نحر مدينة الموصل : قطع رأس العراق |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات الصورة : المتحف الحضاري في الموصل
إن سقوط مدينة الموصل بأيدي تنظيم متوّحش متخلّف يعدّ جريمة تاريخية لا يمكن ان تغتفر ابدا مهما تبجح الساسة سواء كانوا من القدماء ام الجدد ، ومهما تمنطق الحاكمون للعراق ( الجديد ) .. ناهيكم عن الموقف الدولي المخزي من العراق وتدميره مع سكانه ، ومن قبله الموقف العربي اللامبالي بما يحدث منذ ثمانية اشهر مضت لمدينة عريقة مثل الموصل التي سقطت بأيدي " تنظيم" لا يعرف الا الموت والدمار . تعد الموصل من امهات مدن الشرق عراقة وتاريخا وحضارة .. بل وكانت أم الربيعين على امتداد التاريخ رأسا للعراق – كما وصفها المؤرخ لونكريك – ويكفي ان يقرأ المرء تاريخها السياسي والحضاري معا ليقف على حياة دول قوية متسلسلة وتطور حضارة كاملة متواصلة عبر التاريخ من خلال مركزية الموصل ، ناهيكم عن خصوصياتها الاجتماعية الحضرية وما تميزت به عبر الاحقاب سواء بعلمائها ومدارسها وشعرائها وفنّانيها واصناف اهلها وتنوع ديانتهم ومذاهبهم واعراقهم وتعايشهم الرائع عبر الزمن ، فضلا عن مكانتها الاستراتيجية في التاريخ الاقتصادي للبشرية اذ كانت اسما على مسمى ، فالموصل تصل الشرق بالغرب برا ونهرا فهي نقطة محطة قارية لطريق الحرير في العالم منذ العصور القديمة .. ولقد عدّت من اقدم مدن الشرق التي استوطنها الانسان وبقيت حية لم تمت حتى اليوم .
ولقد واجهت الموصل على امتداد تاريخها الحافل جملة هائلة من التحديات السياسية والحربية ناهيكم عما كان يضربها من حين الى حين من موجات طبيعية كالكوارث والطواعين كانت آخرها في ابان الحرب العالمية الاولى حيث عانت من مصائب لا تحتمل ، كما ازدحم تاريخها بالحصارات والحروب والمآسي الداخلية سواء من غزاة الشرق ام من دخلاء البادية المتخلفين .. وكانت قد عاشت عام 1959 – 1963 مأساة الانقسام السياسي المرير بين الشيوعيين والقوميين ، وما تعرّضت له من تدمير واغتيالات ومؤامرات وحرب ونهب ودمار وهجرات قوية لسكانها من المسلمين والمسيحيين . ولكنها مدينة لم تمت ابدا ـ اذ كانت تخرج في كل مرة سالمة متعافية ومتجددة .. واليوم وبعد ان عانت من حروب المرحلة السابقة كما عانت غيرها من مدن العراق ، ولكن الموصل تعرضت لأقسى حالات التمزق والرعب بعد شهور من الاحتلال الامريكي وسقوط النظام السابق واصبحت مرتهنة بأيدي الارهاب وعانت من مخاض التحديات الجديدة التي فرضتها اجندة الحكم المشبعة بالكراهية والاحقاد لتنتج ردود فعل دموية مع تفسخ متبادل بين الاطراف وكان ضحاياه الابرياء من الاهالي .. ولعل الهجمة البربرية التي تعرضت لها مؤخرا جراء استهتار الحكومة العراقية المركزية السابقة ، واستهتار القيادة العامة للقوات المسلحة وكل من قيادات وزارتي الدفاع ومسؤولي الداخلية ببغداد .. قد ادى الى سقوطها بيد تنظيم متوحش لا صلة له بحياة العصر ، وقد اطلق عليه اسم ( داعش وهو مختصر : الدولة الاسلامية في العراق والشام ) ، والذي جاء ليفرض