التاريخ يتكلم الحلقة 109 حتى احلامنا عسكرية |
. المقاله تحت باب في السياسة غادرت بيت صديقتي اولا زوجة الدكتور شابا ايوب متوجهة الى بلغاريا. وانا في عربة القطار كان مجمل تفكيري محصور في فراق عزيزتي سوزان. كنت اسافر وحيدة، مكتئبة، حتى ان دموعي خانتني رغما عني. لاحظ ذلك رجل بجواري، فسألني فيما اذا كان وقع لي مكروه، وهرع آخرون من حولي يسألونني نفس السؤال ولكن لا يوجد ما يشفي غليلي في تلك اللحظات، غير اجترار صور الماضي وذكرياته، وما احلاها . . . وما اوجعها. كيف استسلم الى هذا القنوط، انا التي عركت سنيناً من الصراع في ظروف كانت كل لحظة ترفرف علينا فيها المنية، تلاحقنا سطوة وبطش نظام لا يعرف للرحمة معنى؟ شريط من الذكريات يمر على ايقاع القطار، وانا في تلك العربة. عدت سنوات خلت الى حيث كنت في الفوج الثالث في ربيع 1986 وانا جالسة على صخرة كبيرة اتمتع بيوم مشمس ندر مثيله، اقرا للاديب العربي الكبير نجيب محفوظ، في تلك الاجواء الربيعية الخلابة الساحرة بعطرها ونسماتها العليلة، العشب الاخضر يغطي تلك السفوح والاشجار اطلقت وريقاتها الفضية، وبيبون نيسان وشقائق النعمان، والوان اخرى من الزهور التي اتخذت اشكال مستعمرات بين تلك السفوح والوديان. ولكننا تعودنا ان لا نعير لتلك الطبيعة الخلابة ادنى اهتمام. ظهر عن بعد اخي ازاد وكان بكامل قيافته القتالية وبيده بندقية دكتريوف. وقد زحمت اشرطة من العتاد كتفيه ووسطه، تفاجأت بقدومه فاطبقت كتابي وسألته ما الذي يجري؟ اجاب بان هناك عملية عسكرية سينفذونها هذه الايام ولا يجوز السؤال عن اية معلومات اخرى لانها من الاسرار العسكرية التي لا يمكنه البوح بها. بلغت ذروة القلق وانا ارى امامي اخي سيرحل عن قريب الى مكان يخوض فيه معركة لا نعلم نتائجها. كان الخوف من اللحظات القادمة والشعور بالهياج والالم تشغل كل ذرة في كياني، لا اجد من اتحدث اليه، وفي الوقت نفسه، كنت اتظاهر بالتماسك والصلابة وهذا ما يتطلبه الموقف دائما. انتفضت من مكاني ولحقت باخي ازاد والعبرات تخنقني، اذن ستسفك دماء جديدة والأمَر من ذلك اننا حينما نخوض معركة قد نصلي بنيراننا قريباً لنا او صديقاً في الخندق المقابل الذي يمثل قوات السلطة النظامية، ليست الحرب دمار وخراب ونزيف دم، بقدر ما هي، نسف للمعنى الحقيقي لوجود البشر، وانعدام فرص التمازج الفكري، والتهاب مشاعر النفور والحقد والضغينة، التي اذا استكانت بعض الشيء، فانها تلتهب حينما تجد المناخ المناسب لها. في تمام الرابعة بعد الظهر انطلقت مفرزة صغيرة قوامها عشرة من الرفاق المدججين بالسلاح (رشاشات كلاشنكوف، قنابل يدوية، دكتريوف، عفاروف) ولا زلت في تأملي، اتخيل تلك القوة الصغيرة، ترى اين هي وجهتها؟ كنت اعتقد انهم في سبيلهم لتنفيذ مهمة محددة. بعد ان غادر الرفاق رجعت الى كتابي علني اقتل قلقي ويأسي وبين القراءة والشرود، اسلمت الشمس نورها الاخير، ودعيت الى تناول وجبة العشاء مع اثنين من الرفاق ولكن لا قدرة لي على تذوق الطعام فانا صريعة القلق والترقب. الشهيد فؤاد الالقوشي الفنان بادر الى لفت نظري الى امارات الاضطراب البادية على تصرفاتي. قلت انني مشغولة برواية نجيب محفوظ. اعرب عن تقديره العالي لتماسك اعصابي وسط تلك الاجواء المشحونة بالقلق على اولئك الذين مضوا لتنفيذ المهمة المناطة بهم. كان هذا ما اتظاهر به، ولكني في الواقع، كنت على وشك الانهيار. بعد العشاء عدت ثانية الى الكتاب اقرأه على ضوء الفانوس في غرفة الرفيقة دروك حتى العاشرة مساء ومن بعدها حاولت النوم. لا ادري متى غفيت لاصحو على صوت رفيقتي تناديني: ماذا بك؟ لماذا تصرخين هكذا يا سعاد؟" صحوت من حلم امطرتنا فيه المقاتلات بوابل من قنابلها، وانا اصيح مع بقية الرفاق: الشهداء كثيرون، والجرحى اكثر، نهضت ولاحظت كأس ماء بيد الرفيقة دروك الاثورية من كركوك هذه الانسانة المناضلة الذي يميزها روح المعطاء لكل من احتاجها . اشارت , علي ان اشربه لاهدأ من روعي، قلت اين انا"، قالت لا بد انك كنت تعيشين كابوسا مفزعا"، قلت لا بل حلم عسكري! حتى احلامنا لا تخرج عن الطابع العسكري". ضحكنا على مصيبتنا وعاودنا النوم لاستيقظ في الرابعة صباحا حيث كان الحرس ينادي: سعاد لديك حراسة وسر الليل (بهدينان) و(سوران)" وخلال لحظات ارتديت الزي العسكري وتأبطت بندقيتي واستلمت ورقة الحراسة ووقفت في باب الكلي وانا كلي آذان صاغية لاية حركة او صوت نباح كلاب بعيدة لعل المفرزة التي رافقها اخي ازاد قد عادت من مهمتها صحيح قلقي على كل الرفاق لكن يبقى اخي ازاد اول من يشغل فكري لانه يحب الروح الاقتحامية في القتال ، لكن دون جدوى. انتهت ساعة حراستي وذهبت لانادي على الرفيق ابو طريق الرفيق العربي ليستلم واجبه ورجعت الى فراشي دون ان يغمض لي جفن. في الصباح لم يطرأ أي جديد، رجعت الى كتابي حتى الحادية عشر صباحا، حيث بدأت خفارتي النهارية. بادرت الرفيقة دروك تقترح ان نتسلق الجبل ونجمع قليلا من الزهور الربيعية. كان ذلك بعد الظهيرة بقليل. رافقتها، وبعد ساعة عدنا الى المقر، وسألت بقلق: هل زارنا ضيف" والمعنى في قلب الشاعر لاننا لا نستطيع السؤال مباشرة عن الواجب المكلف به الرفاق وعن عودتهم. لم يستجد شيء واستمر الوقت يمضي ببطء وقلق يسبقه قلق. قدم الليل ولا وسيلة لتبديد ساعاته الثقيلة علي. سلوتي الوحيدة القراءة. عدت الى نجيب محفوظ. في السادسة من صباح اليوم التالي، وعلى اثر النباح المتواصل للكلاب، استيقظت مستطلعة الطريق فوجدت الرفيق ابو سوزان بامرني يستعجل الخطى الينا وعلامات المرح على محياه. سألته بلهفة عما لديه من اخبار الرفاق، فقال ستسمعين التفاصيل لان البلاغ العسكري لا يمكن البوح به الا بعد صياغته. ويحصل ذلك عادة، بعد وجبة الفطور حيث يقرأ ويعلن للجميع. جاء في البلاغ ان مفرزة قتالية قوامها عشرة انفار من الرفاق اقتحمت ربية للجحوش (يطلق ذلك على الفرسان الموالين للسلطة) واستولوا على ذخيرتهم العسكرية، هرب منهم 5 انفار واسر ثلاثة، سيصلون مخفورين مجردين من اسلحتهم الى المقر بعد ساعة تقريبا. لا توجد خسائر لدينا عدا عطب بندقية احد الرفاق، وفي الظهيرة اقبلت طلائع المفرزة المعنية وقد حملوا الغنائم على ظهور الحيوانات، كمية كبيرة من العتاد، ثلاث بنادق كلاشنكوف، جهاز لاسلكي صغير. وجدت اخي ازاد يتسابق الخطى مع القادمين. فرحت وازحت عن كاهلي هموم الايام الماضية. الرفاق العشرة عادوا الينا وهم منهكون تماما، لانهم لم يتذوقوا طعم النوم لليلتين متتاليتين، بالاضافة الى المجهود العسكري الذي بذلوه ودمهم الذي حملوه على راحات اكفهم. تناولوا وجبة الغذاء واندسوا في مناماتهم ولم يستيقظوا حتى صباح اليوم التالي حيث استحموا ثم نظفوا بنادقهم وقاموا بتزييت اقسامها كعادتهم عند عودتهم من اية مهمة عسكرية. ساعات مرت في القطار وكأنني في حلم لا اخرج منه. كنت اعيش مع الماضي القريب وكأنني خارجة للتو من قاعدتنا الجبلية. اعادني الى عالمي شرطي الحدود الذي لاحظ احمرار عيوني من البكاء فاشر جوازي دون أي استفسار، وبعد رحلة عشرين ساعة وصلنا فارنا وتوجهت الى بيت اخي ازاد الذي كان بانتظاري. استقبلني بالاحضان وكلانا يبكي بحرارة، حتى بدأ بتطييب خاطري وهو يقول: انسِ الماضي واحداثه، ستعيشين معي ولا داع للقلق بعد ذلك." في الصباح الباكر يغادر اخي ازاد وصديقته الى العمل وابقى وحيدة في البيت لاواجه فراغا قاتلا لم اعتد عليه. لم تتوفر لي كتب تساعدني على التغلب على ذلك الشعور. العمل المنزلي اصبح متعة لي وسط تلك الرتابة المملة، فبدأت بعملية تنظيف المنزل وقد كان يفتقر لها، ولم يكن امامي لقتل الوقت، غير ابتياع بعض الصحف الانكليزية لمطالعتها. بعد اسبوعين وصلت صديقتي (اولا) مع اطفالها واستأجرت لها شقة قريبة من مسكننا. اعتدنا الذهاب الى البحر منذ الصباح وحتى المساء، وكنت احيانا، ارافقها للتبضع. اكره البقاء وحدي في الشقة حيث تتقاذفني الافكار السوداء واتفادى ذلك بالاتصال باصدقائي الذين يكنون لي كل الاحترام والتعاطف وخاصة الدكتور علاء المقدادي وزوجته والدكتور احمد مزرعاني وزوجته سعاد من لبنان, وصديق العائلة احمد الكردي الفيلي والدكتور هلال احمد وزوجته الذين كانوا يبادلونني الزيارات وكان ذلك مبعث ترويح عن اعصابي المرهقة ووسيلة لدفع الملل وقضاء الوقت. اب 2007 |