.
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
15/09/2008 06:00 AM GMT
في الجلسة التي ضمتنا مع الروائي الدكتور حسين سرمك ( في الصورة )، والفنان جواد الشكرجي، اشار سرمك اشارة سريعة الى صدور روايته (ما بعد الجحيم) عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق. أثار انتباهي عنوان الرواية .. وحاولت التأكد من الصديق حسين ان كان اختيار الاسم مزحة ام حقيقة .. لم يجب عن سؤالي ، أشاح بوجهه ضاحكا . وأختصر الشكرجي الاجابة نيابة عنه بالقول : ياحسين اشلون بينه.. انها مأساة العراق بأختصار . هذا الحوار القصير . ولد لدي الرغبة في قراءة الرواية وبأقرب وقت ، لم يمض وقت طويل . على لهفتي للقراءة اذ اهداني الاخ حسين نسخة من روايته .. التي بدأها بأهداء لاعلاقة له بزمن (مابعد الجحيم) .. الأهداء لجنود دافعوا عن العراق في معركة ام قصر، عندما بدأت بساطيل المحتل تطأ ارض العراق ..
هؤلاء الجنود امتداد لاولئك.. الذين اعتقدوا انهم يدافعون عن الوطن.. ولم يعرفوا حقيقة المؤامرة التي كانت تحاك ضدهم، وضد الوطن.. فراحوا ضحايا للمؤامرات.. في حروب خاسرة لامعنى لها. في الصفحة الثانية نقرأ اللوحة التالية: (ياقارئا كتابي ابك على شبابي (من شاهدة قبرالجندي المكلف احمد شامل سلمان) منذ اللحظه الاولى ينصب اهتمام حسين سرمك على خلق الجو المعادل للجحيم، شعرت بالخوف منذ تلك اللحظة أن اواصل القراءة بهذا المستوى من السرد، تولد لدي احساس قوي بواقعية الاحداث ومأساويتها.. وانا لاأزعم انني امتلك الشجاعة على تحمل تراجيديا جديدة.. فأتساءل مع نفسي الى اين سيمضي بنا سرمك. نحن ضحايا تراجيديات الكون.. الا يكفي ماحل بنا.. وتحقق هاجسي الأول فعلا.. حين واصلت متابعة احداثها خطوة.. خطوة انني احتاج الى لحظات توقف.. واستراحة استطيع فيها ان استعيد توازني.. والتقط انفاسي من شدة التوتر الذي تخلل الحوار والسرد في اجواء الرواية. ان الخيوط الأساسية التي تشكل النسيج القصصي للرواية، تتمثل بعائلة شامل، زوجته (صديقة)، ابنه (احمد) وابنته (سناء) ‘شامل جندي (يعارك) في جبهات القتال، بحرب دامت اكثر من ثماني سنوات. يعود شامل من ساحات القتال بأجازة يقضيها بين افراد عائلته تستقبله الزوجة التي تنتظر قدومه سالماً في كل لحظة، ولكنها وهي تغمض عينيها تحاول باستحياء ان تخفف من هيجان شامل الجنسي، وعطشه لجسد المرأة (وهنا البداية الحقيقية للرواية). التصقت به بعد ممانعة، وهو يرمي بسطاله الأيمن ــ أرجوك أجل الموضوع الى الليل. ـ جئت من الموت وانت تطلبين التأجيل .. مستحيل هذه اللمحة كانت اداة وليست هدفا بحد ذاتها، انها تساعد على التمهيد، وتخلق الجو المناسب للحوار فتستسلم صديقة لهذه الرغبات الجامحة بالقول: نزول عليك‘ كنت أظن ان الحرب سوف تعقلك. هكذا تتناقض الصورة في حدة ووضوح وصراحة. الحرب لاتمنح العقل . وطاحونتها تودي بالأنسان الى الجنون . انها تدور بلا رحمة ‘لكنه فن الرواية يبدأ وينتهي اعتمادا على هذا التناقض، فلابد لنقيض هذه الصورة، حتى تدب الحياة في العمل الفني. فبعد احداث مريرة.. تكمل صديقة (القديسة) صلاة الشكر مع بزوغ شمس الصباح الجميلة استعدادا للقاء الحاسم الذي صممته الحرب، بعد ان فقدت اجمل انسانين في حياتها زوجها شامل، وابنها احمد .. في حادث تراجيدي (سريالي).. لايخضع لأية معايير كونية .. يطلق الراوي صيحته الأخيرة بعد ان تمزق جسد شامل بقذيفة مستهترة لن يتعرف عليه لا أمه ولا غيرها .. الخ. كيف استطاع حسين