عمارة مكتب هشام منير: مهنية المنجز... وحداثته (1-2) |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات (الصورة : غرفة تجارة بغداد)
يكتسي الحديث، الآن، عن عمارة "مكتب هشام منير" أهمية خاصة. ومبعث هذه الاهمية يرجع الى امور عديدة. اقتصر، هنا، الوقوف عند امرين، ازعم بانهما اساسيان: اولهما ان تلك العمارة المهمة والنافذة في المشهد المعماري العراقي والاقليمي، لم تلق اهتماماً نقدياً، يوازي منجزها المهني المرموق، ما يجعل من الحديث/ الدراسة عنها، اليوم، يكتسب ضروريته وراهنيته وبالطبع... أهميته. وثانيهما، لان هذا الحديث، يتزامن، الآن، مع "ثمانينية" هشام منير: احد مؤسسي المكتب الاساسيين، والمعمار الاول فيه، وهي مناسبة تستدعي اعادة قراءة تلك العمارة من جديد، لجهة تفحص قيمتها، وتبيان اهميتها المهنية. ويضفي حدث "الثمانينية" على دراستنا، طابعا احتفاليا، ويكرسها لتكون ايماء احتفاء وتقدير لذلك الحدث، ولتلك.. العمارة.
يتعين الاقرار، بان هذه الدراسة، كان مؤملا لها ان تظهر في السنة الماضية (2010)، لتتصادى فعلا مع احتفالية بلوغ المعمار هشام منير الثمانين من عمره المديد، (اذ ان تاريخ ولادته هو عام 1930 ببغداد)، لكن اشتغالي على امور ترجمة كتابي "تناص معماري" الى اللغة الانكليزية، وتهيئته للنشر، مع مشغولياتي الاخرى، حالتا دون ظهور تلك الدراسة بوقتها المبرمج والمحدد. املا بان ظهورها الآن، سيكون حافزا للآخرين: زملاء "هشام منير" وطلبته، للكتابة عنه، احتفاءاً به وبعمارته المميزة. ديوان الاوقاف، باب المعظم/ بغداد. تتيح مناهج النقد الحداثي اليوم، النظر مجدداً الى العمل الابداعي، من وجة نظر لم تكن متحققة في الماضي. وتسهل ادواته النقدية اضاءة ذلك العمل من زوايا مختلفة، معيدة "اكتشافه" من جديد، ومجرية عليه تقييماً جديداً وفق معايير نقدية، تسعى وراء "تثبيت" صورته الشاملة،غير المنقوصة، في المشهد، طبقاً لخطاب تلك المناهج. من هنا، حرصنا على اجتراح قراءة جديدة، لما تم انجازه معمارياً، متطلعين ان تكون تقييماتنا لذلك المنجز، اكثر موضوعية، واكثر مصداقية، والاهم، اكثر مهنية. اي توظيف كل ما تتيحه لنا المناهج النقدية الحداثية من تقنيات ووسائل، لجهة بلوغ تلك الاهداف المتوخاة. ستكون هناك احالات، واحالات كثيرة للنماذج المصممة، "الطالعة" من مكتب هشام منير. لكننا، مع هذا سوف لا نقصر اهتمامنا على تلك الاحالات لوحدها في اضاءة المنجز المعماري، موضوع الدراسة. اي وبعبارة آخرى، سنكون تواقيين لانجاز قراءة جديدة وموضوعية، نطمح ان تكون سلسة، لا ترهن جلّ اهتمامها بالانشغالات الوصفية، او الاقتصار في الخوض لاظهار نوعية المفردات التكوينية، وكيفية تعاطيها تصميماً. كما ستكون هناك توظيفات الى ما يعرف الان، بمفهوم "اللعب الحر" نقدياً، المفهوم الذي اجترحه النقاد التفكيكيون. وهو مفهوم لا يركز او يكترث كثيرا على الحدث المرئي، بقدر ما يهتم بـ "الحالة"، التى قد يتمظهر حضورها بالحدث اياه. بيد اننا، مع هذا، نود ان نطمأن قراءنا ومتلقي دراستنا، باننا سنظل نولي اهتماماً خاصاً وزائداً لطبيعة "النص" المعماري الابداعي، الذي نحن بصدده. وسنكون حريصيين على ان يكون مفهوم "اللعب الحر"، داخل ساحة ذلك "النص"، وليس دائما خارجه!.
