.
المقاله تحت باب في السياسة في
02/04/2015 06:00 AM GMT
لن ينسى العالمُ، والإنسانُ، لقرون، ما فعله داعش في متحف الموصل ومنطقة النمرود، وفي شواخص هذه المنطقة العظيمة، آثار الحضارة الآشورية ومملكة الحضر. ولقرون، ستبقى هذه المشاهدُ ندبة سوداء أخرى في تأريخ البشرية وضميرها، يزوّدها العراق بها. أنا أقدّر كلًّ الأحاديث التي حفّت بهذه المشاهد، والتي أنتجتها هواجسُ، وآمال، وطموحات، أفهم الالتباسات المحيطة بالمشهد كله، أن الأفلام والأخبار التي بثّها داعش عن تدمير الآثار قد لا تكون دليلاً على حقيقة ما حلّ بها، بقدر ما أنها تريد أن تخفي تجارةَ آثار منظمة، توّرط بها داعش، بحثاً عن موارد مالية، وأصبحت حقيقة دولية، أتفهم من ذكّرنا بأن داعش يقتل الآلاف من دون رحمة، والبشر أولى من الحجر، وأتفهم من أراد أن يبقي خيطا من الأمل بأن ما دمّره داعش من القطع الآثارية هي أعمال مقلّدة، وأنا أعرف أن داعش لا يهمّه التمييزُ بين الأصل والتقليد، أفهم كل هذا، ولكنني أعتقد أن هذا كله، بل أي تحليل أو فهم، لا ينبغي أن يثلم طقسية اللحظة التي وَضَعَنا فيها هذا المشهد: لعلّ أكثر ما نحتاجه، الآن، هو إيقاد شمعة للإنسان الغائب فينا، . . للوحشية التي انطلقت من دواخلنا مجددا. غداةَ بث داعش فيلمَ تدميره آثارَ الموصل، تساءل عدد من الأصدقاء المثقفين عما يمكن أن نفعل في مواجهة هذه البربرية، قلت إنني أخشى أن يكون أيُّ بيان، أو موقف، أو مبادرة، نتخذها كأنه رطانة أجنبية، لا يفهمها المجتمع، . . كأنه حديث عن قيم غريبة. المجتمع، الذي جُرّفت قيمه الروحية لعقود، لم يبال بتفجير مرقد النبي يونس، وهو جزء من هوية المدينة، ولم أكن أحسب أنه سيقف صامتا على مثل هذا الاعتداء على هويته، حتى وإن اعتنق المجتمع كله الإيديولوجيا السلفية، التي تحرّم بناءَ القبور والمراقد. ولا أظن أن المجتمع سينتفض لتدمير آثاره. ولذلك، لم أكن مع التركيز على إجرام داعش وبربريته، التي ليست محلَّ جدل، بل كنت مع مخاطبة المجتمع، الذي تُرِك عاريا من أية قيمة، متى سيقول: لا لداعش، مع كل ما في داعش من سطوة ووحشية؟ متى سيدع الالتباسات السياسية التي أحاطت بتغوّل داعش جانبا، ولا يرى إلا أن داعش هو عدوان سافر بحقه؟ لمَ يبدو كثيرا علينا ما فعلته شعوب قريبة لنا، بحق أنظمة وحشية، مستبدة، كداعش؟ وفي العمق، يقدّم مشهدُ متحف الموصل (بشكل عرضي، ولكن، بكثافة عالية) أزمة الهوية العراقية. مشهدُ ذلك الشاب، وهو يهوي بمطرقته المدمّرة على رأس أحد تماثيل مملكة الحضر، بكل حماسة، يحكي الكثيرَ والكثير، أوسعَ وأبعد من مجرد تنفيذ رؤية إيديولوجية عن التماثيل. ما بين حركة المطرقة إلى أقصى يديه، ثم إلى رأس التمثال، عقود من التجهيل، والإفقار الإنساني، وتجريف القيم الروحية، . . في هذه المسافة، ثمة النظام الذي لم يؤمِّن المشاركةَ السياسية، وثمة العائلةُ التي لم تعلِّم احترامَ الشأن العام والملكية العامة، ثمة الثقافةُ الذي ظلّت تلقّنه بأنك يمكن أن تكون امتلكتَ الحقيقة، وعليك أن تنشرها بما قدرت، ثمة الروح التي ظلّت تصوّر له بأنك يجب أن