.
المقاله تحت باب في السياسة في
17/05/2012 06:00 AM GMT
لم أكن، قبلاً، أملك كثيراً من التعاطف مع أفكار كنعان مكية. كنتُ، حينها، واقعاً تحت تأثير إدوارد سعيد ورؤيته لـ (المثقف) ووظيفته. وسعيد كان يرى في مكيّة أنموذجاً للمثقف الذي يضع أفكارَه في خدمة السلطة، ممثلة بمشروع سياسي إمبريالي. غير أن محاولة سعيد لإعادة تعريف (المثقف)، وهو ما بدأتُ أفهمه الآن، ظلت خطوة غير مكتملة، ومشروعاً ناقصاً، لا يزال يحمل بقايا رؤية طهرانية، عن (مثقف) متعال، انعزالي. وهو لم يستطع أن يطوّر رؤية مغايرة لـ (وسائل) المثقف، مع أن فكرة (المثقف) الغرامشية انفتحت به على رؤية تعيد دمج المثقف بحركة التأريخ. ولذلك، كان يعيب على مكية ارتباطاته السياسية، بمعنى أن سعيد لم يميِّز بين المثقف الذي تلتقي أفكارُه مع مشروع سياسي محدّد، والمثقف الذي يُنتج أفكارَه ويغيّرها تنفيذاً لإرادة سياسية ما. الأمران مختلفان. ومكية ينتمي إلى الفهم الأول، بكل تأكيد. لأذكِّر بأنه نشر كتابَه (جمهورية الخوف) سنة 1989، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة (والغربُ كله) تؤمن وتعوّل وتعمل على أن يكون صدّام حسين حليفَها الأهم في الشرق الأوسط. لا أريد أن أعيد السجالَ بين سعيد ومكية، الذي حفّ به كثير من الديماغوجيا وكثير من المواقف السياسية، وابتعدَ عن حدود الحقل المفهومي الذي انطلق منه، وهو (علاقة المثقف بالسلطة والسياسة). وقد انتهى كثير من هذا السجال إلى جدل بيزنطي: هل كان بإمكان الشعب العراقي أن يُسقط نظام صدّام بمفرده، أم أنه كان مضطرا إلى الاستعانة بقوة عسكرية أجنبية؟ هل كان هدفُ حرب 2003 هو السيطرة على النفط العراقي وتدمير نظام معاد لإسرائيل، أم أن ثمة أهدافاً استراتيجية أخرى؟ هل التدخلُ العسكري الأمريكي في العراق امتداد للمشروع الإمبريالي التقليدي، أم إنه نتاج عالم جديد، هو عالم ما بعد الحرب الباردة؟ لا أريد أن أعيد كل هذا السجال، الذي خاضه مثقفون كثر، عرب وغير عرب، حول العالم، ولكنني أودّ أن أصحّح وهماً شخصياً، رافقني طويلاً. لقد حُمِّل مكية مسؤوليةَ أن الولايات المتحدة استعملت أفكارَه، ولا سيما كتابه (جمهورية الخوف)، حين أصبح صدّام عدوَّها الأول، بعد غزوه الكويت. وقد ذكّرت، آنفاً، بأنه كتب هذا الكتابَ، والولاياتُ المتحدة كانت تتجه اتجاهاً آخر. وبالعكس، أنا أتصوّر أن الاستعمال السياسي الأمريكي للكتاب أضرّ به، فقد اختزله إلى مجرد وثيقة وصفية لممارسات سلطة البعث، في حين أنه ـ في تصوّري ـ أراد أن يطرح سؤالاً أعمق بكثير، يخص روح الدولة العراقية الحديثة: كيف أصبح العنفُ هو لغة السياسة في العراق؟ وكيف تحوّل من كونه وسيلة، سواء للإخضاع والقهر، أو بوصفه شرّاً لا بد منه والقابلة التي تلد التأريخ، إلى أن يكون غاية بذاته؟ ومن ثم، حاول مكية أن يحلّل كيف تحوّلت مؤسساتُ العنف إلى جزء جوهري في جسم الدولة. وإلى جانب هذا، قدّم مكية حالة استثنائية لمثقف، لا أقول إنه صحّح أفكارَه أو أقرّ بخطأ بعضها (وأنا نسبي، لا أؤمن بأن ثمة حقيقة مطلقة)، وسط ثقافة لا تؤمن بالاعتراف والبوح ولا تمارسهما، بل أقول إنه كان حالة فريدة لمثقف استطاع أن يراجع أفكارَه وينقدها، بوضوح، وجرأة، وصراحة. وقد كان ما كتبه في مراجعة ونقد تجربة العراق ما بعد صدّام وثيقةً مهمة لمثقف نقدي، لا يقف حبيسَ ديماغوجيا تبرّر وتدافع عمّا كتبه في سياقات مختلفة ومغايرة.
