الفيدرالية والصراع على الثروات في العراق |
. المقاله تحت باب قضايا نقاش |
في خطوة مثيرة للجدل أعلن مجلس محافظة صلاح الدين إصراره على تشكيل إقليم مستقل ماليا وادريا في المحافظة. كما تتعالى بين الحين والآخر الأصوات المطالبة بإقامة اقليم الأنبار في مناطق ذات أغلبية سنية. ولا يزال بعض أبناء البصرة يحلم بإنشاء إقليم مستقل في جنوب العراق ويسعى لتكرار المحاولة بعد فشلها في عام 2009. وفي جميع الحالات يتطلع المؤيدون والرافضون للفيدرالية نحو ثروات النفط والغاز المكتشفة والمتوقعة في هذا المناطق.
أما في كردستان وهي المنطقة الوحيدة الني نجحت في إقامة إقليم في جمهورية العراق الاتحادية وفق الدستور فإن جزءً أساسيا من الخلافات مع الحكومة المركزية يتركز حول النفط وحقوق التنقيب عنه وتصديره. وليس النزاع على كركوك ببعيد عن ذلك. كل هذه الأمثلة تبين وبما لايدع مجالا للشك أن جوهر الصراع في العراق يدور حول الثروة رغم محاولات القوى السياسية بمختلف ألوانها ومواقفها تغليف هذا الصراع بشعارات عن وحدة التراب الوطني والمصيرالمشترك ورفض النعرات القومية والطائفية وغيرها. وكما يقول مثل ألماني "عند النقود تنتهي الصداقات" فإن تجليات هذا الصراع هي ظاهرة طبيعية ويجب التعامل معها بصراحة بأمل التوصل الى حلول واقعية. وإذا كان النظام الفيدرالي المثبت دستوريا يبدو وكأنه سبب أساسي لهذا الصراع فإنه في حقيقة الأمر يمكن أن يقدم حلا مقبولا يحفظ حقوق الجميع في بغداد والبصرة وأربيل والرمادي ويراعي مصالح المناطق الغنية والفقيرة على حد سواء. فالفدرالية تعني في المقام الأول تقاسما عادلا للسلطة والثروة بين المناطق المختلفة. ومن هنا فهي تشكل صمام أمان للحيلولة دون عودة النظام الشمولي الذي ينشأ عادة نتيجة الاستئثار بعناصر القوة السياسية والاقتصادية. وإذا كانت التجربة الفيدرالية في العراق لا تزال تحبو على قدميها فإن تطويرها يتطلب أيضا إيلاء اهتمام أكبر بالجوانب الاقتصادية والمالية لها. فلكي تستطيع السلطات المحلية ممارسة صلاحياتها المختلفة تحتاج أيضا الى ميزانية مستقلة وعلى أن تعتمد بالدرجة الأولى على مواردها الذاتية. وبدون ذلك يبقى النظام الفيدرالي مجرد هيكل شكلي فارغ من المضمون. ومع أن الدستور العراقي يتضمن عدة فقرات تتناول قضية إدارة الموارد المالية وتوزيعها بين المستويات المختلفة، إلا أن غياب اللوائح القانونية التنفيذية يترك المجال مفتوحا أمام الاجتهادات والمساومات غير المبدئية. ويعتمد دستور عراق ما بعد صدام حسين مبدأ اللامركزية في الادارة الحكومية في خطوة شكلت نقلة نوعية في تطور النظام السياسي للبلاد. فقد كفل الدستور للأقاليم وللمحافظات التي لا تنتظم في إقليم استقلالية كبيرة وصلاحيات واسعة لم تشهدها العهود السابقة. وتستند هذه الاستقلالية بالدرجة الأولى الى أن حكومة الاقليم ومجالس المحافظات لا تعين من قبل المركز، بل تأتي عبر انتخابات مباشرة وبالتالي فإنها مسؤولة مباشرة أمام الناخبين. ومن دون شك فإن الاستحقاق الانتخابي يمنح السلطات المحلية القوة القانونية والمعنوية التي تمكنها من الوقوف أمام السلطات المركزية موقف الند للند ويدفعها على المدى الطويل للاهتمام بشكل أكبر بمصالح سكان المنطقة وتنميتها. بيد أن هذه الاستقلالية الادارية المثبتة دستوريا تصطدم بمعارضة قوية من مختلف القوى التي لا تزال تحبذ حكم القبضة الحديدية. وتندرج تحت هذا التوجه الدعوات التي يطلقها بين الحين والآخر رئيس الوزراء نوري المالكي والرامية الى تعزيز صلاحيات الحكومة المركزية على حساب اللاطراف. ومن البديهي أن الاستقلالية الادارية للسلطات المحلية لن تترسخ على أرض الواقع دون إستنادها الى أساس مالي متين. صحيح أن الدستور منح سلطات الاقليم والمحافظات الحق في زيادة إيرادتها بشكل مستقل، ولكن الواقع يبين أن السلطات المحلية لا تزال تعتمد في تمويل حصة الأسد من نفقاتها على ميزانية الدولة الاتحادية. وهي حقيقة تعطي لوزارة المالية في بغداد، وبغض النظر عن النوايا، سلطة فعلية لممارسة النفوذ والتأثير والتي يمكن استغلالها في ظل ظروف سياسية معينة. وكل ذلك يؤكد أهمية إيجاد نظام واضح لتوزيع الموارد المالية. وهو جانب أكد عليه الدستور العراقي الذي ينص على تخصيص حصةٌ عادلة من الايرادات المحصلة اتحادياً للاقاليم والمحافظات وبما يكفيها للقيام بأعبائها ومسؤولياتها، مع الاخذ بعين الاعتبار نسبة السكان فيها. ومع ذلك تظهر الكثير من الخلافات بهذا الشأن، كما هو الحال في الضجة التي تُثار كل عام حول حصة كردستان في الميزانية