تطبق ما تعتقد أنه العدالة، بما استطعت من أسلحة ومطارق، . . في هذه المسافة، ثمة الدولة، التي ترك غيابُها التمييزَ بين المجال العام والمجال الخاص سائباً وغير واضح، ثمة المدرسة التي لم تستطع أن تكرس فيه الانتماءَ إلى عصره، . . ثمة الوطن، الذي تبدّد، ولم يستطع أن يكون هوية، أو تعريفا، أو ملامح. حين نقول إن داعش هو تعبير عن أزمة ثقافية وأخلاقية، نكون قصدنا كل هذا، لا القيم الدينية وحدها، كما يخشى أولئك المتدينون، الذي طوّروا بينهم وبين أنفسهم نسخة من الإسلام جعلتهم في حدود سلام داخلي، ولم يستطيعوا أن يتصوروا أن هناك نسخا من الإسلام تنتمي إليه بنفس المنطق والوجاهة. داعش هو تعبير عن أزمة ثقافية وأخلاقية، أبعد وأوسع من الإسلام، القيم الدينية جزء منها، وجزء أساسي بكل تأكيد، ولكنها ـ أيضا ـ تشمل التربية، والتنشئة الاجتماعية، والثقافة ـ بما هي طريقة حياة ـ، والسياسة، والهوية. ومشهد تدمير آثار الموصل كان مشهدا صارخا في أزمة الهوية، فيما يسمى "العراق": كان أولئك الشباب، الذين أخذتهم الحماسةُ في تدمير شواخص الحضارة الآشورية ومملكة الحضر، يرتدون زيا غير معروف في العراق، مقتبساً من تقاليد آسيا الوسطى، ليصبح ـ شيئا فشيئا ـ لباسا سياسيا، وجزءا من الهوية الرمزية لما بات يعرف بـ (السلفية الجهادية)، التي تشمل سلسلة من التنظيمات الراديكالية (القاعدة، طالبان، داعش، جبهة النصرة، . .). كان هؤلاء العراقيون يرتدون هذا الزي الأجنبي، ليدمروا ما كانت السردياتُ الوطنية تريد أن تجعله مصدرا للهوية الوطنية. العراقي، الذي كان يدمّر متحفَ الموصل، لم يحس بأن هذه التماثيل جزء من هويته، بقدر ما أن الزي الأفغاني ـ في لحظة ما ـ هو الذي صاغ حدودَ هويته ورسمها. وحين وضعت كلمة (العراق) بين مزدوجين، في الفقرة السابقة، كما أفعل الآن، فإنني أريد أن اكتب موجات من الشك في مصير هذه السرديات الوطنية، والى أي حد نجحت في بناء هوية متماسكة لـ (العراق). هذا الجيل هو التعبير الأوفى عن مصير الهوية الوطنية، التي لم يفككها تغولُ الهويات الإثنية فقط، بل الانتقام المستمر مما يفترض أنه هويتنا الوطنية الجامعة: ترتدي زيا أجنبيا، تعتقد أنه هويتك، لتدمر آثار الحضارة التي وُجدت قبل آلاف السنين، على الأرض نفسها التي وجدتَ أنت عليها. افترض كثير من الباحثين أن التأريخ الرافديني ما انفك خاضعا للاستعمالات الإيديولوجية، وأن الهوية الرافدينية للعراق الحديث ليست هوية طبيعية، بل هي مشروع إيديولوجي، صنعته توجهات سياسة وإيديولوجية حديثة. ومع ذلك، ظلت هذه الهوية وعداً غير مكتمل، ومشروعاً متعثراً، غيرَ ناجز، كالحداثة، والتنمية، والأمة، وسائر المفاصل التي أقيم عليها (العراق). ولذلك، ما أسهلَ وما أسرعَ أن تتبدد هذه الهويةُ ورموزها، على يد شاب عشريني أو ثلاثيني، يتاجر بها إلى خارج الحدود، أو يحطّمها بحماسة، لأن المعنى الذي صنعها ظلّ غريبا على هذا الشاب، مفهوما فارغا، بإمكان أية إيديولوجيا نقيضة أن تملأه وتعيد تعريفه، بوصفه صنماً، أو كفراً، أو شركاً، أو لقية، أو . . أي شيء ممكن، إلا إنه هوية.
|