مكية والثورة السورية قبل نحو أربعة أشهر (مطلع شباط 2012)، قدّم كنعان مكية مداخلة في مؤتمر عُقد في واشنطن تحت عنوان (ما الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تفعله في سوريا؟)، وهو جزء من الجدل الواسع الذي تعيشه الأروقة السياسية والفكرية الأمريكية على طريقة التعاطي مع الثورة السورية واستعصائها. مداخلةُ مكية كانت تحت عنوان (التدخل في سوريا ضرورة أخلاقية وإنسانية)، وقد حاول أن يقدّم فيها فكرة أساسية، وهي أن على الولايات المتحدة أن تسارع إلى التدخل العسكري في سوريا، لأنها إذا لم تفعل، فإنها ستسمح لنظام الأسد بارتكاب مذبحة بحق المدنيين، لا تقل وحشية عن المذبحة التي ارتكبها نظامُ صدّام في العراق في آذار 1991. وهو يعتقد أن هذا التدخل هو "ضرورة أخلاقية وإنسانية أكبر من مصالح أية دولة، وأبعد من أية حسابات استراتيجية". من المؤكد أن مكية يدرك أن سياسة الولايات المتحدة لا تقوم على (اعتبارات مبدئية)، بل على (مصالح استراتيجية)، وأن التيار الوحيد الذي آمن بـ (سياسات مبدئية)، بشكل استثنائي، هو تيار المحافظين الجدد، الذي كان له الدورُ الأكبر في التخطيط لحرب إسقاط نظام صدّام، بوصفها (حرباً مبدئية)، تحركها مبادئ الدمقرطة، والحرية، واقتلاع الاستبداد، ولكنه أراد أن يحذر الولايات المتحدة من أنها إذا لم تتدخل عسكرياً في سوريا، فإنها ستكرر (خطأ 1991)، الذي اعترفت هي نفسها، بتياريها المثالي والواقعي، بأنها أخطأت حين وقفت تتفرج على قوات الحرس الجمهوري وهي تذبح عشرات الآلاف من العراقيين، بدعوى أن أهداف حرب تحرير الكويت تنتهي عند حدود الكويت وانسحاب الجيش العراقي منها، وأن إسقاط نظام صدّام لم يكن ـ أبداً ـ من أهداف هذه الحرب، فضلاً عن أنها كانت تخشى من أن يرث نظامَ صدّام نظام ديني موال لإيران. ولعل هذا هو ما كان مكية يحذر منه: لا ينبغي للولايات المتحدة أن تُحجم عن التدخل العسكري في سوريا خضوعاً لاعتبارات استراتيجية، . . الخوف من صعود الإسلاميين إلى الحكم، أو نظام يهدد أمنَ إسرائيل. مَن كتب هذا المقال هو مكية الأول، الذي لم يشهد تجربة العراق ما بعد صدّام، ولم يراجع أفكارَه بعد، فهو يحذّر من (خطأ 1991)، ولم يفكر بـ (خطأ 2003)، كأنه لم يكن شاهداً عليه. نعم، كان التفرج الأمريكي على مذبحة 1991 موقفاً غير مسؤول، وأكثر، ولكن تجربة 2003 علّمتنا درساً في غاية الأهمية، وهو أن إسقاط نظام استبدادي، بيد قوة عسكرية أجنبية، من دون أن يكون ثمة إجماع وطني على شكل التغيير، ولا على شكل نظام الحكم ما بعد التغيير، سيدخل في نسيج الانقسام المجتمعي، وسيُطلق صراعات دامية على السلطة. وبالتكافؤ، إذا كان تركُ شعب منفرداً أمام آلة عسكرية نظامية وحشية سيودي بعشرات الآلاف من الضحايا، فإن تغيير نظام حكم استبدادي، في مجتمع منقسم، كالعراق وسوريا، من دون ترتيبات سياسية ذات إجماع وطني، وتوافقات على شكل نظام الحكم المستقبلي، سيودي ـ أيضاً ـ بعشرات الآلاف من الضحايا، التي تخوض صراعاً رسالياً على السلطة، وهو ما كابده العراق، في حرب أهلية نمطية، عاشها سنتي 2006 و2007. أقدّر أن تجربة العراق ما بعد صدّام كانت خارجَ تفكير مكية حين كتب هذا المقال، وإلا، فإننا سنتصور أنه يقبل بتبرير ما لعنف الحرب الأهلية، لأنه لم يذكره ولم يفكر به، وهو الذي جعل من كتابه (جمهورية الخوف) مواجهة للعنف، بما هو، وبأية كيفية كان، ومهما كانت غايته. وإذا كان هذا التبرير ينطلق من أن عنف الحرب الأهلية هو تطهير لعنف الاستبداد، فإنه يتطابق مع رؤية فرانز فانون، في كتابه (معذبو الأرض)، التي كافحها مكية نفسه طويلاً: "لا يزيل آثارَ العنف إلا العنف".
