.
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
22/03/2011 06:00 AM GMT
(الصورة: مديرية التحقيقات الجنائية/ بغداد، تفصيل في الواجهة الامامية) يجترح كل من زار العراق مؤخراً انطباعاً معيناً، خاصاً به عن مشاهداته الشخصية ومعايشته لاحوال البلد المزار. وازعم ان غالبية العراقيين، او هم من اصول عراقية، الذين زاروا بلدهم الاصلي في الفترة الاخيرة، ينتابهم شعورا عاما ومحددا، يمكن وصفه بانه شعور مخيب للامال وينطوي على احباط كبير، وهم يروا ما آلت اليه امور مدن البلد وقصباته، ما يجعل كثر منهم "يجر" حسرات تكون عادة غاصة بالحزن والالم، نتيجة الوضع المتخلف لتلك المدن وخاصة وضع مدينة بغداد المزري، هي التى كانت يوما ما: حاضرة العالم الاسلامي وعاصمته التليدة. ويتساءل المرء؛ كيف قُدر لمدينة عظيمة مفعمة بالحيوية والآمال، وعلى جانب كبير من التمدن والحداثة والتعدد، ان يؤول مصيرها الى مثل هذا المصير التعس، سئ الحظ، منزوية بعيدا عن ايقاع حركات الاعمار وموجات الانماء الذي شهدته مدن العالم قاطبة، وبلا استثناء، وخصوصا مدن دول الجوار، هي التى لطالما تاقت ان ترتقي حضاريا وثقافيا ومدينيا الى مصاف بغداد المتطورة، وان تدرك مستوى اهلها المتبغددين؟ هل كان ذلك الامر مقصوداً، ام انه حدث جراء قصر نظر، وسوء ادارة واستبداد الحاكميين الذين تسلقوا دفة الحكم بغفلة من الزمن، ليحيلوا العراق الى تلك الحالة المزرية، التى لم يكن احد يتصور ان تبلغ ذلك المدى من التأخر والجهل والسقم والشقاء، مثلما هو مخيم الان على فضاء كل مدنه تقريبا، ومثلما هو حاصل في عاصمته العتيدة، العاصمة، التى نود ان نشاطر مع الاخرين انطباعتنا الشخصية عنها. واياً تكن الاسباب التى ادت ببغداد ان تصل الى تلك الحالة، فنحن ازاء مدينة/ عاصمة، لا تشبه مدن العالم ولا تماثل عواصمه. مدينة تائهة، فاقدة لذاكرتها، وطاردة لاهلها ومحبيها، هي التى شاهدة الآن على موجات عاتية لانزياحات سكانية فيها، تعيد بها ترتيب وضعها الانثروبولوجي، وتجترح "منظومة" تراتبية خاصة له!. بالاضافة الى قدر تعايشها مع النقائض، وخصوصاً واقعة معايشتها مع ثنائية الحرب والسلام على "سطح" واحد!. وهي معايشة نادرة في تاريخ المدن، من حيث مراعاتها اولاً، لمتطلبات "الحرب"، المفروضة عليها، (ففضاءها المكاني،الان، مسرحاً لعمليات عسكرية مجنونة، لا تعرف الشفقة، ولا تراعي حرمة مواطنيها)؛ في الوقت عينه، عليها، تأخذ في نظر الاعتبار اشتراطات "السلام" والتحايل للتعايش معه، وكأنها بذلك تسعى وراء تماثل حالها مع حال اية مدينة "مسالمة" آخرى. وهذا الوضع الغريب الذي تنوء المدينة بحمله الثقيل، افضي الى تلك الحالة الملتبسة، التى تعيشها بغداد اليوم. اذ بلحظة واحدة تنقلب مظاهر السلام الى حرب، او بالعكس. و تبعاً لذلك، فان سكنة العاصمة، كتب عليهم التعايش مع هذه الحالة التى يرصدها بارومتر العمليات العسكرية بين إرتفاع وانخفاض متواصل.. وهي حالة، من السهل وصفها كتابةً، او رصدها عن بعد؛ لكنها تغدو امرا لا يطاق لاؤلئك الذين يتعايشوا معها يومياً، وعن قرب، وباستمرار!. لقد "انجزت" قوى عديدة