استطاعت عمارة مكتب هشام منير، ان تجترح لها صوتا مميزا، غبّ تأسيس المكتب، في نهاية الخمسينات. وإن يظل هذا الصوت ممتلكا فرادته التصميمية، ضمن المنجز المعماري العراقي المحتدم وقتذاك، بالاصوات المتنوعة والمقاربات التصميمية المختلفة. وان يؤسس له منزلة، جعلته لان يكون واحدا من اهم المكاتب الاستشارية في الستينات والسبعينات وحتى نهاية الثمانينات، عندما تم غلق المكتب في بداية التسعينات، اثر الانتكاسات الشديدة والمؤثرة التى تعرض لها البلد، ابان فترة الحكم الشمولي، وما نجم عنه من غلق تعسفي لمعظم دور الاستشارة العراقية، ذات الخبرة المهنية المرموقة، ليس على مستوى البلاد، وانما على المستوى الاقليمي ايضا. ينبغي التذكير بان "المحرض" الرئيس، والمحفز الاساسي الاول، بل والمؤسس الاول "لمكتب هشام منير ومشاركوه"، هو هشام منير ذاته. وقد اسسه مع زملائه، بعد فترة قليلة من وصوله الى العراق، قادماً من الولايات المتحدة نقابة المهندسين العراقيين، المنصور، بغداد. الامريكية، التى انهي تعليمه المعماري العالي فيها. فعندما رجع هشام الى العراق عام 1957 من بعثته الدراسية، حاصلا على شهادة الماجستير في العمارة، من جامعة جنوب كاليفورنيا، في لوس انجلوس، (1956)، وبعد ان اكمل دراسته الاولية، بنيله شهادة البكالوريوس في العمارة (مع حصوله على الميدالية الذهبية لاتحاد المعماريين الامريكان) من جامعة تكساس في هيوستن، (1953)؛ انخرط مباشرة في العمل التصميمي العراقي، مع مكتب مدحت على مظلوم، لكنه، سرعان ما اسس له مكتبا استشاريا خاصا به (1959)، مع المعمار ناصر الاسدي (الذي سبق وان عمل معه اولا عند وصوله الى العراق، واسسا معا وقتذاك (1957-58)، مكتبا باسم : <هشام منير وناصر الاسدي معماريون>). والمكتب الاخير الذي انضم اليه مهندسون آخرون باختصاصات مختلفة، تمت تسميته باسم: "مكتب هشام منير ومشاركوه" الذي استمر، كما اشرنا، في نشاطه الاستشاري لحين غلق المكتب في بداية التسعينات. نفذ المكتب مشاريع عديدة، غطت بمواقعها مدن عديدة بالعراق، وكذلك منطقة الخليج. وكانت مواضيع تلك المشاريع المصممة والمنفذة متنوعة تابولوجياً، فهي تضمنت الابنية الادارية والسكنية والتعليمية والصحية والترفيهية وكذلك مباني النقل وغيرها، بالاضافة الى مشاريع التطوير الحضري وتخطيط المدن. كما لدى المكتب تعاون مثمر مع دور الخبرة العالمية بدول مختلفة. وتتميز علاقته بعلاقة خاصة مع مكتب "تاك" TAC الذي اسسه فالتر غروبيوس. وقد حازت عمارة المكتب على المراتب الاولى في مسابقات معمارية عديدة، بالاضافة الى نيله جوائز تقديدية متنوعة. ثمة معالم محددة، اتسمت بها عمارة مكتب هشام منير. وهذه المعالم تمثلت، اولاً، في اصطفاء اساليب جديدة تنظم اجراءات العمل المكتبي، المعنى اساساً