التاريخ يتكلم الحلقة 113 دفاعي عن ابناء شعبي لم يقف يوما واحدا

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
08/09/2007 06:00 AM
GMT



من خلال تواجدي في اثينا (RTC) كنت اتحدث مع المحامية القديرة السيدة ايوانا باباسيكا العاملة هناك في شؤون العراقيين اللاجئين الى اليونان ومعاناتهم. وبقدر ما يشعر المرء بطيبة هذه المرأة، تشعره هي، بان القضية قضيتها. فقد انبرت تكرس جهودها وتكثف اتصالاتها بمختلف الهيئات ذات العلاقة للتوصل الى صيغة تنقذ اولئك اللاجئين المتواجدين بصورة غير قانونية في اليونان. وقد نظمت لهذا الغرض اجتماعاً لكافة المحامين العاملين في المنظمات التي ترعى شؤون الاجانب، دعتني اليه كمتحدثة .

انعقد الاجتماع في 13/ 3/ 96 في مقر اللجنة العليا للامم المتحدة في اثينا، وحضره جميع المحامين المعنيين بالموضوع، وافتتح الجلسة رئيس وفد الامم المتحدة السويسري الجنسية (السيد ريثماتوف) واقترح ان تكون اول فقراته عن العراق. بدأت الحديث لمدة عشرة دقائق تقريبا شرحت فيها ممارسات النظام الديكتاتوري في العراق واوضحت لماذا ترك العراقيون وطنهم وارتضوا ان يعيشوا في حالة من البؤس والشقاء وغبن الحقوق والفقر، وانتشروا في زوايا المعمورة وركبوا الاهوال والمخاطر من اجل النجاة بجلدهم، علما بانهم لم يعانوا من ضائقة مادية في بلدهم قبل الحصار بل، على العكس، كان اكثرهم يمتلكون مساكن خاصة بهم واسباب الرزق الوفير وسائر اسباب الراحة والرفاهية كامتلاكهم سيارات خاصة بهم ايضا، كان كل فرد في العائلة يمتلك، تقريبا، سيارة خاصة به، لكنهم لم يعد باستطاعتهم تحمل الجور والطغيان الذي امتد الى كافة شرائح المجتمع الذي تغلغلت الجريمة فيه لتصبح السمة المميزة له، وطالت كافة قطاعاته دون رادع او حماية من السلطة التي كان لها اليد الطولى في تنظيمها لخلق الرعب والهلع، كاحدى وسائل السلطة المعروفة في بلبلة الفكر وعدم الاستقرار وقد مارست ذلك منذ توليها السلطة قبل عقدين ونيف من الزمن، والآن فان اولئك العراقيين دفعوا كل ما يملكونه الى المهربين لانقاذهم من ذلك الجحيم وكان الثمن غاليا، اذ لا عمل للكثير منهم، لا حقوق ولا وضع قانوني، لا مدارس لاطفالهم، لا تأمين صحي، ويضطر اولئك الاطفال للعمل لكسب لقمة العيش لهم ولاولياء امورهم، الذين اغلبهم ذوو مهارات، وحملة شهادات عليا، دون ان تتاح لهم فرصة العمل.

اثر تلك المداخلة السريعة انهالت علي الاسئلة من كل جانب تفاوتت بين طبيعة نظام الحكم واساليبه القمعية، اللاانسانية، وبدى ان المتحدثين لديهم المام كامل بما يدور في الساحة العراقية، واذا كان الاغلبية يودون اعطاء اهمية خاصة للحديث وبحث ما يمكن عمله في هذا المجال الا ان اثنين منهم محامية وزميلها Xlepasi Aliki من دائرة (GCR) يبدو ان موضوع تواجد الاجانب على اراضيهم خلق لديهم حساسية وردود فعل سلبية اتضحت من خلال اسئلتهم التي كان القصد من وراءها ارباكي وبلبلة افكاري والعمل على اخراج الاجتماع من هدفه المعقود من اجله. على العكس منهم كانت المحامية ايوانا باباسيكا ,متقدمة في السن وقورة تنقب، بخبرتها الطويلة، من خلال طروحاتها، عن الوسيلة لتقديم يد العون ووضع الحلول لتلك المأساة اللاانسانية، وطلبت مني تقديم صورة واضحة عن المجتمع العراقي الحالي. قلت انه يعاني من التمزق الذي لا مثيل له، فالاخ لم يعد يثق باخيه، الجريمة هي سيدة الموقف وانعدام العدل ومؤسساته مسألة تأقلم عليها العراقيون. واثر الحروب الطويلة نشأت اجيال مجبولة على العنف ومجردة من المشاعر الانسانية والثقافة العامة، وبعد ان كان الشعب العراقي يضرب به المثل من حيث نسبة المثقفين وحملة الشهادات العليا والاختصاصات النادرة، التي نزحت، هي الاخرى، في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية، في موجة من الهجرة الى كثير من دول العالم وخاصة نيوزيلندة واستراليا والدول الاسكندنافية واميريكا الشمالية . اما مرحلة ما بعد صدام فانها تنذر بنشوب حرب اهلية خاصة، فقد اصبحت الرغبة في الانتقام، هي المسيطرة على مشاعر الكثيرين الذين غدر بهم ويعتبر ذلك، في قانون العشائر، من الامور المشروعة المسلم بها، ولا يمكن تغيير ذلك الواقع بين ليلة وضحاها، ولا يمكن زرع القيم والمبادىء النبيلة وروح التسامح والتعاون بعد حروب واهوال ومجازر، وبعد ان دأب صدام على اعتبار ذلك سمة من سمات حكمه التي لا تشبع من الدماء ابدا. لقد غير مفاهيم القيم والرجولة والشجاعة، وروج قيم القتل من اجل القتل واستباحة الاعراض، وهي المفاهيم والقيم وعقد التخلف التي تربى عليها.

