القطار النازل الى البصرة..نصّــــان لاســتــنــبــات الــــذاكـــــرة

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
27/07/2009 06:00 AM
GMT



                          - 1 -
                       من الذاكرة الجمعية
مفتتح:
أرجو ان لا يتوهم قارئ متعجل في ان تصحيفا قد وقع في العنوان الفرعي فحول (الاثبات) الى (الانبات)، ذلك ان حصار (المحو) المطبق علينا لا يترك لنا خيارا الا استنبات الذاكرة من جديد في محاولة إنقاذ نأمل ان لا تكون يائسة.
* قال الجاحظ في رسالته عن (الحنين الى الأوطان):
- كانت تطل علينا دائما خلفية (background) للصور والمنحوتات والمسلات بملامح اثخن قليلا من حقيقتها: فالسعفة مكتنزة متراصة ونهايات أطرافها متساوية ومتصلة ببعضها بخط منحن يلمها، والجذع أقصر وأمتن قليلا.

ربما لأن حدقات عيونهم أكبر من الواقع ومفتوحة دائمة كما تبدو في اللقى المطمورة بين طبقات الطين في وادي الرافدين.
* قال الجاحظ:
- في زمن لاحق، بعد الميلاد، وبعد الهجرة، أعني في الزمن المسفوح، المهدور في الحروب صارت عمتنا (النخلة) لازمة متكررة في الأهازيج والقصائد المفبركة، كانوا يزعقون صباح مساء على شاشات التلفزيون:
(آباؤنا آباؤها
شموخها شموخنا)
ومن خلف الشاشة يسمع ضجيج (البلدوزرات) يقتلع بساتين (العمة) لتكون خنادق تليق بحروب حطمت الأرقام القياسية المسجلة في لوح التكوين الأزليّ:
(السبع العجاف) ثم (السبع الجفاف) ثم (السبع الخناق) ثم (السبع الحداد).. واجتزنا ذلك كله الى أرقام خارج مدى الحساب مخضبة بنجيع الدم والتمر.
قال الجاحظ:
- النخلة أول درس الوجود في أوروك.
- ومحو النخلة أول درس العدم في أوروك.
التقط (مهدي عيسى الصقر) نٌذًر الجاحظ فاقترح في نصه الأخير:
(المقامة البصرية العصرية) زرع أصناف النخيل النادرة مهورا تليق بعرائس أوروك العوانس، كان الصقر يصارع بكفيه المرتعشتين ولسانه الذي عقدته الجلطة  اغتيال النخلة/ الشاهد على دورات الطوفان والخليقة ومواجيد المخمورين بعبق هذه الأرض من أول الحسن البصري وتلميذه المعتزلي الى خلف الأحمر وبشار بن برد ومحمود البريكان ومحمد جبار المعيبد ويونس بن حبيب  وعبد الجبار عبد الرحمن.
* قال الجاحظ:
- سألني صديقي النسّابة:
- كيف البصرة؟
قلت: بخير
قال:
 بخير؟ جفت نهرانها وفاضت دماؤها وتقول: بخير؟
قلت:
- مازال (كاظم) يكتب فيها أعني (ابن الحجاج)، و(ابن عبد الوهاب محمود) مازال يفتش عن منمنمات لرواية جديدة، و(لؤي حمزة)، وقصي سالم علوان، والحاج جياووك، ومزهر ذاك السودانيّ الذي مازال يفاخر على البيضان، فماذا تطلب أكثر؟ وما زال البمبر؟ فماذا تطلب أكثر؟
- 2 -
(من الذاكرة الشخصية)
مفتتح: المدن ثلاث: مساقط لم نخترها لرؤوسنا تتلقفنا من الأرحام بغير إرادتنا، ومدن تكون مدارج لمعاشنا بحكم السكنى فتطحننا فيها الأيام، وثالثة تتغلغل فينا لتعلمنا كيف نتوطن فيها في أزمنة حلمية ندية كغبش الفجر.
لأسباب لا أجهلها أحببت البصرة: شواخصها، تاريخها، ملامح ناسها، لهجتهم، (فالكاف المكسورة في كلمة (كل) على ألسنتهم لها مذاق خاص، وللهمزة المكسورة في كلمة (اربعين) نغم خاص)، بالرغم من انني لم أسكن ولم أقم فيها مدة كافية، ولكن علاقتي الروحية بها وطيدة، لفلسفة ما، ذلك أن الحب الروحي يتجلى في البعد أكثر مما يتجلى في القرب، هكذا علمنا أجدادنا المتصوفة الدراويش: ان تباريح العشق مدخرة للبعيد المنال.
ارتبطت – عندي – البصرة باول الوعي بالأسماء والأشياء الحميمة التي خلقت في النفس ربيعا من المسرات:
- أول الوعي بدرس (اللغة): (سيبويه) رائحة التفاح الزكية المقتولة كمدا على مسالة زنبورية مفتعلة هي بعض التزييف العلمي، (سيبويه) أول التقاطع بين براءة التفاح وخبث الزنبور.
- أول الوعي بالشعر: (السياب) وديوانه المزروع على وسائد العذارى يتنقل بين صدورهن كتعويذة.
- أول الوعي بالسفر: فقد غادرت مدينتي بغداد لأول مرة في عطلة صيفية الى حيث يسكن أقربائي في منطقة (السيف)، في بيت شرقي تزدان باحته (المفتوحة) بالنجوم والقمر.
- أول قارب، أول قطار تتكوم في ممراته أجساد خاكية لجنود غادروا حفيف أسرتهم الناعمة الى جحيم المواضع، فيتحول الليل على أفواههم: (أبوذيات) و(مواويل) و(شخير) يندلق على إيقاع العجلات بين محطات: المحاويل والمسيب والسماوة والبطحة والعشار والمعقل.. يومها أدهشني ليل المحطات المستيقظ الصاخب بأصوات الباعة، وترقب المنتظرين على مقاعدهم وأزيز الحديد.
- أول مكتبة أخذت بخزاناتها العتيدة تتوسد فيها مخطوطات وكتب عتيقة ما ان توقظها حتى يهدر شلال التاريخ، في (مكتبة آل باش أعيان) كان الدكتور غزوان قلقا حائرا: أذ كيف سيحميها ووكالات الأنباء تتوعد بهجوم أمريكي وشيك؟
- أول الوعي بمعنى اختلاف سحنات البشر المتعايشين في محلاتهم، كانت الوجوه والأزياء التي تصادفني في شوارعها مختلفة عما في بغداد: عباءة عراقية، عقال خليجي، سمرة هندية، شعر زنجي مفلفل، قسمات ناعمة بيض لبقايا جالية الأرمن، جوامع، حسينيات، كنائس، وبيوت يهود مهجورة، محلة الصاغة الصبة.. يقول محمد سعيد الصكار في كتابه (القلم وما كتب): وشارع أبي الأسود الدؤلي يقع قريبا من محلة المربد، أعني في محلة (الصبة).
الضمة: الصّبة؟ ما معنى الصَّبة؟
الكسرة: معناها الصابئة.
الضمة: ها... الصُّبة.
الكسرة: أنت لست بصرية... البصريون يقولون: الصّبة بفتح الصاد، وأنتم البغداديون تقولون بضمها)( ص102).
فيما بعد روى لي الجاحظ طرفا ونوادر عن أقوام أخرى لم الحظهم في الشارع، عن الزُط، وأهل السند، والروم..
هي محض مصادفة أن يكون كل من أحببت من أصدقاء أو قرات لأدباء وأساتذة، ولدوا فيها او مروا بها: صديقتي الدافئة (قصارى أحمد الحلفي)، حبيبتي نازك الملائكة، فؤاد سالم، أستاذي الراحل محسن غياض، جنان جارية الناطفي، سعدي يوسف الشاعر...  المشاكس الكبير
كأن هذي البصرة جسر مشترك أعظم يتربّع على مدخل القلب بمهابة.
- في البصرة أول اللذات: المذاق الأول لسمك الصبور، الرقص الجماعي الموقع لطلبة جامعيين يفترشون حدائق السندباد يكركرون من الأعماق في خطوة استباقية لأحزان حروب قادمة ستزخ عليهم أمطاراً من الراجمات والصواريخ والقنابل والقنابر فترغمهم على مواسم الهجرة الى الشمال بعيدا عنها.
أول مرأى لانبثاق الكمأ من بين فطور الأثل.. لقد بدت لي البصرة حينها في مفترق الوعي بين الطفولة والمراهقة مدينة أسطورية ساحرة تخبئ بين محلاتها حكايات الجان والجواري والغلمان، وألف ثورة وثورة، والف دعوة ودعوة، وألف نحلة وملة.
في فصول الهدنة المفبركة بين حرب وحرب كنت أزورها زيارات خاطفة، كان السحر يتوارى فيها خلف المواضع وخلف الجدران المرقطة بجدري الرصاص والشظايا، وخلف الجثث الطافية على سطح الشط، خلف وجوه النسوة المجهولات المقتولات في المزابل والطرق الفرعية.
* سأل النسابة صديقه الجاحظ:
- هل شاخت المدينة؟
- قال الجاحظ:
- الجذوة كامنة كاللغز المخبوء في القمقم، من يعثر عليه فليفك الطلسم، ويحرره من سجنه.
خاتمة: التقط (محمد خضير) الصوت/ البشارة وشرع بأعمال التنقيب في ساحة أم البروم.