في انجاز المنتج المعماري. كما تمظهرت، ثانياً، في خيار العمل وفق تحديدات وضوابط وضعها مؤسسو المكتب، لنوعية ذلك المنتج، الذي يتعين ان يكون ضمن معايير مهنية عالية وشديدة الصرامة، تطمح لان تكون مواصفاتها متوافقة مع المعايير العالمية. ويظل، ثالثاً، المـَعلم البارز لتلك العمارة، متمثلا في تقدم الرؤية الوظيفية، (الوظيفية المشوبة بالعقلانية) على الرؤى الاخرى، والذهاب بجرأة نادرة، باتجاه اجتراح بلاغة تصميمية واضحة، تعكس متطلبات تلك الرؤية بفورمات تصميمة ليست فقط مقنعة، وانما تنطوي على قيمة جمالية عالية. وسوف نسعى، في ادناه، تعقب تبعات تلك المعالم المميزة للمكتب، على نوعية الناتج المعماري له. تتصادى طبيعة وطريقة العمل الاستشاري المحلي، الشائعة بالعراق وقتذاك، مع طبيعة ونوعية المكاتب الاستشارية العالمية، وتحديدا مع "نسختها" الاوربية؛ هي التى تعتمد اساساً على حضور مفهوم "الميتر" MAÎTRE، بمعناه "البوزاري" وهو "المعلم"، "الاسطة" او "الاستاذ"، الذي يجمع حوله مريديه واتباعه ضمن حلقة عمل تشتغل بمنظومة ذات تراتبية Hierarchy منضبطة. وهذا الاسلوب، كما يعرف بعض المهتمين، هو سليل الارث التقليدي، التى كانت ممارساته شائعة في اوربا القرون الوسطى. فهناك، في تلك الحقبة الزمنية، كان امرا مألوفا ان يدير"معلم" الحرفة، (وخصوصاً ذات الطابع الفني) ورشته اليدوية مع مساعديه واتباعه، بنظام صارم من التراتبية، يحتل هو موقعاً في اعلاها. وهذا الموقع تسوغه معرفته التامة والشاملة بكل مناحي الحرفة اياها. والكثير من دور الخبرة الاوربية الحالية، ولاسيما دور الاستشارة المعمارية، حافظت بشكل وبآخر، على اساسيات تلك التقاليد والاعراف. ثمة "ميتر" معروف محاط باتباع ومساعدين، يعملون ضمن رؤاه وفي اطار ما يقترحه لهم من افكار، يتشكل، في الغالب الاعم، فحوى ومضمون عمل المكتب الاستشاري الاوربي. هل من ثمة حاجة، لذكر اسماء المكاتب النافذة الاوربية، ليعزز المصرف الصناعي، السنك، بغداد. حضورها، مصداقية الاطروحة التى تحدثنا عنها توا؟. انها متداولة ومعروفة جدا في اوساط مهنية واسعة. معلوم ايضا، ان الاعراف السائدة في عمل تلك المكاتب، لا تجيز، كما انها لا تسمح، ان يتجاوز "المساعد" "معلمه"، (وهو ايضا اباه الروحي) باي حال من الاحوال، ذلك لان وضع الاخير العالي و"المتعالي" يجعله بمنأى عن التجاوز من اي كان؛ ما يبقي "الميتر" طوال حياته ولحين تقاعده او.. موته، الشخصية النافذة، المطاعة، من قبل جميع مَن في الورشة / المكتب. لكن هذا الامر بدا مختلفا في تطبيقات الممارسة الامريكية. ثمة توق، هناك، مصحوب بالرغبة، لمنح كل مبادر مهني "حقه" الابداعي. وهو امر انعكس جلياً على منظومة العمل المكتبي، مزيحا سطوة "الميتر" واحتكاره لدور "مولد" الافكار التصميمية، ومدعيا "ابوتها". بعبارة اخرى، حرص نموذج الممارسة الامريكية في العمل الاستشاري، ولاعتبارات براغماتية، ان يكون "الميتر" بمفهومه الاوربي، <واحدا ضمن اوائل>، هم الذين اسبغ عليهم "التنظيم" الجديد، مهام