ومختلفة دورها في تسريع وصول بغداد الى تلك المرحلة "المتطورة" من التأخر والسقم، بدءاً من مظاهر مدانة برزت بُعيد تأسيس الدولة الحديثة في عشرينات القرن الماضي، مرورا بادعاءات "ضباط" الانقلابات العسكرية، والعهود المظلمة شديدة القسوة ابان الحكم الشمولي الاستبدادي، وصولا الى المرحلة الحالية، التى سلمت بها امور المدينة وادراتها الى اناس غير كفوءيين، ومعظمهم بعيدين وغرباء، وفقا لقول النائب "صفية السهيل"، عن طباع وعادات مدينة بغداد وتقاليدها، فضلا على سوء ادارتهم للمدينة وفسادهم. لكني ماانفكيت،اعتقد، بان خصائص الارث المسموم، الذي تشكل ابان الفترة الشمولية والاستبدادية ولحين سقوطه في 2003، هو المسؤول الاساس عن زرع "ثقافة" تريف العاصمة،التى كانت إجراءاتها قائمة على قدم وساق وقتذاك، بالاضافة الى منهجية استبدال تقاليدها بتقاليد فجة وغريبة عن طباع حاضرة مدينية عظيمة مثل بغداد. كما لا زلت اعتقد، ايضاً، بان الكثير من مشاكل المدينة التى تعاني منها الان، هي بسبب اؤلئك الذين تبؤوا مناصب ادارة المدينة بعد التغيير؛ غالبيتهم الذين ظلوا يستقوا مرجعيتهم المعرفية من ذلك "الزرع" المرّ، الذي اُنبت ابان ثلاثة عقود ونيف سابقة على التغيير، وما فتئ ان ظلّ مرشدا، وحاضرا ومستمرا وفاعلا في ذهنيتهم، وفي طريقة اتخاذ القرارت. لا ابتغي وراء كتابة مقالتي، تقديم تحليل مهني وعلمي وشامل لواقع بغداد الراهن، او انشد تفسير العوامل العديدة التى ادت بلوغها تلك الحالة، والتى بسببها نراها الآن: متأخرة جداً، ومنهكة جداً، ومتناقضة جداً، وتائهة جداً. بيد اني اتوق الى الاشارة لبعض الامور والاحداث، التى رأيت، شخصياً، في وجودها تمثيلاً لذلك التدهور وحتى الانحطاط، الذي يثير لدى كثر منا لوعة، وقلقاً، واسفاً، والماً، واسى، وحزناً، ووجعا،ً وصدعاً، وانكسارا وبالطبع.. كأبة. هل غفلت عن ذكر كلمة آخرى تصف الحالة؟ اذاً، بمقدور المتلقي ان يستل من معجمه الكلامي ويضيف ماشاء له من كلمات مماثلة، واجزم ان وقعها سيكون متناغما، مع احساسي، واحساس كثر منا!. تتداخل الازمنة، عادة في فضاء المدن التاريخية القديمة. وتمثل شواهدها المكانية، سجلاً قائما ومحفورا لوقائع مرّ بها تاريخ تلك المدن. وبغداد، كحاضرة "متروبوليتانية" بامتياز، لا تختلف طبيعتها عن طبائع المدن التاريخية القديمة. وبمقدور المرء ان يحفر حفرا "اركيولوجيا" في ذاكرتها، ليتسنى له بموضوعية بلوغ ما يرمي اليه. لقد اشرت توا، الى ظاهرة الاستبداد، التى اقترن حضورها بممارسات الغاء الآخر، وتكميم الافواه، واحتكار "الحقيقة"، المفصلة على مقاس المستبديين، كتمثيل واضح لبواعث تردي وضعية بغداد وتقهقرها. بالطبع، يمكن ايراد عشرات الامثلة والنماذج لذلك التمثيل، فتاريخ بغداد "متخم" بها. لكني ساصطفي بعضاً منها، تماشيا، مع مزاج المقالة وهدفها. ليس بالضرورة ان تكون اصطفاءاتي متوافقة مع رأي الآخرين، او حائزة على رضاهم. ذلك لان خطاب النص المقروء، في النتيجة، هو خطاب ذاتي، يسعى، كما آمل، وراء تأشير ومن ثم تفكيك ظواهر تدهور المدينة وتأخرها من وجة نظر شخصية. ساحاول قدر الامكان تعقب ظواهر