سطوته البشعة ومعتقداته السوداء ليس على اهل مدينة عريقة وسحق تقاليدهم وعاداتهم بل لتدمير رموز مواريثهم وسحق شواهد تواريخهم وجوامعهم ومعابدهم وكنائسهم ومكتباتهم ورموز حضارات آبائهم واجدادهم .. بعد ان قام ولم يزل بقتل نسوة ورجال من الموصليين بتهم تافهة ، وسحق المرأة وتدمير نفسيتها وتقييدها واهانتها ، وما فعله الغرباء ضد التعايش التاريخي الاهلي بين الناس في الموصل وتوابعها وضربه الجميع بلا مبرر وافراغ المدينة من اهلها المسيحيين وسحق اليزيديين والعبث بنسوتهم بلا اي وازع من ضمير ، وتم تهجير قرابة نصف سكان المدينة والعبث بممتلكاتهم والسيطرة على موجوداتهم ظلما وعدوانا .. واعلانهم للتحريم في كل مرافق الحياة باسم الاسلام ! وستكشف الايام في المستقبل من يقف وراء هذه الصناعة المنظمة لهذا التدمير ، ولماذا كانت الموصل هدفا استراتيجيا له ؟ دعوني اتكلم قليلا عن المتحف الحضاري في الموصل ، اذ لم يزل عندي اطلاع على اقسامه ومحتوياته ولكن منذ زياراتي له قبل اكثر من 30 سنة مضت : ان تدمير المتحف الحضاري في الموصل يعد جريمة كبرى في التاريخ ، ولا يمكن ان تغتفر ابدا مهما كانت الاسباب .. ان اسمه الحقيقي هو المتحف الحضاري في الموصل وكان قد جددت بنايته عام 1972 على اطلال مبنى متحف الموصل القديم الذي كان يديره المؤرخ المعروف الاستاذ سعيد الديوه جي .. كان المتحف القديم يقتصر على قاعتين اثنتين فقط على الشمال من بابه وعلى اليمين .. اما المبنى الحضاري الجديد ، فهو يعد أحد أهم المتاحف في العراق ، ويأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد المتحف العراقي في بغداد . لقد قام تنظيم داعش بتدمير المتحف الحضاري حيث كانت بنايته الجديدة تضم 4 قاعات كبرى أحدها للآثار الكلاسكية القديمة ، وأخرى للآثار الآشورية المتنوعة ، وثالثة للآثار الحضرية القديمة ، والأخيرة للآثار الإسلامية المتنوعة ، اذ يتألف من اجنحة اساسية جناح يتميز بالقاعات التي تحوي الاثار الكلاسيكية القديمة ، وهناك موجودات نادرة من مخلفات الحضارة الاشورية بأقسامها في نينوى والنمرود وخرسباد واشور وكالح .. وبعض مخلفات مكتبة اشور بانيبال وهي اول مكتبة في التاريخ وهناك آثار تخص مملكة عربايا القديمة في مدينة الحضر جنوب الموصل واطرافها .. تلك المستكشفات التي تعب من اجل اخراجها من تحت الارض العديد من المنقبين والآثاريين الاركيولوجيين الاجانب منذ القرن التاسع عشر ، والعراقيين لاحقا في القرن العشرين ، وكان من ابرز المستكشفين هنري لايارد وراولنسون وبوتا ورسام ومالوان وغيرهم .. وهناك جناح يتميز باثار الموصل في العهود الاسلامية الزاهية على امتداد اكثر من 1400 سنة وبكل مخلفات العهود الاموية والعباسية كالنقود والمنمنمات وجملة من آثار العهود العقيلية والحمدانية والاتابكية الزنكية ثم عهد بدر الدين لؤلؤ وجملة من الاثار النحاسية والاواني والمزخرفات والخطوط وصولا الى العهد العثماني الطويل وآثار الموصل فيه .. ان متحف الموصل الحضاري هو من اغنى المتاحف العراقية لقيمة