التصميم، واوكل لهم "حق" ابداء الملاحظات على تصاميم زملائهم ايضاً. نحن، اذاًً، بصدد التعرف على ما سمي لاحقاً نظام "فريق العمل الجماعي" Teamwork . وهو نظام يفتح المجال واسعا، امام الموهوبين من اعضاء المكتب، واصحاب الافكار المميزة فيه، للتقدم بسهولة في اجراءات تحقيق تصاميمهم واقعيا. وكان لافتا، في هذا الشأن، مقترح "فالتر غروبيوس" (1883-1969) Walter Gropius، المعمار المهم في المشهد المعماري الحداثي، ومؤسس الباوهوس، الذي تقدم به في 1945، من كامبردج، ماسوشيتس، لتأسيس منظومة من العمل المكتبي الاستشاري، تضمن "تخطي" دور "الميتر" التقليدي، والتنازل عن مهامه لجهة فسح المجال كليا امام جميع المصممين الموهوبين العاملين في المكتب. وهو ما حدا به لتأسيس، وقتذاكٍ، مع "رفاقه" الشباب الآخرين، مكتب "تاك" TAC ؛ الذي تدلل حروفه الى معنى "المعماريون المتضامنون" The Architects’ Collaborative . بمعنى آخر، نشد فالتر غروبيوس، كبح جناح تأثيرات "المونولوغ"، وحتى التغاضي عنه، والاستعاضة بـ "الديالوغ"، بديلا عنه، كممارسة يتعين ترسيخها في اجواء عمل المكتب المستقبلي. كما تطلع لحالة، سيصفها النقد الحداثي لاحقا، بمفهوم "قتل الاب" النقدي، وهو مفهوم يراد به تجاوز "الابن" اباه الروحي، مهنيا، والمقدرة في الحصول على صوته المتفرد والخاص والواضح، ابان... "حياة" الاخير. جدير بالاشارة، بان فالتر غروبيوس، لم يكن هو من "اسس" لمفهوم "فريق العمل الجماعي". فمثل هذه الممارسة كانت معروفة وشائعة في اوساط مهنية امريكية عديدة. ما قام به المعمار الرائد، هو امكانية تطبيق تبعات هذا المفهوم، بنجاح، معمارياً. والتخلي تبعا لذلك، وعن طيب خاطر، عن دور "الميتر" الذي لازم العمل الاستشاري طويلا. وسرعان ما استعارت دور الخبرة الامريكية، هذا التقليد، وبات العمل الاستشاري، بصيغته تلك، هي الصيغة الشائعة والمتداولة، في عمل عموم المكاتب الاستشارية الامريكية. وشيئا من هذا القبيل، سعى "هشام منير" وراء تطبيقه في مكتبه البغدادي مع زملائه العامليين الاخرين. مانحا امكانية واسعة امام المعماريين في المكتب لتحقيق رؤاهم المهنية وتنفيذ مشاريعهم التصميمية. بيد ان كل هذا، كان يتم وفق منظومة عمل المكتب، التى تحرص على ان يكون الناتج المعماري فيه، ذا قيمة ومستوى لا يقلان عن مستوى الشروط المهنية التى وضعها مؤسسو المكتب لذلك المنتج، بضمنها حضور لغة معمارية ذات مفردات تكوينية معينة. وقد عملت منظومة "فريق العمل الجماعي"، وما انطوت عليه من اجراءات النقد، والتقييم، والتطوير، واعادة التصميم للمشاريع المعدة من قبل مصممي المكتب، عملها في تحقيق منتج معماري على قدر كبير من المهنية والنضوج التصميمي. لقد مرّ على مكتب هشام منير كثير من المعماريين. وقد اتاح المكتب لهم، فرص مواتية لتحقيق آمالهم، وبلوغ ما كانوا يتمنوه؛ بفضل عمل هذه المنظومة، التى لم تكن تقاليدها دائما محل قبول، او رواج كثير في الممارسات المهنية العراقية. على عكس تلك الممارسة، التى انطوت