الاستبداد، وتقصي تمثلاته في فضاء تلك المدينة المحبوبة. كما اني سانزع الى عدم التركيز فقط على الظواهر الكبرى المعروفة، التى اسست للاستبداد، ومهدت لادامته. اذ بموازاة ذلك سامنح تجليات الامور الهامشية والصغيرة وتأثيراتها، اهتماما واسعا، معتقداً، انها بمقدورها ان تفضح نزعات الاستبداد وتعريته بصيغ، احياناً، تعجز الظواهر الكبرى تحقيقها بمثل تلك القناعة والوضوح!. اقف، اذاً، امام باب "مديرية التحقيقات الجنائية"، (مديرية الامن العام لاحقا)، المديرية الاشهر لدى كثر من العراقيين، في "ربوع" العراق الملكي، هي التى كانت تمثل بامتياز "مقر" الاستبداد العراقي و"بعبعه" المخيف، ولاسيما لدى النخب المثقفة، وتحديدا اصحاب التوجه الديمقراطي والشيوعيين. انها تقع في وسط بغداد، بالقرب من شارع النهر، في نسيج بناء تقليدي، (وهي، ذاتها، نموذجا لبناء تقليدي)، مطلا على دجلة. ارى اثار الزمن، الذي احالها الى بناء ايل للسقوط، والى "خسوف" مدخلها الى ماتحت مستوى الارض الحالي. والى تساقط جزء منه فعليا، كما هو واضح في واجهته الجانبية، التى بدت لي وكأنها "لوحة" لمقطع طولي، ولكن بابعاد حقيقية. وفي هذه الواجهة، بمقدور المشاهد ان يتابع "اسرار" انجاز مفردات المبنى الانشائية كالملاقف وتجويفات النوافذ والابواب المعمولة آجرياً. بل ان سطح هذه الواجهة يكتسي ابعاد ثلاثية، مكتسبا خاصية نحتية واضحة، جراء تناوب رصف الطابوق بمستويات مختلفة. ورغم هرم المبنى وتداعيه، فان تلك النحتية، اضافت بعدا جمالياً، وجدته لافتاً، هي التى يتكرس حضورها في المشهد جراء لعبة الضوء والظلال. لكن نظرة المعمار للمبنى، يتعين هنا نسيانها حاليا، والاصغاء الى صدى صرخات الذين سجنوا فيه يوما ما، وتذكر معاناتهم وهم تحت التعذيب، ليس لسبب، سوى انهم امتلكوا فكرا مغايرا عن سياق ما كان ينبغي ان يكون "فكرا" احاديا وواحدا، يتعين على جميع فئات المجتمع بكل طبقاتة واطيافة الالتزام به وعدم الحيادة عنه. واتساءل عن مصير الافكار النيرة، والاحلام المفعمة بالآمال،التى حملها "نزلاء" هذا المبنى، هم الذين كانوا في غالبيتهم مثقفين وذوي اختصاص مهني عالٍ؛ وآخرين كانوا مشاريع لرجال ثقافة وحضارة ومهن مرموقة. وجميعهم كانوا تواقيين لان يروا وطنهم بلداً متقدماً ومتسامحاً، و"بغدادهم": مدينة متحضرة وجميلة، جميلة بسكانها، وجميلة بعمارتها. ذلك لان العمارة وحدها لا تكفي ان "تخلق" مدينة جميلة، ما دام سكنتها يرزحون تحت وطئة الخوف والقهر والظلم الذي يبثه وينشره عادة الاستبداد؛ ذلك الاستبداد الذي بدأت نشاطه هذه الدائرة، و"مبناها المهجوم"؛ (وفقاً لتعبير الصديق الدكتور كاظم حبيب، عندما رجوته التكرم في تأكيد هوية المبنى). لقد كنت مدركا، وانا اقف امام المبنى، مستعيدا دوره الذي لعبه بنجاح، بان كثرا من اللاحقين سيشمروا عن سواعدهم، ليشيدوا حجرا وراء حجر، و"ساف" وراء "ساف" على ما اسسته تلك الدائرة المخيفة، وليضحى عملهم بمثابة "بنيان" راسخ لا يتزعزع، احتمى المستبدون به ليحيلوا آمالنا الى رماد، الامآل الحالمة في رؤية مدننا: مدن حضارية وعصرية، على جانب كبير من الحيوية