محتوياته وكنوزه من الاثار الصخرية والذهبية والمعدنية وشتى صنوف الفن والعمار وفي الطابق الارضي هناك مكتبة المتحف وهي مكتبة غنية جدا بمأثوراتها وكنوزها من المخطوطات والاعمال والرسوم والكتب النادرة . انها مكتبته القديمة العامرة التي كنا نستخدمها عندما كنا طلبة ناشئين ، وكانت امينتها هي الاستاذة ناثرة الصراف التي امتازت بحرصها على كل ورقة وكل كتاب في ارشيف المتحف . وكان المتحف الحضاري في مدينة الموصل قد تعرض كباقي متاحف العراق ومؤسساته الحيوية الاخرى مع سقوط النظام السابق عام 2003 الى العبث ، اذ لم يسلم من السرقة المنظمة التي طالت بعض معروضاته النفيسة خلال احداث نيسان / ابريل عام 2003 والتي لم تسترد لحد الآن، ومنذ ذلك التاريخ اقفلت أبواب المتحف دون أية صيانة تذكر، إلا أنه بقي مفتوحاً منذ ذلك الوقت لزيارات محدودة اقتصرت على الوفود الرسمية وطلبة الآثار والتاريخ فقط، وذلك حسب تصريحات بعض المسؤولين في ذلك الوقت. ولقد قامت عدة محاولات لإعادة تأهيل المتحف الحضاري ، وافتتاحه أمام الزوار من جديد كما كان هناك العديد من المطالب بإعادة تأهيل المتحف من قبل السكان والهيئات المحلية. ولعل اهم الآثار الموجودة في المتحف الحضاري تلك الثيران المجنحة التي تعد رموزا للموصل حاضرة نينوى عبر التاريخ . ويتمنى البعض من العراقيين اليوم هذا اليوم ، لو كان كل من الانكليز والفرنسيين والالمان قد اخذوا كل الاثار العراقية برمتها الى بلدانهم ، فقد اعتنوا جدا بما اخذوه وخصصوا له جملة من المتاحف الكبرى في العالم ، بدل ان تبقى آثار العراق لدى العراقيين كي تصبح عرضة للتحطيم والتدمير والنهب ، وهي من اغلى كنوز الدنيا ! ان ما جرى قبل ايام في تخريب هذا المتحف على أيدي داعش يعد من جرائم التاريخ الكبرى ، ففي يوم 26 شباط / فبراير عام 2015 قامت مجموعة من الأشخاص المسلحين بالدخول إلى المتحف و رددوا شعارات وألفاظ تبين تحريم التماثيل الموجودة في المتحف وأنهم سوف يقومون بتحطيمها مهما بلغت قيمتها وقد أجمعت أغلب حكومات العالم على أن تنظيم داعش وراء هذه العملية . ولكن ؟ اين صوت العالم ؟ اين هي المنظمات الدولية الراعية للثقافات البشرية ؟ اين هو صوت وزارة الثقافة في العراق ؟ اين صوت حكومة العراق في كل ما يحصل ؟ اين هو صوت العراقيين المثخن بالجراح والتمزق ؟ ولماذا يتشمّت البعض من العراقيين بما حدث ؟ ان كنوز العراق تحطم على مرأى ومسمع العالم .. فهل الادانة كافية ؟ وهل تكفي ردود افعال تجري على استحياء من خلال فضائيات عربية ودولية او صحف يومية ؟ ماذا سنقول للأجيال القادمة في الكارثة الحاصلة وردود الفعل البليدة ؟ مدينة عريقة تنحر على مرأى ومسمع العالم من دون أي اهتمام يذكر ! اخيرا اقول ، بأن تحرير الموصل ام الربيعين من كارثتها التاريخية ومن محنتها المأساوية الدامية سيغير ليس وجه العراق حسب ، بل سيغير وجه تاريخ المنطقة بكاملها ، كما حدث في حوادث سابقة مضت في التاريخ .. فمتى سيعتدل التاريخ من كبوته ؟ ومتى يفيق الناس من هول ما يحدث ؟ |