على حضور "المعلم/ الميتر"، التى لاقت هوى، من بعض المعماريين، التائقيين لتكريس اسمائهم في المشهد، حتى ولو بطرق، بدت وكأنها تنزع الى نوع من التباهي. غرفة تجارة بغداد، شارع النهر، بغداد. لا يسع المرء، الا ان يفرح، ويعتز بمشروع هشام منير، الساعي لتأسيس مكتب استشاري رصين، ورهانه في جعل المنتج المعماري لهذا المكتب، متساوقاً مع ما يدور من احداث في الورشة المعمارية العالمية، في اشد لحضات توترها الابداعي. ثمة نزوع حقيقي، ابداه المكتب في متابعة جادة وعميقة للتيارات المعمارية الحداثية، والمقدرة على قراءتها قراءة خاصة، يتم فيها استيعاب تلك التيارات وصهرها، ومن ثم منحها حياة جديدة، طبقا لظروف البلد وامكاناته، لتتمظهر تالياً بمقاربات معمارية، كان حضورها في المشهد المحلي، يشي دوما بالتميز والثراء والتنوع الاسلوبي. لقد كان "لوغو" المكتب الرمزي، وشعاره غير المكتوب، قائم على فكرة الحداثة، والثقة العالية بها وبصيروراتها المحتفية بالتقدم والجديد، مع الاهتمام بتقبل تأثيراتها، كمسعى للنهوض بواقع العمارة المحلية والاقليمية. كان مؤسسو المكتب لديهم قناعة راسخة، بصوابية اطروحة عدم وجود عمارة مسورة، نقية او صافية، تكون خالية من التأثيرات المعمارية الخارجية. من هنا ذلك الاهتمام العميق الذي اولاه المكتب لتلك الاطروحة، والتى وجد فيها العاملون في المكتب مجالا خصبا لاثراء المنتج المعماري المحلي وتنوعه. في عراق الستينات، تبنى غالبية المعماريين العراقيين، (ان لم يكن جميعهم)، "الحداثة"، كمرجعية تصميمية. تبناها، ايضاً، كما اشير تواً، مكتب هشام منير. لكن هذا لم يكن هو الامر الاساس. الاساس، كان الاسلوب، الطريقة، التى تتمظهر بها تلك الحداثة لديهم. ولئن بدا للوهلة الاولى، ان نتاج مكتب هشام منير مطبوع بالوظيفية المعروفة، كاحدى تجليات عمارة الحداثة، فان هذا ليس سوى الوهلة الاولى. اذ ان تلك الوظيفية، انما نشدت ان تكون "محلية" بامتياز، وجاءت لتؤكد صوت المكتب الجديد، والحداثي وحتى المتفرد في ذلك المشهد. انه الصوت الذي يصدح عن افتنان مصممي المكتب للوظيفية: الوظيفية المؤولة، ويعلن عن استيعابهم لخطابها. ذلك الخطاب الذي سيطبع تلك العمارة بطابع مميز، ويؤسس لشهرتها. بيد إن مفهوم الوظيفية تلك، لم يكن، ولابأس من التكرار، يعني مفهوماً مباشرا أو نفعياً. اذ ثمة تأويل شخصي في الامر. وهذا التأويل هو الذي يمنح معماريي المكتب ومصمميه حق اظهار تبعات ذلك المفهوم واجهاتيا، طبقا لاشتراطات ظروف البيئة المحلية. بمعنى آخر، تتم صياغة واجهات المباني المصممة،ً تبعا لخيارات المصمم واجتهاده في معنى الوظيفية المـَوّؤلة. ولئن انكرت مناهج النقد الحداثي، مكوّن "الوظيفية" كمسوغ لتشكيل الفورم المعماري مابعد الحداثي، (وهو امر افضى، كما هو معلوم، الى ذلك "المهرجان" الزاخر بغرائبية الاشكال والهيئات)؛ فاننا لا زلنا نتفحص ذلك الحدث "الوظيفي" ضمن زمنه التاريخي. وهو زمن بلغت الوظيفية فيه، كما هو معروف، اعلى درجات نفوذها، وانتشارها، وتأثيراتها. وهيمنت