والجمال، يسكنها مواطنون سعداء، لا "رعايا" منهكون!. قد لا تكون فترة الحكم الشمولي والاستبدادي، التى استمرت نيف وثلاثة عقود، حائرة، امام الاتيان بحجج تدين ذلك النظام، وتحمله مسؤولية تدهور وانحطاط مدن العراق بعامة، ومدينة بغداد بخاصة. انها، بالطبع ليست قاصرة عن ذلك ولا عاجزة عنه. فهي بالواقع كثيرة ومتنوعة، مثلما هي ايضاً، معروفة ومتداولة على نطاق واسع في المجتمع. وحده الاستبداد، الذي لا يعرف الحدود، مثالا لا حصرا، الذي خيم على البلد طيلة تلك الفترة، كفيل باحالة، (واحال بامتياز) الحالة الحضرية، الى ما يشبه الترييف، الذي تجاوزته مدن العالم منذ قرون. وبل ونظرة سريعة وخاطفة، من اي كان، الى حال مدن العراق مقارنة باحوال مدن دول الجوار، يتبين المأزق الحضري والانساني الذي عاشته (وتعيشه مع الاسف) مدن العراق قاطبة. ساتغاضى، بتعمد، كما وعدت، عن اللجوء الى ذكر عوامل معروفة كثيرة، او ايراد اسباب مقنعة ومعلومة للجميع، افضت الى تدهور وانحطاط بغداد وتأخرها. ساثير، في هذا السياق، الى جزئية واحدة، تتعلق بقرار استبدادي وتعسفي ينضح تباهٍ وتبجحاً. انه قرار افسد بتبعاته نسيج المدينة الحضري، وابان اسلوب التعاطي مع قضايا تخطيط المدينة من قبل الحاكم/ الفرد. انا، هنا، اشير الى واقعة بناء "مجمع جامع الرحمن" في المنصور، الذي بدأ النظام السابق في تشييده قبيل سنين قليلة من سقوطه. ومعلوم ان فكرة البناء، وقرار اختيار الموقع، وتحديد مقياس ومقاس المبنى المستقبلي، كلها من "بنات" افكار الديكتاتور المشنوق. سوف لن اتحدث عن قيمة الحلول التكوينية للمبنى ومعالجاته التصميمية. ما يهمني، هو نوعية المبنى ومكان توقيعه، ومقياسه ومقاسه، وفي كل ما يمكن ان يكون شأنا خاصا يتعلق بذهنية الحاكم وقراراته الملزمة غير القابلة للاعتراض او المساءلة، من اي كان. وحي المنصور، كما يعرف معظم العراقيين، من احياء بغداد الجميلة، إن لم يكن من اجملها. ويمتاز الحيّ، الذي شيد في منتصف الخمسينات، بدوره السكنية العائدة الى ممثلي الطبقة الوسطى المتنورة، ذات العمارة اللافتة. وقد خُطط الحيّ وفق نمط تخطيطي مميز، يعرفه المخططون جيدا، وهو نمط تخطيط "المدينة- الحديقة" Garden – City، التى تمتاز بحضور ملحوظ للمناطق المكشوفة والمزروعة "الحدائقية". وعادة ما تكون نسبة المساحات المكشوفة فيه، اعلى بكثير من مساحة التغطيات البنائية. كما تنطوي اشكال شوارع هذا التخطيط على شوارع ملتوية ومتعرجة غير مستقيمة؛ والتى يضفي وجودها انطباعاً حدائقياً ريفياً الى خصوصية الحي السكني. هذا بالاضافة، الى وجود ابنية عامة ترفيهية، معظمها نوادٍ اجتماعية ورياضية. ويشتمل الحيّ على ساحة كبيرة مزروعة ومكشوفة، هي بمنزلة "رئة" الحي السكني الذي يتنفس منه هذا الحي والاحياء الآخرى المجاورة. وقد اسثمر جزء منها كساحة خاصة لسباق الخيل. وبعبارة آخرى، فان حيّ المنصور، هو حيّ سكني مميز، وغني بامكنة الفعاليات الاجتماعية والترفيهية والخدمية، ولهذا فانه يمتلك كل المقومات، التى تجعل منه، ليكون حياً سكنياً عصرياً،هادئاً، ومناسباً جداً لوظيفته. وفجأة، ومن دون توقع، وحتى من