لم يعد هناك ما يمكن ان اتحدث عنه، لكنه جلب انتباهي، من بين الحضور، شخصية فذة هو الدكتور خرستور الذي كان يستمع باهتمام بالغ ولم تبدر منه اية ملاحظة، بل كان مستمعا جيدا، وكان حكمي عليه في محله حيث لم يأل جهدا في تقديم اية مساعدة ممكنة في أي وقت وتحت اية ظروف، تحركه روحه الانسانية في التعامل مع قضايا الساعة التي يعاني منها اولئك اللاجئون واخص بالذكر قومي الذين جئت اطرح معاناتهم هنا.

بعد اجتماع استغرق ساعة ونصف ودعني السيد ريتماتف رئيس دائرة الامم المتحدة في اليونان ونبهني الى ضرورة ان يكون للحكومة اليونانية تصور كامل عن الموضوع الذي جرى طرحه. قلت انهم طلبوا اجراء لقاءات اذاعية وتلفزيونية معي لكني رفضت ذلك لاسباب بسلامة اهلي في العراق . الا اني علمت ان هذا الرجل له القدرة على تغيير ما هو موجود من عفونة في دائرة اليونانية لGCR .

كنت عندما اتولى الحديث عن ما يعانيه العراقيون، اخال انني ادافع عن اهلي واقاربي واندفع بكل جوارحي واقدم كل ما باستطاعتي، من خلال المعرفة والعلاقات حديثة العهد مع اناس لو خلت البشرية منهم فانها ستؤول الى زوال. وكنت عندما اخلد الى نفسي اراجع قساوة الحياة فاتذكر والدتي واخوتي بحسرة.

وبينما انا في مثل هذه التأملات تملكتني رغبة جامحة في الكتابة، وانساب القلم يخط ذكريات الماضي واستقرت الذاكرة عندما كنت في موسكو، لكنه قطع سلسلة افكاري رنين الهاتف ، اعتقدت بادىء الامر انها الدكتورة ماريا تطلبني من جزيرة سيرو، رفعت السماعة هذه المرة فاذا صوت رقيق اجتاح كياني ودخل اعماق قلبي، يتكلم بالانكليزية ويسأل عن الدكتورة كاترين. اجبت انني معك وتحول مباشرة الى لغتنا الام الكلدانية قائلا انا سلام، لم اصدق، أي سلام؟ رد على الفور انا اخوك سلام! خنقتني العبرات وبعد ان استعدت انفاسي سألته من اين تتكلم؟ اجاب من كندا ." وعبر عن اشتياقه الشديد لي وعن امكانية سفري الى كندا. اخبرته بان لا مجال لذلك الآن.

انتابتني نوبة اخرى من البكاء وانا اسأل عن افراد عائلتي من بقي على قيد الحياة ومن فارقها بعد انقطاع اخبارهم هذه الفترة الطويلة، قال انهم احياء واسترسلت في السؤال عنهم وعن بقية اخوتي باسل وسلام الذين وصلوا الى كندا مؤخرا . وبعد محادثة طويلة ودعني على امل ان يتصل بي مرة اخرى للتحدث اكثر. حاولت ان اسجل مشاعري وصراعي النفسي في تلك اللحظات المؤثرة غير ان الدموع خانتني ولم استطع التوفيق بين القلم والمنديل الذي احاول معالجة دموعي به فافسدت ما كتبته وما حاولت كتابته، اتصلت على الفور بماريا كلي ونقلت لها اخبار المكالمة، فرحت كثيرا بتلك الانباء السارة خاصة وان الاهل وافراد العائلة بخير بالرغم من ان كل واحد يعيش في بلد، سألت عن شقيقي سفر وخواتي خلود وانصار واولادهما الذين ربما لا يعرفون حتى اسمي، انها من الامور الصعبة والمؤلمة في ان يتجاهل الناس هناك اقاربهم واصدقائهم الذين اصطفوا في خندق مناهض للسلطة، وهذه ايضا مكرمة اخرى من المكارم التي وهبها النظام الصدامي لمواطنيه الذين يخافون حتى مجرد ذكر اسماء اقربائهم واصدقائهم اذا كانوا غير موالين للسلطة.

اتصلت ايضا بالدكتورة Mepllin فكانت هي الاخرى متعاطفة معي معبرة عن غبطتها لسماع اخبار سارة عن عائلتي، هذه المرأة التي تمتلك وداعة الاطفال بالرغم من انها تجاوزت العقد الخامس من عمرها. كنت افتقدها اذا غابت عنا، وتحسنت آلام الفقرات عندي عندما تولت علاجي بالاضافة الى الراحة النفسية التي كنت احسها بوجودها ووجها البريء يوحي الى السلامة والاطمئنان والدفء.

تحدثت، فيما بعد، مع النفساني الشاب د. ديمتري بعيون دامعة وانا اكلمه عن اهلي وعائلتي التي تفرقت بعد ان كانت تعيش تحت سقف واحد، كان يسمعني برحابة صدر ويتفاعل مع احاسيسي. انني اكن له احتراما كبيرا فهو الذي حثني على الكتابة لاطلق العنان لمشاعري المكبوتة كاسلوب علاجي لتفريغ الالم والمعاناة والضغوطات النفسية . كان يتابع ذلك ويسألني كل مرة، ماذا كتبت؟ والى اين وصلت؟ ويحثني على ان اضع خلاصة تجربتي السياسية في متناول المجتمع على شكل كتاب او فيلم او مسرحية، بادرني بالقول: لقد تعلمت منك الكثير" وكررها ثانية، قلت: ماذا تعلمت؟" اجاب: اهم ما تعلمته هو ان لا نخاف الموت."

مسلسل الحياة يبعث من جديد في تلك المنظمة، الصغيرة في بنايتها، الكبيرة في آمالها وتطلعاتها. السكرتيرة الشابة Michalitho اللطيفة تستمع الي وكلها آذان صاغية، ومع انها فتية، الا انها غزيرة الخبرة في مجالها، تشاركها الباحثة اليافعة اريتي بكلمات اقرب الى الحكمة من مشاعر الصداقة (لولا دكتاتورية الحكام لما التقينا، وتجندنا لهذا العمل الانساني النبيل).

في اثينا استلمت رسالة من السيد ضابط الهجرة في السفارة الكندية يذكر فيها بانني عملت مع احدى المنظمات الارهابية في العالم وهي الاحزاب الكردية! هل نسى السيد موظف الهجرة ان قوات التحالف وفرت نوعا من الحماية للاكراد لمنع قوات النظام من ابادتهم ومدت يد العون لهم وخلقت لهم كيانا من نوع محدد؟ وهل نسى ان الاكراد يناضلون من اجل الحصول على تقرير مصيرهم؟، انهم لم يفكروا بممارسة الارهاب للحصول على حقوقهم ولم يعملوا على تصديره، فالارهاب شيء والنضال في سبيل الحرية شيء آخر. لكن اين كان الكنديون كل هذه السنين ليطلوا علينا، الآن، ببدعتهم الجديدة؟

واضافة الى ذلك فانني اوقفت نشاطاتي منذ امد بعيد، وليست لي علاقة مع أي حزب في الوقت الحاضر. ليس من العدالة بشيء ان تلصق كندا تلك التهمة متى ما تشاء وبمن تشاء،

اخاطبك ايها المستر يبدو ان فراستك خانتك في اختيار العناصر الملائمة، ويبدو ايضا انك تفتقر الى الدراية والحنكة السياسية، فمكنت افرادا انطلت حيلهم وخداعهم عليكم وسافروا الى بلدكم بصفة لاجئين وكانو من اعوان الحكومة العراقية. اهنئك على شطارتك ولا اضيف على ذلك ما دام اتخاذ القرارات عندكم يخضع لمزاجات معينة وليس للدراسة والتدقيق. ولو كانت دوائر الهجرة ترعى حقا شؤون طالبي اللجوء وتتفهم مشاكلهم، ولو كان المسؤولون فيها على قدر من الكياسة، وعلى معرفة واطلاع واسعين بمجريات الامور في الساحة السياسية وتقلبات الاوضاع والصراعات في الشرق الاوسط عامة والعراق خاصة، فقد كان الاولى بها ان تنيط تلك المسؤولية بمن يحملون المواصفات والفراسة والابتعاد عن روح التعالي والتفاعل بصورة حقيقية مع روح الحرية والديمقراطية التي تعطش طالبو اللجوء اليها كثيرا، وكان الحلم الوحيد الذي يلوح سرابه امامهم، فضحوا بممتلكاتهم ووطنهم وكل غال ونفيس من اجلها.

منذ نعومة اظفارنا تعلمنا معان كبيرة، رنانة، ساطعة كنا نلهث بحثا عنها، لكن عيونا خبيثة ترمقنا بشك وتعال، وتقطع علينا التصورات والاحلام الجميلة عن (الحرية والديمقراطية) وكانها طلسم لا يجيده فكه غير السحرة، اما (المساواة في الحقوق) فكأنها رجس من اعمال الشيطان.