مقولة "ميس فان دير رّو" <القليل يعني الكثير> Less is More مع مقولة "لويس سوليفان" المتممة لها، والذائعة الصيت: <الشكل يتبع المضمون>، المعبرة بوضوح، وباختزالية عالية، عن معنى الوظيفية، (الوظيفية العقلانية على وجه الخصوص)، هيمنت كلتا المقولتين على المشهد المعماري. بتعبير آخر، صنع ذلك الزمن من كثر، شهودا على "حكمة" الوظيفية، وتبنى كثر، ايضاً، منطقها "الصائب".. والجذاب، الذي تبدى للغالبية، غير قابل للمساءلة او المراجعة. صحيح ان "روبرت فنتوري" سرعان ما رأى بكتابه "التعقيد والتناقض في العمارة"، (1966) (الذي عدّ من قبل كثر بمثابة "مانفيست" عمارة مابعد الحداثة)، غير ما وجده "ميس"، مشيرا في إن: <Less is Bore>. كما ان الناقد "بيتر بليك" P. Blake، سيصدر في سنة 1978، كتابا بعنوان "”Form follows Fiasco، وسيحمل فيه بقسوة على قيم العمارة الحديثة، مفنداً اطروحتها، ومحملا مقولة "سوليفان" ذاتها "وزر" ظهور مثل تلك الذهنية الممجّدة لتلك الافكار، والمحتفية بحضورها في الخطاب. لكن كل هذا، سيأتي في وقت لاحق. وفي الاحوال كافة، فقد مثلت الوظيفية لدى المكتب، خياراً من جملة خيارات ابداعية، كانت مقارباتها متداولة، وقتذاك، في الخطاب المعماري. عندما يتفحص المرء ناتج عمارة مكتب هشام منير، فانه في الواقع يسبر اغوار مرحلة ابداعية ممتعة، غنية بامثلتها التصميمية، ورصانة مساراتها المهنية، هي التى كان ظهورها في المشهد المحلي والاقليمي، يعد، في كثير من الحالات، بمثابة اضافة مميزة للبيئة المبنية المحيطة، نظراً للغتها التصميمية الطازجة، وجزالة اشكالها المعبرة. انها في الحقيقة تمثيل بيّن لمفهوم "العمارة"، العمارة، بكل دلالاتها الجمالية، وخاصيتها المهنية العالية، الحافلة دوما بالحداثة والتجديد!. يكاد يمثل ظهور مبنى "ديوان الاوقاف" <وزارة الاوقاف لاحقا> (1964)، في منطقة باب المعظم، حدثا تصميما لافتا في المشهد المعماري المحلي انذاك؛ إن لجهة القرارات التكوينية، ام لناحية المعالجات التصميمية، ولاسيما صياغة الواجهات. فالتكوين يستدعي مفردة، هي من اهم مفردات العمارة التقليدية، وهي الفناء، لتكون الصيغة المشكلة لذلك التكوين، الذي من حوله تم توقيع الفراغات المكتبية. وهذه الفراغات تشغل مساحة الطابقين العلويين من المبنى المتكون من ثلاثة طوابق، في حين تشغلها جزئياً في الطابق الارضي. ثمة لغة جديدة، بدت شديدة النضارة، اتسمت بها عمارة المبنى المطل على شارعيين متعامدين. فواجهاته التى نأت بعيدا عن مألوف المعالجات"السطحية"Plane، بدت وكأنها تكتسب صفة "الكتلة" النحتية، ثلاثية الابعاد، جراء التدرج المتباين لمواقع "جدران" كل طابق فيه. وهي حالة منحت المصمم امكانية معالجة طوابق المبنى بصيغ مختلفة، منتجة لنا "فورمات" واجهاتية، يستحضر بها "اميج" خيرة التقاليد البنائية الموروثة. يولي المصمم أهمية كبرى لعامل الظل والضوء، ويرفع عالياً من شأن تبعاته. فهو لديه بمثابة الوسيلة الاهم، لابداع جماليات واجهاته، التى بها يسعى