سرمك أن يمنح لهذا العمل المرعب شكلا فنياً خصباً، لقد استعان الكاتب على ذلك بحاسته الشعرية، فاضفى على عمله الكثير من الجمال الفني، والتكوين الجمالي الذي تمتاز به الدراما في الشعر. فسرمك يجد في (شامل مادة لشخصية درامية خصبة تساعده على التحرك بحرية لخلق حالات التوتر والصراع والانفعال والحب والإحباط، وبالتالي الموقف، لانه فنان وكاتب ودارس متخصص، انه يعمق خط الاحداث الأساس، بتنويعات رائعة تمنح القارئ ايحاءات ذكية، وتضيف الى الصورة العمق والبعد الثالث، هنا (صديقة) تلعب هذا الدور. شامل العائد من الجبهة بأجازة.. متأزم.. وساخط على الحرب،لايريد الهروب لانه يخشى فرق الاعدام، الا انه يهرب من البيت.. اذ يفاجأ بفشل احمد الدراسي وتهربه من لقاء ابيه، فيلجأ الى صديقه رؤوف الذي يسأله: - أراك واجما وحزينا‘مالذي حصل؟ - لم يبق لي الا انت . سلام استشهد ويمضي شامل بعيداً، غارقا في اجواء الخمرة .. مع رؤوف غير معني او مكترث بمؤشرات الهدم التي بدأت تلوح في افق اسرته.. هنا شهدت حياة شامل انعطافاتها المهمة نحو الخمرة.. ليصبح منطق حياته الجديد، في محاولة للتعويض عن فشل ابنه (أحمد) في الدراسة وموت صديقه سلام. وقد جاء هذا التطور في سلوك شامل عفوياً ومبرراً . لقد اندفع في تحديه بإصرار محموم وكره العودة الى البيت، ولا تتوقف محاولاته في الهروب من الواقع، بل ان يندفع اكثر من ذلك بهوس متزايد نحو البصرة يتسكع في شوارعها ليقضي أيام اجازته هناك. موت سلام في احدى المعارك كان مصادفة عنيفة لشامل، لم يكن بالنسبة له مقاتلا اعتيادياً، يتقاسم معه المكان في الموضع (أنما كان شاعراً مبرزاً، ولشعره نكهة عراقية واضحة وفيها بصمة شخصية شديدة الأثر، كان قارئا نهماً، كانت تضحياته تفوق الوصف، ويمضي اغلب ايام اجازته يدور من حي الى حي ومن شارع الى شارع يسلم عوائل الجنود رسائل ورواتب ابنائهم، يقول شامل: بهذا النبل السماوي والطيبة الملائكية وروح الفروسية الناجزة عصف بوجودي كاملاً. صديقي هذا اكله الكلب، سحل الكلب الاسود مصرانه امام عيني، ولم استطع ان افعل شيئاً، الكلب اقوى من الإنسان الكلاب هي التي تتحكم بمصائرنا الأن. كل هذه الرموز والكثافة التعبيرية جعلت الكاتب يبرز الجانب التراجيدي في شخصية ابطاله، دون تدخل منه وفرض وتعليلات وتحليلات معينة لايضاح هذا الجانب أو ذاك. وبالرغم من هذه الدوامة النفسية الرهيبة التي يقع في بؤرتها البطل (شامل) الا ان الكاتب قد ابتعد عن صخب الأيقاع الروائي، وجنح الى هدوء النغمة المتفلسفة والكلمة المكثفة والمعنى المركز والصورة الموحية. يا عيني يا سلام ألم ينظر الموت الى براءة عينيه وطيبة قلبه، وما الذي يستفيده الله من هذا المسكين، أليس لدى السماء مليارات من الأموات يعني الا هذا، الا (سلام) أليس الأكثر فائدة ان يبقى مع أمه العجوز وهو وحيدها؟ يعني الا (سلام) رزق الكلاب هذا يا ناس يا عالم. لقد اسهم استخدام الروائي معطيات الحواس وأشاعة الاحساس بأجواء الحرب والموت والرصاص والدخان والوان الصورة البشعة، في تعميق الأحساس بفكرة (الجحيم) الرئيسة، ومغزاها الكلي. لكن اين تكمن فكرة (الما بعد..)؟ للأجابة على هذا السؤال . ينبغي التذكير بأن الكاتب الطبيب والمتخصص بالعلوم النفسية، وظف تياري الشعور والاستقرار في العمل الروائي على لسان ابطاله، أو تحليل شخصياتهم، ما كسب العمل الفني مقوماته الأساسية في لمسات سريعة وذكية للمواقف المختلفة، وما منح كذلك خط الصراع في الرواية بعدا ً اعمق في التأثير. ان الرواية ابتعدت عن نمط روايات الحرب التقليدية، لذا اكتسى الجو العام للرواية بمسحة تشاؤميه غلبت على كل لحظات الأشراق وخلوات الحب بين صديقه وشامل أو ساعات اللقاء بين شامل ورؤوف. المشهد الذي يصفه الروائي - على لسان القاص سلام – تعبير صادق عن ما بعد الجحيم: (مسقط مائي ينزل بتدفق بجانب السفح المنحدر بشدة ويجد هذا الشلال طريقه الى مساحة من الحجر وكأنها الدكة، فما هذه الدكة سقطت تلك الجثة توقفت تحت الماء، كأن المقاتل خلع كل ملابسه وبدأ كأنه يستحم، لكن ما ان تبصره جيدا ً من زاوية معاكسة حتى يتضح المشهد بفقدان هذا القتيل ساقه، فأي صورة هذه.. هذه هي النقطة التي تزول فيها كل المتناقضات. ان هذا الوصف لم يكن ليأتي اعتباطا ً، فهو يمثل جوهر عقدة الأحساس بالضياع، قذف به الروائي منذ الصفحات الأولى بوجهنا عن وعي ليضعنا واياه امام جوهر المغزى الرمزي لروايته. وحظيت صديقة (المرأة، الزوجة) بعناية, من قبل الكاتب وتسليط للضوء على دخيلتها النفسية وملامحها الخارجية وطبيعة ارادتها، ولقد راعى حسين سرمك اغناء شخصيتها واكسبها بعدا ً تعبيريا ً، شأن بعض احداث روايته وشخوصها، وكان الرمز ايحاءً واشد غنى، مما ضمن للرواية بعدا ً وعمقا ً فوق ما هي عليه، وقدرة على الأشعاع غير المحدود. تخاطب صديقة شامل: انت خيمتي وانا مستعدة لبيع حياتي من اجل سلامتك.. أنا يتيمة ووحيدة وليس لي الا الله ثم انت، هنا كانت عيناه تدمعان، يقبل رأسي ويدي التي اسحبها بسرعة ولكنه يصر على ذلك ويقول: هذه اليد مقدسة.. اضعها على رأسي انت البركة ياصديقة القديسة. الا ان المرأة برغم هذا الحب تبدو منذ الصفحات الأولى وهي تعيش مشاعر الوحشة واحاسيس الخوف والوحدة والقلق، تختنق وحيدة في صمتها ووحشتها بعيدة عن شامل.. وأحمد الملتحق بالعسكرية فيما بعد . ولعل خوفها يبدو على اشده حين تفعل الخمرة فعلها في رأس شامل، ويبدو عدوانيا ً أزاء ابنه (أحمد) الذي تعرض الى الضرب والزجر اكثر من مرة.. الا ان (صديقة) تبقى محملة بالاشعاعات الرمزية المعبرة عن مشاعر المرأة الدفينة ورغبتها في التعويض عما تفتقده في حياتها. فهي لم تأبه بنتائج الجرعات الكيمياوية التي تتلقاها اثر اصابتها بمرض السرطان، المهم لديها ألا يكتشف شامل حقيقة مرضها: لم تدع شامل يعرف بأي شيء على الأطلاق كان يأتي مأزوما ً حنقا ً وينفس عن غضبه العاصف معي ومع احمد ويثور لأتفه الأسباب ويقطع أجازته محطما ً كسيرا ً لا يعرف الى اين يروح ولا يستجيب لتوسلاتي. بهذا الأسلوب الممتاز ينتقل الكاتب في ثنايا الحوار كاشفا ً لنا الشخصيات ملقياً اضواء جديدة عليها، دافعاً بالاحداث الى حيث تفيد عضوية الشكل العام وهندسيته الرائعة، وكان ربط ماضي الشخصية بحاضرها في بعض اللمحات ذا فاعلية في ابراز وحدة الشخصية وحيويتها واتساقها مع الاحداث والظروف المحيطة بها . لقد وضع الكاتب كل ادواته في خدمته، ولذلك امتازت بعض اللمحات الرومانسية بأنها خدمت الغرض الرئيس. ولم يشتط الكاتب في الجري وراء هذه اللمحات لمنطقية الموقف الروائي ذاته. ومن هنا كانت اللمحة سريعة وذكية في مواضع عدة من الرواية ففي لحظة خلوة مع صديقة ينساب شامل هادئا ً بجمل في غاية الرقة والجمال: كانت كلمات ابتهال تنسل الى روحه بهدوء وتفتح مغاليقها بيسر فتشيع فيها رائحة من القداسة والرهبة، كانت عيناها تبرقان بلمعان رسولي باهر.. كانت تنطق برسالة يبدو انها احكمت فنونها منذ فجر الخليقة، الكلمات تأتي طافية من بعيد. وعن جنون