وثائق ويكيليكس ... الاستخدام السياسي ومعضلة المتابعة القضائية |
. المقاله تحت باب قضايا كالعادة، ومثل كل مرة، كان المصدر الرئيس للكشف عما حدث ويحدث في العراق خارجيا، وجاء هذه المرة من موقع "Wikileaks"، وعلى الرغم من أن الموقع المذكور كان قد نشر في نيسان 2010 شريطا مصورا لواقعة حدثت في العام 2007، تظهر هجوما تشنه مروحية على مدنيين عراقيين بينهم صحفيان من وكالة رويترز، ثم تحدث الموقع نفسه في تموز من العام نفسه عن وثائق خاصة بحرب العراق بعد نشره وثائق مسربة تتعلق بالحرب في أفغانستان، إلا أن الدولة العراقية ونخبها السياسية بدت وكأنها فوجئت بنشر ما مجموعه 391,832 وثيقة للجيش الأميركي بين العامين 2004 و 2009. وتقتضي أبسط شروط العقلانية والموضوعية عدم إطلاق أية مواقف من دون مراجعة وتحليل. فالوثائف كما وصفها الموقع "يوميات حرب العراق Iraq War Diaries" كونها تمثل تقارير ميدانية وشهادات عيانية للجيش الأميركي، لكن السياسيين العراقيين سارعوا، كل من موقعه، إلى محاولة استخدامها، أو التركيز على السياق الذي تم من خلاله تسريبها، من دون التفات حقيقي إلى ما تضمنته هذه الوثائق من معلومات. فأوساط الحكومة العراقية حاولت التقليل من أهمية هذه الوثائق، بالقول إنها ليست سوى "ألاعيب وفقاعات إعلامية تقف وراءها أهداف سياسية معروفة" كما جاء في البيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء، ومركزة هجومها المضاد على قناة الجزيرة التي نشرت بعض هذه الوثائق، وعلى توقيت النشر، وصولا إلى محاولة التشكيك بالوثائق نفسها. من دون ان ينتبهوا إلى أنها لم تنشر على الجزيرة فقط، وإنما نشرت في أربع صحف عالمية أخرى هي النيويورك تايمز، والجارديان، ودير شبيغل، ولوموند! ومن ثم هل يمكن أن ينسحب الحديث عن "التوقيت المغرض" للنشر، و "الأهداف السياسية المعروفة" على هذه الصحف أيضا! إذا لم تشكك الجهة المسؤولة نفسها مطلقا بصحة هذه الوثائق وان كانت تدينها! ثم هل الحقيقة ونشرها تحتاج إلى توقيت خاص حتى لا يتعارض مع "مفاوضات تشكيل الحكومة"! أما الطرف الآخر، فقد عمد إلى محاولة انتقاء بعض المعلومات الواردة في الوثائق من اجل استخدامها في صراعه السياسي ضد الحكومة. أما الآخرون فبعضهم ظل صامتا (التحالف الكردستاني)، وبعضهم الآخر اكتفى بتسجيل المواقف العامة (الصدريين، المجلس الأعلى، الحزب الإسلامي). لكن السؤال الذي ينبغي الإجابة عنه هنا هو: ما هو الأثر القانوني لهذه الوثائق، وتحديدا في ما يتعلق بمسؤولية القوات الأميركية والقوات الحليفة، ومسؤولية الحكومة العراقية وقواتها الأمنية، وأخيرا في ما يتعلق بالضحايا؟ منذ اللحظات الأولى لاحتلال العراق كانت هناك اشارات صريحة للعديد من السياسيين الاميركيين وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد بعدم الالتزام بالقواعد الاساسية لاتفاقيات جنيف وبروتوكوليها الاضافيين، من دون ان نعرف، نحن العراقيين، ما القواعد التي تحكم عمل هذه القوات. وبدا وقتها ان قواعد الاشتباك العسكرية كما تنظمها القوانين الاميركية هي وحدها السارية. كما لم نعرف ما القواعد التي تحكم عمل هذه القوات بعد ان تحولت بموجب قرار مجلس الامن إلى "قوات متعددة الجنسية" بعد نيسان 2004. إذ لا توجد اية صيغة قانونية بخصوصها تعلمنا ما اذا كانت ملزمة بشيء او ملتزمة بشيء تجاه الدولة (المضيفة) او مواطنيها. بل إن بول بريمر، وبعد توليه لمسؤولية قيادة سلطة التحالف المؤقتة في مايس 2003، أصدر قرارا يمنع على العراقيين او القضاء العراقي متابعة اي شكوى تجاه هذه القوات، بل ويمنع تطبيق القوانين الدولية الخاصة بجرائم الحرب وجرائم الابادة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، فالأمر رقم (17) لسنة 2001 قد منح هذه القوات