وراء تأكيد جديده وترسيخ حداثته.. ونضارته ايضاً. تتشكل واجهة المبنى من وحدة تصميمية، يؤلف تكراراها الايقاعي، عماد الصياغة الكلية لتلك الواجهات. ثمة تقسيم ثلاثي متماثل الاقسام، يجزأ تلك الوحدة فرتكالياً. يملئ المصمم جانبي هذه الوحدة بشبكة مخرمة من الخزف الملون، (اختار المصمم لون التركواز لها)، تاركاً القسم الوسطي منها فارغاً، لكنه جزأه الى ثلاثة اقسام ايضاً. وقد اغلق القسم الاسفل منه، في حين نصّف القسم الاعلى بلوح خرساني افقي يمتد خارج مستوى سطح الوحدة. ثمة اختلاف تصميمي في معالجة الاركان الاربعة للمبنى؛ تكمن مهمته "ايقاف" نمو الحركة الايقاعية للوحدات التصميمية، وتأكيد حصرها ضمن "اطار" اللوحة المرسومة لواجهات المبنى. لم تخرج كثيرا مرجعية المعالجة التصميمية لتلك الاركان عن خصائص مفردات الوحدة التصميمية اياها، ما اضفي على معالجة الواجهات الاحساس بالوحدة واكسبها تكاملا تشكيليا حال دون ان يشعر المتلقي بملل تكرار تلك الوحدات. جدير بالاشارة، ان المصمم "حرك" موقع ستارته Screen في كل طابق من الطابقين العلويين بشكل مختلف، دافعا بالعمق جدران احيازه في الطابق الارضي، ليتسنى له الحصول على اكبر قدر من التأثير لعامل الظل والضوء، المفتون به المعمار، فضلا على اكساب واجهاته امتيازات النحتية. وفي النهاية، فنحن امام تنطيق واجهاتي مميز، يبدو للناظر مفعم بالحركة والحيوية، هما اللتان تخلقهما لعبة الضياء والظلال المنوعة على سطوح "كتلة" واجهات المبنى. ويضيف اللون الازرق التركوازي لخزف الشبكات المخرمة، مع اللون الابيض للسطوح المصمتة المستوية والنظيفة، بعداً اضافيا لحيوية الواجهات، ويمنحها نضارة زائدة، تسهم في تميز عمارة المبنى عن شواهد البيئة المبنية المحيطة، لكن تلك العمارة تظل مع هذا، منتمية بقوة الى سياق تلك البيئة، نظراً لخصوصية تكوينها واسلوب معالجاتها التصميمية. يغوي مبنى ديوان الاوقاف المرء الى قراءة عمارته قراءة تفكيكية، لجهة تقصي ما تخفيه تلك العمارة، وما لم تظهره بصورة مباشرة. لكن علينا، ابتداءاً، وتوطئة لذلك، ان نتبنى مقترح الفصل الرمزي بين "نص" العمارة كموضوع Object، وما يوحي هذا النص من "تناص" Intertextuality، يشير الى علاقة المبنى بالآخر. وهي علاقة جد ممتعة لناحية رصد عملية "التثاقف" Acculturation، وفي ذات الوقت، تعقب الافكار والرؤى الخاصة بالآخر، وتأثيرها على "الموضوع" المنظور. هذا بالاضافة الى تبيان قدرة المصمم المعني باجراءات التناص، في اصطفاء إسلوب مقاربته لاجتراح تلك العمارة/ الموضوع اياه. وفي هذا الصدد، ينصحنا "بيتر ايزنمان" P. Eisenman، (معمار مابعد الحداثة المشهور)، ان لا نكون سريعي الثقة بقدرة الحضور على كبت "الاثر" Trace وقمعه (بمعناه التفكيكي)، وانما يتعين ان ندرك الاخير، بكونه حضورا للغياب. وهو امر يجعلنا نتساءل عن مرجعيات معمار ديوان الاوقاف، المؤسسة لقرارته التصميمية. يحيلنا مثل هذا التساؤل الى الاستعانة باستراتيجيات "التناص" ومقدرتها على تفكيك "النص" المعماري، والتغلغل