تقديم: تذكارات عدة لحرب واحدة

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
24/08/2013 06:00 AM
GMT



مرة أخرى، ثمثل حربُ الثمانينيات، التي خاضها العراقُ ضد إيران، ملفاً عجز أمامه الجهدُ البحثي العراقي، فباستثناء عدد قليل جدا من الدراسات، وكتب لا يتجاوز عددُها عددَ أصابع اليد الواحدة، لم يهتم الباحثون العراقيون بأثر هذه الحرب الطاحنة في العراق، مجتمعاً، ودولة، وسياسة، واقتصاداً. ومرة أخرى، أفسّر الأمر بأن الأحداث المتسارعة والدامية، منذ تلك الحرب وإلى هذه اللحظة، لم توفر فضاء نقيا تتنفس فيه رؤى فكرية وبحثية ناضجة.

غير أن الأكثر إثارة في هذه الحرب هو أنها تبدو أشبه بالمنطقة الخرساء في تأريخ العراق، أغلب الأطراف لا تريد الحديث عنها، فهي تُعَدّ إحدى أكثر النقط عسراً وعصياناً على أن يُبنى عنها سرد وطني عراقي، فإيران الإسلامية، ذات النزعة الإمبراطورية التوسعية، هي نفسها التي احتضنت قوى سياسية عراقية، شيعية وكردية، كان نظامُ صدّام حسين قد باشر فتكاً شديداً بها. وبعضها قاتل القواتِ العراقية، إلى جانب الإيرانيين. وإذا كانت هذه الحربُ لا تنفصل عن السجل الدكتاتوري لصدام حسين ونظام البعث، فإنها كانت، كذلك، جزءاً من السجال الطائفي المتصاعد في العراق.

كان يثيرني، وأنا ألتقي بعدد مهم من القادة الكبار للجيش العراقي آنذاك، أنهم يحدثونك بتفصيلات مهمة عن الحرب، ولكن، لا أحد منهم مستعداً لأن يكتب ما يحدثك به، يحدثونك باختلاف المناوشات الحدودية القائمة منذ نيسان 1980 عن البداية الفعلية للحرب أواخرَ أيلول، ويحدثونك بالتعاون الاستخباري مع الولايات المتحدة، منذ سنة 1983، ويحدثونك بأن الحرب قادت إلى تضخم المؤسسة العسكرية العراقية، بما أقلق صدّام حسين نفسه، ولكن، لا أحد يفكر، ولو للحظة، بتدوين ذلك. لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن هذه التفصيلات شيء، وهيبة العراق، وطناً، ووجداناً، وتأريخاً، شيء آخر، صدّام حسين شيء، وكفاءة وكرامة الجيش العراقي والجندية العراقية شيء آخر، الدكتاتورية شيء، ومبدأ الدفاع عن العراق وحدوده، أيّا كان نظامُه السياسي، شيء آخر.

نعم، الجدلُ على الحرب يبدأ من معناها، هل كانت دفعاً غربياً لمواجهة الثورة الإسلامية في إيران؟ أم كانت شكلاً من أشكال (الاحتواء المزدوج) لهذين البلدين الكبيرين، الغنيين، والطامحين بشكل مريب؟ هل كانت تعبيراً عن قلق عربي من تمدد الثورة الإسلامية؟ أم كانت نتيجة حتمية للنزعة التوسعية الإيرانية ومحاولة تحريك الإسلام السياسي الشيعي؟

