، تلحقهم بمراتب السلاطين، او تتيح لهم تجاوزها، والعبور الى مكانة لا يرتقي اليها الا ملك مقرب او نبي مرسل. ويغرم الاستبداد بالصور والتماثيل، والنصب التذكارية، والموسيقى والغناء، والشعارات والملصقات الجدارية، والرموز الفنية كافة، فيعمل على توظيفها ببراعة ودهاء، فلا تجد ساحة عامة، أو حديقة، أو شاطئ يرتاده الناس، الاّ وزحفت عليه تماثيل وصور الطاغية، وهي تحكي بقسوة صرامته، وبشاعته، وفتكه، ونزعته الدموية، فتارة يتقلد سيفا، وأخرى يحمل بندقية، وثالثة يتمنطق بمسدس، وربما يجمع بينها، مضافا الى انه على الدوام يرتدي بدلة القتال، وتصطف من حوله مجموعة من الإشارات والعلامات، الدالة على التأهب للحرب، والبطش بخصومه ومعارضيه. ان المستبد ينشد حضورا مستفزا، يثير الفزع والرهبة باستمرار لدى الجماهير، ويطمح ان تنوب عنه صوره وتماثيله في الأماكن الغائب عنها، كيما يتحسس الناس وجوده الأبدي بينهم، ويستشعرون سطوته الجاثمة على أرواحهم، ولا ينفك الناس عن الخشية منه، هو معهم حيثما كانوا واين وجدوا، في النهار والليل، في محل العمل والمنزل، في الشارع والسوق والمقهى، في المتنزهات والمنتجعات وأماكن الاستجمام، توحي صوره وتماثيله بتعدد حضوره وشهوده واطلاعه على الجميع، لا تترك شخصا من دون ان تدهمه وتهاجمه، وتغرق ذهنه في ضجيج وصخب متواصل، يغيب وعيه، ويحيل نفسه الى نفس مبتورة معاقة، أطياف المستبد وأشباحه لا تبرح مناسبة او وقتا من دون ان تطارد المواطن، وتزعجه بكوابيس لا تنتهي ولا تتوقف، فتشعره بأن الطاغية كما الإله لا يغيب عنه شيء، وكأنه بمثابة من يعلم السر وأخفى. |