في اعماقه، ومن ثم اعاده تركيبه، بحثاً عن المفاتيح الاجرائية الخاصة بالتأثر والتأثير، والتفاعل والتضمين والحوار والتعالقات التصميمية التى تتم على المستويين الدلالي والشكلي، التى يوفرها "التثاقف"، كاحد مضامين التناص. وبما ان الاخير يفسر النص بكونه <تشرب او إحالة لنصوص اخرى>، كما تقول "يوليا كريستيفا"، الناقدة الفرنسية، الناحته لمصطلح "التناص"، وهو ايضا، لديها، بكونه < لوحة تتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات>، فانه في هذه الحالة يعمل وكأنه حاضنة فكرية، يستقي المصمم منها افكاره التصميمية. (خالد السلطاني، تناص معماري، دمشق 2007). اذ لا يوجد "نص" نقي او احادي مغلق على نفسه. كما <ليس هناك ملكية للنص، او ابوة نصية>، مثلما اشار "رولان بارت" <..لان الكتاب والمبدعيين يعيدون ما قاله السابقون بصيغ مختلفة. فالنص الابداعي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة، فهو لا يأتي من فراغ، ولا يفضي الى فراغ>. عندما شرع معمار "ديوان الاوقاف" في عمله التصميمي، كانت رائعة "خوسيه لويس سيرت" Jose Luis Sert المعمارية، وهي مبنى السفارة الامريكية ببغداد (1955)، قد اكتمل بنائها وبانت عمارتها بكل "حضورها" الجليل، محدثة تأثيرا عميقا في المشهد المعماري المحلي والاقليمي، لجهة ما تحمله من دلالات تصميمية جديدة، وما تضمنته من قرارات تكوينية "تتناص" مع الموروث التقليدي المحلي وتتعالق معه. وهو امر رفع عاليا من شأن هذه العمارة واكسبها شهرة وتعاطف كبيرين من لدن اوساط معمارية عالمية واسعة. (انظر: خالد السلطاني،مئة عام من عمارة الحداثة، دمشق، 2009). وبالطبع، لم تكن عمارة مبنى السفارة غائبة او بعيدة كثيرا عن انظار مصمم ديوان الاوقاف، وهو مايفسر حضور "اثر" اجواء القرارات التصميمية لمبنى السفارة في صياغة المعالجات التكوينية لمبناه. فالعمل ضمن مبادئ عمارة الحداثة، والتفرد باصطفاء مقاربة تأويل الموروث البنائي المحلي، واسلوب نحتية الواجهات، والرفع من شأن فعالية الضوء والظل تكوينياً، واستخدام ذات الخزف الملون، كلها امور تجعل من الرائعة "السيرتويه" البغدادية مرجعا محتملا لعملية التناص، التى اجراها مصمم الاوقاف؛ مبدعاً لنا، في النتيجة، واحداً من اجمل نماذج عمارة الستينات بالعراق. ولئن اطلنا الحديث كثيراً، عن عمارة "ديوان الاوقاف"، فانما، اننا اردنا ان نؤشر اهمية هذه العمارة الناضجة والمميزة، ودورها المهم في اثراء المشهد المعماري العراقي. والتدليل على قدرة المكتب ومقدرته لاجتراح مثل هذه النماذج المعمارية المعبرة، وان نبدي، ايضاً، اعجابنا الشخصي، مرة آخرى، بتلك العمارة واسلوب تثاقفها و"تناصها" الفطن، مع مبنى، نعتقد بانه احد الروائع العالمية لعمارة الحداثة في الخمسينات. وهو ذات الامر الذي حدا بنا ان نكرس مقالة خاصة، نشرناها في الميديا المحلية قبل نيف وثلاثة عقود، احتفاءا بمبنى الاوقاف ذاته، وعمارته الذكية. مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون |