ناظم رمزي: المصور... الرائي |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات (الصورة بعدسة ناظم رمزي)
يسبغ النقاد على الشعراء صفة (الرائي)؛ الرائي، الذي بوسعه ان "يرى" ما لا نرى!، وان يستشف في العادي والمألوف، حدثا غير عادي وغير مالوف. من هنا ميزة وتميز ما يقول، رائيا ومستشرفاً الابداع في الكثير بما يحيطنا وما يشكل بيئتنا، مثيرا دهشتنا لما يقدمه لنا من رؤى و.. رؤيا. وصفة الرائي بمواصفاتها تلك، يمكن لها ان تنعكس، بسهولة، على ابداعات "ناظم رمزي" (1928) المصور الفوتوغرافي المعروف، تلك الابداعات "الرائية" والمدهشة والتى بمقدورها ان تجد وتكشف لقطات ابداعية عالية الفنية في الاماكن العادية نتفاجئ كيف اننا لم يتسنِ، سابقا، رؤيتها. لقد انجز الفنان عددا كبيرا من تلك اللوحات المبدعة على مدار مسار حياته العملية الطويلة. ومجموعة صور كتاب "جولتي مع الكاميرا"، الصادر حديثا (2010)، عن دارالأديب للصحافة والنشر في عمان/ الاردن (80 صفحة بالقطع الكبير)، تؤكد اهمية ذلك المسار الفني التصويري الابداعي وترسخه في الخطاب. وهذا الكتاب هو الرابع في سلسلة الكتب التى اصدرها رمزي والمتضمنة نماذج من لوحاته الفوتوغرافية المميزة، التى يعتز المنجز الثقافي العراقي والاقليمي ويفتخر بقيمتها الفنية العالية. اذ سبق وان صدرت له الكتب التالية: "العراق: الارض والناس" (لندن، 1989)، و"من الذكرة" (بيروت، 2008)، وكتاب "العراق: لقطات فوتوغرافية لبعض ملامح الحياة في القرن العشرين" (بيروت، 2009).
يوثق كتاب "جولتي مع الكاميرا"، لقطات مشغولة اثناء اسفار ناظم رمزي الى بلدان عديدة خارج بلده العراق، وتحديدا لبنان ومصر وتركيا وجيكوسلفاكيا وفرنسا وانكلترة. انها لقطات فضلا على اهميتها الفنية العالية، فانها تؤرخ لحيوات وبيئات، هي الآن نصاً محفوظاً في صفحات الماضي، ماضي المدن المزارة وشخوصها الحيويين. فبعض صور الكتاب تعود الى حقبة الخمسينات، ومعظمها يرجع الى العقد الستيني. وهي مثلما تعد جزءا من ذاكرة الفنان/ المصور، واسلوب مقاربته للحدث المرئي، فانها ايضا تشير الى شخصيته. ذلك لان <الصورة الملتقطة - كما يقول المصور السويسري "رينيه بوري" (1933) Rene Burri المعروف عالميا بالتقاطه صور "جي غيفارا" الشهيرة- لا تكتفي بان تكشف وتوضح ما يحيطنا، انها تكشف ايضا طبيعة وشخصية الفرد الواقف خلف الكاميرا>!. ثمة اهتمام كبير يوليه ناظم رمزي الى بيئة المدن المصورة ومفرداتها العمرانية المتنوعة: شوراعها ومبانيها وتفاصيلها العديدة المؤثثة لفضاء تلك المدن. لكن الاهم في ذلك هو حضور الانسان فيها، الانسان بكل حالاته. ونادرا ما تخلو صوره عن وجود انسان. (في كتابه الاخير، احصيت ست صور فقط من مجموع صور الكتاب المنشورة التى تفتقد حضور القوام الانساني فيها!). ثمة دلالات ترمز الى اهتمام الفنان ببنى شخوصه الملتقطه. فهو متعاطف لفرحهم وترحهم، ومشارك في تجمعاتهم كما انه شاهد امين على تنوع امزجتهم وتعدد مظهرهم المثقل بالايحاءات. من هنا يتعين فهم طبيعة "الرسالة" التى يود ان يبعثها الفنان/ المرسل الى المتلقي. فحالات مدنه من حالات شخوصها؛ هم الذين يمنحوا صفة الحيوية والانتماء والالفة اليها. لقد لاحظ احد النقاد المعماريين مؤخرا، بان تخطيطات المشاريع المعمارية المعاصرة، المشغولة آلياً، تخلو من وجود لرسوم الناس، الذين كانوا في السابق، جزءا لا يتجزأ من مفردات مخططات المشروع المقترح. فبهم يمكن التعرف على مقياس المبنى وتحديد مقاسات عناصره، كما ان حضورهم يضفي على اللوحة المرسومة احساسا بانتماء المبنى لهم ويؤكد علاقتهم به. ويتساءل في الاخير، هل من ثمة دلالة مقصودة بخلو لوحات المشاريع المعمارية من حضور الناس فيها؟ هل ان ذلك الخلو كناية عن "غربة" العمارة المعاصرة عن متلقيها او حتى مستخدميها؟ ولعل نوعية اللوحات الفوتوغرافية المشغولة من قبل رمزي، المسكون باحساس الالفة والانتماء وعدم التغريب، يمكن لها ان تشكل صيغة جواب عن مثل ذلك التساؤل المطروح. على ضفاف نهر السين، باريس، 1965 توضح صور "جولتي مع الكاميرا"، مرة اخرى، مهارة ناظم رمزي ومقدرته في تأليف لوحات فوتوغرافية فنية عالية الجودة، ان كان لجهة الصياغات التكوينية المعبرة، ام لناحية حرفيته المكتملة في التعاطي مع آلته التصويرية، ومعارفه الدقيقة والشاملة في اجراءات ما بعد التصوير. لكن ما يسم صور رمزي بشكل عام، هو جهوزيته وحضوره في اللحظة المناسبة اياها، التى تتجمع فيها كل عناصر التكوين الناجح: من مفردات الصورة المستقبلية، وتآلف تلك المفردات فيما بينها، وعن حضور كمية الضوء والعتمة المناسبيين، وعن اختيار وضعية ومكان الالتقاط؛ وبالطبع وجود الكاميرا مع الفنان في ذلك الوقت المحدد. وهذا التجمع النادر، الذي يدعوه المصور الفوتوغرافي "هنري كارتييه- بريسون" (1908-2004) Henri Cartier- Bresson <باللحظة الحاسمة>، هي التى يصفها المصور الفرنسي العالمي، بكونها "شعور حدسي اكثر منه.. فني!". وهو تصريح يحيلنا، مرة آخرى، للتنبيه، بان عملية "تخليق" الصورة واجتراحها، هي مهمة معقدة وغامضة، واحيانا غير قابلة للتفسير. وهي بالتالي، توضح لنا ندرة المصور الموهوب في المشهد، رغم وجود عدد هائل ممن يتعاملوا مع الكاميرا اليوم. الشتاء في باريس، 1965 ثمة هندسية طاغية تجزأ اللوحة الى قسمين متماثلين، يفصلهما خط مستقيم مائل، يحدد منطقة مياه النهر المضيئة، عن منطقة يابسة الساحل المعتمة نوعا ما، والمرصوفة باحجار تعكس احياناً نقاط الضياء "المسكوب" عليها، مخففة بذلك من لون سواد يابسة الساحل. في اعلى الصورة ثمة جزء لجسر، (نخمن انه "بون نوف" <الجسر الجديد>)، تشكل قناطره ذات العقود النصفية مع اسقاط انعكاساتها المائية دوائر كاملة، كانت دائما مدار افتنان الرساميين وخصوصا الانطباعيين منهم. تتوازن كتلة عقود الجسر القديم هذه، مع كتلة السلم في اسفلها؛ هو الذي يحضر بمدرجاته الحجرية الواضحة، والمؤكدة من خلال تناوب مثلثات القسم الافقي المضاءة، مع مثلثات اجزاءه العمودية المعتمة. ثمة شخص بلباس داكن، يقف اسفل السلم، يماثل وجهه ويداه المضيئتان، لمعان سطوح بعض حجر الساحل المرصوف الواقف عليها. وكما تخفف اغصان الاشجار الجرداء الشتوية المتدلية عند منطقة الجسر من غلواء الهندسية، فان "اثاث" الرصيف النهري المقننة والمبعثرة وكذلك عناصر السلم الذي يقف المصور في اعلاه، تكوّن معادلاً لطبيعة حركة تلك الاغصان العفوية والانعكاسات المتكسرة المائية لقناطر الجسر. واللوحة التصويرية في الاخير، تحمل قوتها التكوينية في ذاتها، وفي الصيغة التى تطالعنا: هندسية تماما، ومتماسكة تماماً، ومتاضدة تماما. قادرة على خلق انطباعا يشي بالحيوية المفعمة بالبهجة، يدهشنا كيف تمكن رمزي من التعبير، بفنية، عن كل ذلك!. ايريد الفنان ان يرسل لنا رسالة ما، عبر نشر هذه الصورة؟ تحية لك، ايها الفنان، لعطاءك ومنجزك المهم... والمطلوب. |