دون حاجة ماسة، يأتي قرار بناء "مجمع جامع الرحمن" في ساحة المنصور ذاتها، الساحة الوسطية المكشوفة، والتى لطالما اعتبرت ميزة الحيّ، ومفردته التخطيطية البارزة. بالطبع، ليس من ثمة اعتراض على بناء "مسجد"، رغم ان بغداد، الآن، "متخمة" بهذا النوع من المباني. ولازلت اكن احتراما عميقا لجرأة احد رجال الدين الشيعة البارزيين، الذي افتى، عندما خُـيّر بين بناء جامع، ام مدرسة؛ فختار الاخيرة، شرط ان تكون ثمة حاجة لها. وهل يمكن لاحدٍ ان يجادل في حاجة المدينة الى مدارس؟ سواء في بغداد ام في غيرها من المدن العراقية. ذلك لان مجرد التذكير بوجود، بما يطلق عليه الآن "المدارس الطينية" كفيل لوحده بادانة جميع الانظمة التى تعاقبت على حكم العراق، وتعرية سوء ادارتها للبلد ومقدراته.؛ واظهار حقيقتها كانظمة تكن عداءاً مستحكماً للثقافة والتعليم؛ تلك الانظمة التى "بفضلها" ورثنا هذه التركة/ الفاجعة. لكني، اعيّ، بان الاسترسال في هذا الموضوع ليس مكانه هنا بالطبع؛ ولهذا فساعود الى موضوعنا الرئيس. لم يكن قرار تشييد المسجد في ساحة المنصور امراً عادياً او عفوياً. اذ اراد الحاكم بامره، ان يكون المبنى من الضخامة بمكان، بحيث يشار اليه بالبنان من جميع جهات المدينة. ولقد ترتب على هذه النزوة المفاجئة، غير المنطقية وغير المبررة، نتائج كارثية على الحي السكني وعلى نمط تخطيطه واشكال عمارته. لقد "سحقت" ضخامة هيكل الجامع المشيد، مجاوراته، واحالتها الى توابع صغيرة له. فمثل هذه الضخامة لا تتناسب بالمرة مع خصوصية النمط التخطيطي المختار للحيّ السكني، ولا تلائم مقياس مفردات عمارته. ثمة "فيل ابيض"، كما يدعوه المخططون، برز فجأة ومن دون مبرر في بانوراما الحي السكني، مغيرا من "سيلويته" Silhouette وخادشاً خط سماءه، و"ماحقاً" مجاوراته بجبروته العدائي ومقياسه غير الانساني. قد تكون عمارة المسجد، وضخامته المطلوبة، امراً عادياً، لو تم اختيار موقعاً آخرا له، يكون ملائما لمقياسه ولمجاوراته. اما ان "يحتل" ساحة خضراء، اعتبرت دوما من مزايا التخطيط الحضري للحي السكني، وان يصار الى جعله بذلك "الانتفاخ" الكتلوي، غير الضروري وغير المسوغ في حي سكني هادئ، تاق مخططوه ان يكون مثالاً للاحياء السكنية المدينية، ونموذجا لها؛ فان قرار تشييد الجامع بالصيغة المتصورة، وفي المكان المخصص، يبدو وكأنه عقاباً للحي ولشاغليه معاً. كما انه يعكس، في الوقت ذاته، اسلوب تعاطي الحاكم بامره مع مشاكل البلد وقضايا اعماره وانماءه، بالصيغة التى ابانتها واقعة اختيار موقع الجامع، من دون ان تخطر على باله فكرة استئناس رأي المهنيين او سماع مشورتهم. لم تنتهِ "قصة" جامع الرحمن، بسقوط النظام عام 2003. فعند تاريخ سقوطه، كان الجامع قد بلغ مراحل بنائية متقدمه في حينها، لكنه لم يكتمل نهائياً. ولم تعرف حكومات ما بعد التغيير، ماذا تفعل به. فعملية اكماله تبدو وكأنها امتدادا لتنفيذ اعمال النظام السابق، ما يشي بنوع من "التمجيد" لانجازات تلك الفترة؛ وهو امر لم يقدم عليه اي مسؤول في جميع الحكومات التى تشكلت بعد التغيير. اما فكرة هدمه فكانت عملية مكلفة، كما انها قد توحي باعطاء رسالة خاطئة، من ان الحكم الجديد مهتماً، (والعياذ بالله!)