الأكيد أن الحرب جاءت في (وكانت جزءاً من) سياق واسع، بل كانت التعبيرَ الأكثر صراحة عن حزمة معقدة من التحولات، ليس فقط في أنها أتت مع الذروة الكبرى لصعود الإسلام السياسي، الشيعي منه تحديداً، والتي تتمثل بالثورة الإسلامية في إيران (وبعض الباحثين يعتقدون أن كل هذه التحولات هي استجابة لحدث الثورة)، بل ـ كذلك ـ إنها أتت مع سقوط الأنظمة الإيديولوجية العربية. وهذا لا يُعبَّر عنه بـ (اتفاقية كامب ديفيد)، التي وقّعتها مصرُ السادات مع إسرائيل، سنة 1978، بل بتحولات حزب البعث نفسه، فمع 1979، انتهى (البعث)، من حيث هو مؤسسة إيديولوجية، ولم تعد السلطة تستند إلى التنظيمات الحزبية، بل ـ تدريجياً ـ إلى العلاقات القرابية. ومع خفوت دور الأنظمة الإيديولوجية العربية، صعد الدور الخليجي بوصفه فاعلاً سياسياً رئيساً في المنطقة. وعشية هذه الحرب، كان العراق يستعد لمغادرة المعسكر الاشتراكي وعلاقته بالاتحاد السوفييتي، ليقترب من المعسكر الأمريكي. وقد شهدت حربُ الثمانينيات عودة العلاقات الدبلوماسية بين العراق والولايات المتحدة، وتعاوناً عراقياً أمريكياً، على صعد عدة، وإيماناً أمريكياً نامياً بأن صدّام حسين يمكن أن يكون رجلَ أمريكا الأقوى في المنطقة.

ولذلك، يكون صحيحاً أن نقول إن الحرب لم تبدأ في أيلول 1980، بل ربما في شباط 1979، مع الثورة الإسلامية، أو في تموز 1979، مع إقصاء صدّام للرئيس، أحمد حسن البكر، وتسلمه المسؤوليات كاملة، أو في نيسان 1980، مع إعدام محمد باقر الصدر، أو سوى ذلك من تواريخ.

ثمة أكثر من بداية، لحرب واحدة، لم نكتب سيرتها بعد. لا أقصد، هنا، تأريخها العسكري، تأريخ معاركها، وضحاياها، وقادتها، بل تأريخ المجتمع والدولة على ضفافها.

وإذا كنا نكرر، دائماً، أن الدولة هي العنصر المحوري في الحراك الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي، في العراق، فلعل الدولة، ما بعد 1980، لم تعد على الحال التي كانت عليها قبل هذا التأريخ. ولذلك، يكون الأكثر أهمية، في دراسة الحرب العراقية الإيرانية، ليس الجدل على مَن بدأها، أو مَن انتصر فيها، بل تحولات شكل الدولة ووظيفتها، بعد (وبفعل) هذه الحرب: هل استمر الجوهرُ الريعي للدولة، كما كان في السبعينيات؟ ما معنى أن يقدم صدّام حسين، سنة 1987، حزمة من الإجراءات لتخفيف دور القطاع العام، يسمّيها (الثورة الإدارية)؟ هل هذا دليل على (ضعف الدولة)؟ كيف استطاع النظامُ أن يخلق مركبا، بدأه في الثمانينيات، واستمر إلى التسعينيات، يتمثل في (دولة غير كفوءة، أو ضعيفة/ سلطة أشد فتكاً)؟ وهذا يشهد عليه النموُ الاستثنائي للمؤسسة العسكرية، ومرحلة الإبادة الجماعية (1988 ـ 1991)، وعسكرة الإدارات المحلية في المحافظات العراقية، منذ 1991.

وإذا قبلنا بهذا المنظور، فسيكون علينا ـ منهجياً ـ أن نتعامل مع حرب الثمانينيات وحصار التسعينيات بوصفهما حقبة زمنية واحدة. حربُ إيران أحدثت، بالفعل، انعطافة حقيقية في تأريخ العراق، عن السبعينيات، وما قبلها، ولكن روحها امتدت إلى التسعينيات، ليشكلا ـ معاً ـ حقبة واحدة، لم تنته إلا في 2003، سواء في تركيبة السلطة، أو أساسها الاقتصادي السياسي.

الأكيد، أيضاً، أنها أطلقت نزفاً عراقياً لم يتوقف، حتى حين تغيّرت وجوهُ قادتها ومحاربيها.

بقيت الضحيةُ، كما هي، تعيش الحربَ من جديد، في كل بداية تُستأنف بها.