درسا 1991 و2003 لقد جرّ التفكير بخطأ 1991، دون خطأ 2003، إلى حزمة من المصادرات المنهجية التي تحكمت برؤية مكية للثورة السورية، فهو يحاجج، في هذا المقال، بأن المهم في الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا ليس كيفية التدخل العسكري الأجنبي (تدخل واسع النطاق، أو على نحو محدود)، بل توقيت هذا التدخل. المهم هو التدخل بذاته، لمنع كارثة إنسانية. وهنا، لا يسأل مكية إن كان هذا التدخل سيؤدي إلى كارثة إنسانية أخرى أم لا. لأوضح: أنا مع التدخل العسكري في سوريا، كما كنتُ مع إسقاط نظام صدّام بيد قوة عسكرية أجنبية، فأنا أؤمن بأن أنظمة، على غرار نظامي البعث في العراق وسوريا ونظام القذافي في ليبيا، لا يمكن أن تسقط إلا بتدخل عسكري غربي، فهذه الأنظمة صنعت (جمهوريات خوف)، وشعوباً مقهورة، ومدمّرة، ومسحوقة، عاجزة عن أن تواجه آلة أمنية جبّارة، كالتي صنعتها هذه الأنظمة لإرهاب شعوبها وإخضاعها. وقد أثبتت الثورةُ الليبية أنه كان من غير الممكن أن تمضي الثورة إلى نهايتها لولا التدخل الحاسم لقوات الناتو، الذي دمّر البنية الأمنية لنظام القذافي. إذن، المهم في سوريا هو التوقيت والكيفية معاً: توقيت التدخل العسكري الأجنبي، وكيفيته. وقد تكون الكيفية أهم وأولى. وأنا أزعم أن التفكير الاستراتيجي الأمريكي، الآن، يفكر بالخطأين معاً، فمن الواضح أن سلوك الولايات المتحدة ومواقفها من الربيع العربي وتفصيلاته، ولا سيما الثورتان اللتان صاحبتهما مواجهات عنيفة بين قوات النظام وقوى الثورة، في سوريا وليبيا، إنما يحركها ويتحكم بها هاجسُ العراق في حربيه. وللأسف، أن العراق، وضحاياه، وأرواح أهله، أصبحوا عبرة، . . عبرة استراتيجية. أقدّر، تماماً، أن الولايات المتحدة لن تكرر ما فعلته في 1991 و2003، فطريقة التدخل، في الحالين، أصبحت من الماضي. لن تقوم الولاياتُ المتحدة بتدخل عسكري يدمّر، بشكل شبه كامل، البنيةَ التحتية لبلد ما، على نحو ما فعلت مع العراق سنة 1991، ولن تفرض عقوبات يكون ضحيتها الشعب، لا النظام، على نحو ما فعلت مع العراق في التسعينيات، كما لن تغامر، بشكل مباشر، بإسقاط نظام. حين تدخلت الولاياتُ المتحدة، وقواتُ الناتو، في ليبيا غداةَ الثورة، عملت على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يجيز لها التدخل العسكري باسم (حماية المدنيين)، وقد بدا أن قوات القذافي الزاحفة إلى بنغازي سترتكب مذابحَ هناك، وهذا ما كان سيحصل، بالفعل، لو سمح الغربُ للقذافي بالاقتراب من بنغازي واقتحامها. هذا التدخل حدث بهاجس (خطأ 1991). ومَن يراجع النقاشَ الغربي قبل قرار التدخل، يجد أن فكرة (منع ما حصل في العراق سنة 1991) كانت شاخصة بقوة، وتكررت كثيراً. وحين تتردد الولاياتُ المتحدة، إلى هذه اللحظة، في التدخل العسكري في سوريا، فإنها تفكر بهاجس (خطأ 2003). ثمة خشية جادة من أن يقود هذا التدخل إلى إطلاق نزاع أهلي، طاحن، ودامٍ. وهذا، في تصوري، هو السبب الرئيس الذي يقف حائلاً دون قرار التدخل العسكري في سوريا، لا الخوف من الإسلاميين وصعود الأخوان، وقد مرّنت الولاياتُ المتحدة نفسَها على التعامل مع شرق أوسط يحكمه الإسلاميون، وهي تراهن على أن الإسلاميين في السلطة لن يكونوا كما هم في معاقل الإيديولوجيا، ولا الخوف على أمن إسرائيل، وهي تدرك أن تهديد أمنها أمر عسير المنال، على دول هشّة، ستعيش مرحلة انتقالية لمدة ليست قليلة، هذا فضلاً عن توازنات القوى، الإقليمية والدولية، القائمة.