الحروب.. تثير بعض النصوص اشكاليات خطرة جدا ً وتطرح اجابات اكثر خطورة تتعلق بالكيفية التي سيكتب بها النص العراقي المغمس بالدم بعد الحرب، هذا التساؤل الملح الذي ظل يشغل سرمك على الدوام في كتاباته، ويبحث عن اجابات له في ملح ملحمة (الفاو) الرهيبة التي لا تزال تكوي جروح الروح الطازجة. وتدمي عواء الذاكرة الجريحة التي عجزت عن ترتيب صفوف من رحلوا وقطع القلب الممزقة على بقايا رفوفها السود المحتضرة التي هشمت سيقانها انياب القذائف وزعقات الموت والخراب. هنا تكمن محنة الوجود العراقي في عمقها وتشعباتها واستلابها النفسي والاجتماعي، لم تكن (ما بعد الجحيم) رواية الخيال انما هي رواية واقعية تنتمي الى العراق.. ويكاد القارئ يجد نفسه في شخوص الرواية. الا ان الرواية بلغتها ترتقي بالواقع بلغة مكثفة ومكتنزة ثراءً، اذ يعتني الكاتب بانتقاء مفرداته ويعتني بإيصال دلالاتها الموحية المشعة، ويستفيد الكاتب هنا وفي مثل هذه اللمسات بخاصية التكثيف الشعري ويضيفها الى نثره فتجنبه الاطناب والسرد التقريري والمباشرة في التعبير والسطحية في التصوير، ولذلك لم نجد في (ما بعد الجحيم). ما يعد عالة ً على بنائها اونتوءاً في هندستها الرائعة. في القصة سيشكل ذلك القتيل نصه الذي يستطيع في اطلاق صوته المكتوم، او المصوغ على الحجر، ولربما يظهر لسانه ساخراً من مرارة الأرض وقساوتها من الأهمال. واسهم استخدام اسلوب الارتداء (الفلاش باك) الروائي، وتوزيع الرواية الى مقاطع يعتمد كل مقطع منها طريقه في السرد القصصي، وتداخلت فيه نصوصا ً مستقلة كتبها ابطال الرواية، جاءت مكملة ومتممة للمعنى وللحدث، ولجأ الراوي الى ضمير المتكلم والغائب فالمخاطب مع اسلوب الراوي العليم بالاشياء، اسهم ذلك في استكمال زوايا الرؤية الروائية للشخصيات المحورية والكشف عن ابعادها المختلفة عبر اكثر من زاوية ووجه. في (ما بعد الجحيم) يفصح كاتبها عن رؤية فكرية وموقف شامل من قضايا الوجود ببعدها الإنساني الشامل، كما انها اداؤه لواقع مأساوي عاشه العراق منذ عقود من الزمن،وصرخة احتجاج وأداؤه للحروب ونتائجها المأساوية.. ولكل الصراعات الدموية التي راح ضحيتها ملايين من شباب العراق. والرواية تكشف عن موقف شجاع وجريء للكاتب حسين سرمك من الاحداث التي عصفت بالعراق.. هذا الموقف احد اهم عناصر نجاح الكاتب وموضوعيته واخلاصه لفنه ولذاته التي لم يساوم عليها سرمك على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها الأن وهو خارج وطنه.. يرنو اليه منتظراً اللحظة التي يعود بها معانقا ً أهله وأحبته وأرضه. تقف رواية (ما بعد الجحيم) بجدارة بين انضج الأعمال الروائية العراقية، فهي رواية تنم عن موهبة طيبة وتمكن فني ، ضمن لها بناء عالم روائي متماسك وتام بعفوية وانسياباً اخاذاً. ان الفصول الاولى من هذه الرواية تقف بثبات في صف اجمل الفصول الروائية التي قدمها روائيون عراقيون متمكنون في مجال هذا الفن . وذلك بعد ان أقام سرمك هذا البناء على عنصر الصورة الفنية الموحية النامية نموا عضويا ًمعبراً مع معرفةً سايكلوجيه دقيقة بأعماق الشخصية العراقية. كنت اتمنى ان تصدر الرواية بغلاف جميل مؤثر.. وبألوان قوية وموحية.. وخطوط متماسكة رشيقة وبرمزية اكثر دلالة وعمقاً. للأسف الشديد لم يتمكن المصمم من توظيف اجواء الرواية توظيفا ً ينم عن دراية وفهم بما يخدم مضمونها وغايتها.. فجاء الغلاف باهتا ًفضاعَت ملامحه الرئيسية ولم يحقق مستوى من النجاح يقترب ولو بنسب ضئيلة من نجاح الرواية.
|