العراقية. ويعود ذلك أساسا الى عدم وجود قواعد قانونية واضحة وتفصيلية تحدد كيفية توزيع الموارد المالية بين السلطات المختلفة. ومن هنا يجب التفكير بتطوير النظام المالي للبلاد بحيث تصبح للسلطات المحلية أيضا ميزانية مستقلة تعتمد بالأساس على مصادرها الذاتية وبما يؤدي في نهاية المطاف الى تقليص التبعية المالية السائدة حاليا بين الأطراف والمركز، وبما يضمن تعزيز مبدأ اللامركزية. من جانب آخر يتطلب تطوير الاستقلالية المالية للسلطات المحلية قبل كل شيء التوصل الى تفاهمات حول توزيع عائدات النفط في ظل أجواء تتصف بالريبة والحسد والشكوك المتبادلة. حتى الآن تكاد هذه الموارد تذهب بالكامل لصالح المركز في بغداد، بينما لا تحصل المناطق المنتجة للذهب الأسود إلا على الفتات في تطبيق عملي لقول الشاعر "كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول". ومع انعدام الرقابة شكل هذا التركيز المفرط للموارد أساسا اقتصاديا وماليا لنشوء الديكتاتورية. ولتلافي ذلك لا بد من الاتفاق على تقاسم عادل للثروة يساهم أيضا في تهدئة المخاوف من استئثار المناطق المنتجة بكل "الكعكة" النفطية. وقد حاول الدستور العراقي حل هذه المشكلة عبر منح الحكومة الاتحادية حق إدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية، مع التأكيد على ضرورة توزيع العائدات بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد. في المقابل بقيت صلاحية استثمار الحقول الجديدة غير واضحة تماما. وبطبيعة الحال فإن الدستور لوحده غير قادر على حل هذه المشكلة المعقدة والذي يتطلب أيضا سن قوانين خاصة بذلك. غير أن فشل مجلس النواب حتى الآن في المصادقة على قانون النفط أبقى الباب مفتوحا لبروز الكثير من الخلافات. كما يفتح غياب تشريعات واضحة حول تقاسم الثروة النفطية المجال أمام ممارسات شاذة ومن بينها محاولات بعض العشائر في المحافظات الجنوبية فرض أتاوات على الشركات الأجنبية مقابل السماح لها بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة مع الحكومة المركزية حول تطوير حقول النفط. إن قرار منح المحافظات المنتجة دولارا واحدا مقابل كل برميل يستخرج من الحقول الموجودة في أراضيها يعتبر من الخطوات الهامة على طريق رفع الغبن عن هذه المحافظات التي عانت كثيرا خلال النظام الدكتاتوري. ولكنه يبقى مجرد خطوة على الطريق الصحيح في حاجة الى خطوات أخرى تضمن في نهاية المطاف توزيع عائدات النفط بين المستويات الثلاثة (الاتحاد والأقاليم والمحافظات) على أسس واضحة وبنسب محددة ودون منة أو حسد من أحد. وهو مبدأ ساري المفعول في عشرات البلدان ومنها دول نامية. ولكي لا نذهب بعيدا يمكن الإشارة الى تجربة الامارات العربية المتحدة حيث تحتفظ كل إمارة بحق استغلال ثرواتها الباطنية ومواردها الاقتصادية مع وجود نوع من التضامن بين الامارات الغنية والفقيرة. ولذا لا نسمع مثلا عن احتجاج دبي لأن أبو ظبي تصدر النفط لحسابها، بل على العكس فقد تدخلت أبو ظبي الغنية بالنفط لمساعدة دبي عندما عانت الأخيرة أواخر عام 2009 من أزمة سيولة مفاجئة. كما يتطلب مبدأ التوزيع العادل للثروة إصلاح النظام الضريبي واعتماد طريقة واضحة لتوزيع الموارد الضريبية بين المناطق المختلفة. ويجب أن يسير ذلك يدا بيد مع تكثيف الجهود اللازمة لرفع مساهمة الضرائب في تمويل الموازنات العامة بهدف تقليص الاعتماد الوحيد الجانب على الذهب الأسود. والى جانب السعي لتوسيع القاعدة الضريبية من خلال تحسين جباية الضرائب السارية حاليا وفرض ضرائب جديدة كضريبة القيمة المضافة يجب التفكير كذلك بإضفاء طابع فيدرالي على النظام الضريبي. والمقصود بذلك إعطاء السلطات المحلية صلاحية إصدار القوانين الخاصة لجباية انواع معينة من الضرائب بهدف رفد ميزانياتها بموارد جديدة، طالما أن ذلك لا يتعارض مع الخطوط العامة للسياسة الاقتصادية للبلد. من جانب آخر يجب اصدار تشريعات قانونية تكفل توزيع الموارد الضريبية بين السلطات المختلفة بحيث تحصل الحكومة الاتحادية وحكومة الأقليم والحكومات المحلية في المحافظات على نسبة معينة من ضريبة الدخل ومن ضريبة العقار وغيرها. إن اعتماد المبدأ الفيدرالي في توزيع الموارد المالية للبلاد يمكن أن يساهم في تخفيف حدة الصراعات السياسية والمذهبية والقومية والمناطقية الدائرة في العراق وفي إرساء مبدأ العدالة وكذلك في تعزيز المنافسة بين المناطق المختلفة، وبما يصب في النهاية في مصلحة الجميع. وفي كل الأحوال تبقى المصالح المشتركة أفضل وسيلة لضمان الوحدة الوطنية في بلد يتسم بالتعددية الاثنية والدينية. |