، بهدم اماكن العبادة. وقد ادى تكثيف العمليات الارهابية التى تسارعت وتيرتها لاحقاً في البلاد، الى جعل قضية وجود او اختفاء جامع الرحمن، امرا ثانوياً وهامشياً لدى اهتمامات المسؤوليين؛ ما مهد لعملية استيلاء هادئ ومنظم للجامع وارضه الواسعه المحيطة به، من قبل احد الاحزاب الدينية الشيعية المتنفذة، واتخذه مسجدا له، رغم عدم اكتمال بناءه. وتبين لاحقاً، ان "تفعيل" عمل الجامع، كان بمثابة تغطية مدروسة للاحتيال على حيازة ارضه المحيطة، ذات القيمة المالية العالية، وامكانية حق التصرف بها. وبدأت تظهر، بين فترة وآخرى، دورا سكنية، فُسّر وجودها بانها "متجاوزة"، كما بدأت تظهر ساحات لوقوف السيارات، مقتطعة في ذلك الموقع، تؤجر لآخرين؛ وغير ذلك من "الانشطة" الآخرى المتجاوزة. لكن فكرة "تغطية" تلك الممارسات بذريعة "اداء" الجامع لوظيفته، اصطدمت بعقبة كبيرة، ظهرت بغتة، وهي النقص الفادح في عدد المصليين الذين "يرتادون" ذلك الجامع، او حتى عزوفهم التام عن زيارته لاسباب عديدة؛ ما حدا بالجهة "الغانمة" للجامع وارضه، ان "تجلب" المصليين من امكنة بعيدة من احياء بغداد ومجاوراتها، حتى تثبت ديمومة "اداء" الجامع لطقوسه الدينية واستمرارها. وقد شاهدت بنفسي، في احدى ايام الجمع، سيارات نقل كبيرة وعديدة "محملة" بالمؤمنيين من مناطق بعيدة عن المنصور، الذين تاقوا (؟!) لاداء صلاة الجمعة، في فضاء الجامع اياه. وقد تمادت الجهة المستولية على ارض الجامع ومبناه ومعداته‘ في "التشبث" بمبنى الجامع، والتمسك بارضه وملحقاته، من دون مسوغ قانوني، يجيز لها مثل ذلك التشبث. وقد بلغ ذلك التشبث و"الاعتصام" لديها حدا، بحيث جعلها تتغاضى عن "التماس" وزارة الاعمار، وعدم تلبية مطلبها بالسماح لشركات الوزارة باستعادة ممتلكاتها الموجودة في الموقع، لاستخدامها في تنفيذ مشاريع العمرانية. وقد بررت الوزارة عدم استجـابة الجهة الغانمة لطلباتها العديدة في هذا الشـأن "لاسبـاب غير معروفة"!. (انظر خبر طلب استعادة الوزارة لمعداتها على الرابط التالي: اضغط هنا ). بالطبع، لم تكن ممارسة الجهة "الغانمة"؛ (وانا ادعوها بتلك الصفة، لاني لم اجد تعبيرا آخرا مناسباً، بمقدوره ان يصف وصفا موضوعيا و"شرعياً" للحالة اياها!)، اقول لم تكن ممارساتها غريبة عن ممارسات جهات كثر "ناشطة" في بغداد اليوم، وضعت نصب عينها الحصول على مزيد من "الغنائم" بطرق ملتوية وغير قانونية، احالت المدينة وفضاءها الى مايشبة الخراب، بل واتجاسر واقول: الى خراب تام وشامل، هو الذي يلقي بظلاله اليوم على جميع احياء العاصمة بدون استثناء. انه ثمرة ذلك الغلو، الغلو غير المنطقي وغير المسبوق، في الرفع عالياً من شأن الامتيازات الشخصية والحزبية على مصالح المجتمع واحتياجاته. ثمة "سطوة" عارمة، من حب الامتلاك، والاستحواذ على الممتلكات العامة (وحتى الشخصية)، لدى البعض، (البعض المتنفذ على وجه الخصوص) يجيزها لنفسه بذرائع واهية ومسوغات غير منطقية، ساهمت في خراب بغداد، مثلما تسهم في تغريب وتشويه حالتها المدينية.....وللحديث صلة!.
|