هناك مثل صيني يقول : ولدوا فتعذبوا وماتوا ، وهذا الاختصار المعجز لحياة الانسان الحافل بالتجبر والتسلط والانانية ، يجعلنا نفكر بالموت وما ادراك ما الموت ، فالموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ، وله جلال ودهشة ليس عند المسلمين واهل الكتاب فحسب بل حتى عند الملحدين والماديين، ويجب علينا ان لا نغتر ببعض المحطات التي تبدو جميلة في حياتنا ، فالقصة الكاملة لخصها المثل الصيني ، وقد قال الشريف الرضي عندما كان يزور الاموات :
كنا واياكم نزور مقابرا فمتم وزرناكم وسوف نزار
فالاحباب بدأوا يفارقوننا الواحد تلو الاخر ، وعندما ارى جنازة لشيخ كبير اقول بان هذا المسجى كان طفلا وشابا ثم شيخا وهرما ثم ميتا وهل مصيرنا جميعا الا التحول الى جثة هامدة لا حراك فيها ، قد نجد او لا نجد من يشيعنا نحو المثوى الاخير ، وقد ذكر لي احد الاصدقاء بانه شاهد في مسجد اسلامي بلندن جنازة لشخص عراقي لم يحضرها سوى اربعة اشخاص بينهم امراة ، وقد رايت بأم عيني شخصا اخر جاء بابنته الرضيعة المتوفاة من المستشفى لوحده ثم غسلها وكفنها ودفنها بحضور شخصين اخرين فقط ، وهذا يذكرني بجنازة الامام موسى الكاظم الذي القيت على جسر بغداد بعد ان اخرجوه من سجن السندي بن شاهك يُنادى عليها بذل الاستخفاف .
انه ثمن الغربة ، ولا ادري لماذا يتمنى البعض ان يدفنوا عندما يموتون في ارض الوطن ؟ ، هل لان المقابر في الاوطان اكثر دفئا ؟ ام انه برغم الموت يحتاج لاحد يأتيه لقراءة الفاتحة على قبره كي لا يشعر بالوحشة والغربة، ونحن عندما كنا يافعين لم نكن نعرف من الموت سوى مجالس الفاتحة التي تقام عادة في الجوامع وفناجين القهوة والسجائر بانواعها واصطفاف اقارب المتوفي لتلقي العزاء ، وما دارت الايام حتى مات الاب والعم والخال وماتت الجدة والام والعمة ، وصار الموت يختار لنفسه من وكم ومتى يشاء من المعارف والاصدقاء والاقارب ، فياخذ هذا بالمرض وذاك بحادث سيارة والاخر في مفخخة او حتى بلا سبب ظاهر ، فالاسباب تتعدد ولكن الموت واحد ، مع الفارق الكبير بين موت وموت ، فقد مات عثمان العبيدي بطل حادثة جسر الائمة فكان موته من افضل الانواع وصار يقال المجد والخلود له وللشهداء الابرار ، كما مات اناس في عمليات انتحارية استهدفوا فيها رجالا ونساء واطفالا ابرياء .
ايه كفى بالموت واعظا ، فقد فرق بين الاحبة وهدم اللذات واخذ فيمن اخذ الانبياء والصالحين والملوك والرؤساء ، اذن فالموت يدرك الجميع ولو كانوا في بروج مشيدة وما اجمل قول الشاعر :
اين الوجوه التي كانت منعمة دونها تضرب الاستار والكلل
وحدث ان تاخر شخص عن اللحاق برحلة طيران فظل نائما في فراشه، وعندما علمت الزوجة التي استيقظت هي الاخرى متاخرة بما حدث للطائرة التي كانت ستقل زوجها حيث انفجرت في الجو ومات جميع ركابها ، فرحت واستبشرت وذهبت الى زوجها توقظه فلم يستيقظ ، ووجدته قد فارق الحياة في فراشه .
وعندما سئل احد الجبناء عن سبب تقاعسه عن الجهاد ،فقال : انا اخاف من الموت واهرب منه فكيف اذهب اليه برجلي ، قال ذلك وهو لا يدري بان الموت يطلبه وآخذه لا محالة ، ويقال ان رجلا قام بتقديم واجب التعازي لجاره بوفاة زوجته ثم تزوج باخرى فماتت ايضا فذهب الى تعزيته وتزوج بثالثة وماتت هي الاخرى فلم يذهب صاحبنا ليعزيه هذه المرة فسالته زوجته عن السبب فقال اخاف ان يحس جاري بالحرج مني لانني عزيته مرتين ولم يحصل له الشرف ليعزيني مرة واحدة في هكذا مناسبة .
وقد قيل ان مصائب قوم عند قوم فوائد ، فقد كثر في العراق في الاونة الاخيرة من يمتهنون الغسل والدفن وحفر القبور باعتباره تجارة رائجة ولا تحتاج الى راسمال ، والظريف بان هؤلاء يدعون عقب كل صلاة ان يرزقهم الله من حيث يحتسبون ولا يحتسبون ، وبمعنى آخر انهم يدعون لتكثير الموتى حتى يعيشوا ولله في خلقه شئون ، ويذكرني قول الشاعر وهو يخاطب زوجته:
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار
يذكرني بعدة وفيات لنساء صالحات تركن ازواجا وذرية ضعافا بسبب اصابتهن بمرض العصر الفتاك( السرطان) واوصت احداهن بدفنها في الغربة حتى لا ينسى العالم محنة الشعب العراقي.
فسقى الله قبور المنافي وانبت حولها زهور النرجس والاقحوان .
aabbcde@msn.com