ملاذ آمن في سوريا؟ بقيت نقطة أخيرة، أودّ أن أناقشها، قبل أن أختم هذا المقال، وهي نقطة يُفرد لها مكية مساحة جيدة من مقاله، وهي الدعوة إلى إنشاء منطقة (ملاذ آمن)، داخل الأراضي السورية، بدعم تركي/ خليجي/ غربي، يمكن أن تكون قاعدة لحكومة انتقالية، تحظى بقبول واعتراف دوليين. يقول: "على الولايات المتحدة أن تبادر إلى عقد قمة طارئة تضم تركيا ودول الخليج العربية، فضلاً عن الاتحاد الأوربي. وينبغي أن يكون هدفُ هذه القمة إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، توفّر لها الحمايةَ قوات تركية، بتمويل من دول عربية، وبمباركة من أكبر عدد ممكن من الدول". هذه الدعوة لا ينفرد بها مكية وحده، بل هي تنتعش في أوساط قوى الثورة السورية نفسها. ومكية وهؤلاء يستندون إلى أنموذج تأريخي، تمثله تجربة ملاذ آمن ناجحة، وهي تجربة كردستان العراق بعد 1991. غير أن ثمة مشكلتين منهجيتين في هذه الدعوة، وفي سائر تفكير قوى الثورة السورية، الذي يستند إلى نماذج جاهزة، كنتُ قد ناقشتُ فيهما، طويلاً، أصدقائي المنخرطين في قوى الثورة، وأنا أعدّ نفسي أحدَ أنصارها. المشكلة الأولى هي أن هذه النماذج يُفكّر بها وقد نُزِعت من سياقها التأريخي والجيوبولتيكي، فتجربة الملاذ الآمن في كردستان العراق حدثت في منطقة جغرافية تتمتع بوحدة سياسية، وذات إرث طويل في المعارضة العسكرية المنظمة، وقد أنجحها وجودُ أحزاب تحوز شبه إجماع من الشعب الكردي، هذا فضلاً عن وجود ميليشيا (البيشمركة)، التي كانت الأداة المسلحة لمقارعة النظام، وتحوّلت ـ لاحقاً ـ إلى مؤسسة أمنية تتولى حفظ الأمن الداخلي للإقليم. والمشكلة الأخرى هي أن هذا التفكير يخلط بين (ترتيبات لإسقاط النظام) و(ترتيبات طويلة الأمد لإضعاف النظام)، والأمران مختلفان، بكل تأكيد. وإذا كانت فكرةُ (الملاذ الآمن) تحرّكها حاجة ملحة لحماية المدنيين، فإنها لن تقود، بالضرورة، إلى (إسقاط عاجل للنظام)، وهو الهدف الأول للثورة السورية. ولأذكّر: إن الملاذ الآمن في كردستان العراق امتدّ لاثنتي عشرة سنة، قبل أن يسقط نظام صدّام. أظن أن سوريا بحاجة إلى خيال جديد، لا يبقى أسير النماذج الجاهزة. ولعلي أعود، في مقالات لاحقة، إلى مناقشة (الثورة السورية)، على النحو الذي يتخيلها به أبناؤها. وهي، أزعم، واحدة من أكثر اللحظات حساسية وأهمية في التأريخ الحديث للمنطقة.
|