حصانة من اي اجراء قانوني عراقي. والغريب ان هذا الأمر الذي اصدره بريمر ظل ساريا حتى بعد زوال (الاحتلال)، وتغير صفة هذه القوات من قوات محتلة الى قوات متعددة الجنسية وبعد كتابة دستور دائم للدولة! ولم يتغير الأمر كثيرا بعد اتفاقية انسحاب القوات بين الحكومتين العراقية والأميركية، التي منحت الحكومة العراقية الولاية القضائية "شكليا" بشأن الجنايات الجسيمة المتعمدة حين ترتكب تلك الجرائم خارج المنشآت والمساحات المتفق عليها وخارج حالة الواجب، ولكنها منحتها "عمليا" للولايات المتحدة الأميركية لأنها الوحيدة التي تقرر حالة الواجب من عدمه (المادة 3)، وفي ظل إمكانية ان "تتخلى" الدولة العراقية عن ولايتها القضائية للطرف الآخر (المادة 6 والمادة 9)! كما ان الولايات المتحدة لم تصادق على نظام روما الأساس الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية (ومثلها العراق)، ومن ثم لا إمكانية لمتابعة الموضوع دوليا. أما في ما يتعلق بمسؤولية الحكومة العراقية وقواتها الامنية، فنحن أمام انتهاكات يومية ومنهجية للدستور والقوانين النافذة في ما يتعلق بالحقوق والحريات الاساسية (الاعتقالات التعسفية، والاحتجاز لمدة طويلة من دون محاكمة، والتعذيب)، من دون أفق لتغيير هذا الواقع. كما أن القوانين العراقية النافذة تبدو عاجزة عن متابعة الجرائم الموصوفة في هذه الوثائق، فقانون المحكمة الجنائية العراقية العليا، القانون العراقي الوحيد الذي تعامل مع هذا النوع من الجرائم (الابادة الجماعية، الجرائم ضد الانسانية، جرائم الحرب)، قصر ولايتها على الجرائم المرتكبة بين تموز 1968 ونيسان 2003، أما في ما يتعلق بجرائم التعذيب، فعلى الرغم من أن الدستور العراقي قد حرم في المادة 37 / ج ( جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية ولا عبرة لأي اعتراف انتزع بالإكراه أو التهديد أو التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابه، وفقا للقانون). وعلى الرغم من مصادقة العراق على اتفاقية مناهضة التعذيب في العام 2008، إلا ان القانون العراقي يبدو قاصرا إلى حد بعيد في التعامل معها. فقانون العقوبات النافذ، وتحديدا في المادتين (332) و (333)، يعاقب بالسجن أو الحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بالتعذيب أو استعمل القسوة ،لكن العقوبات المنصوص عليها تبدو مخففة إلى حد بعيد، وغير رادعة ابدا. إذ ان النصوص القانونية النافذة لا تجعل "استعمال القسوة" تعذيبا، من هنا فالعقوبة مخففة جدا، أما المادة الثانية فتعاقب "بالحبس أو السجن" وهذا يعني أن هناك إمكانية للتعامل مع التعذيب بوصفه جنحة وليس جريمة، وقد جاءت العقوبات من دون أي تحديد، أي ان العقوبة تتراوح بين ثلاثة أشهر وخمسة عشر عاما! وهذا يعني أن المادتين بصيغتيهما الحالية قابلتان للتأويل المفرط، وبالتالي هناك إمكانية للإفلات من العقوبة الرادعة. كما أن قانون العقوبات يتضمن نصوصا أخرى يمكن أن تكون قابلة للتأويل المفرط الذي يضيع معالم واقعة التعذيب نفسها. فالمادة (41) مثلا تنص على أنه (لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالا لحق مقرر بمقتضى القانون)، ومن هذه الأفعال ما جاء في: رابعا (أعمال العنف التي تقع على من ارتكب جناية أو جنحة مشهودة بقصد ضبطه). فهذه المادة تتيح للقائمين بضبط المتهم الإفلات من العقاب تجاه أي ممارسة عنيفة أو حاطة بالكرامة. خاصة ونحن بإزاء ممارسات منهجية وعامة تبين أن جميع الاعتقالات تترافق مع سوء المعاملة المهينة بالكرامة الإنسانية، وعادة ما تكون مصحوبة بالاعتداء البدني واللفظي. ولا يقتصر الأمر على قانون العقوبات؛ فقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 يتضمن كذلك العديد من المواد التي يمكن عدها إشكالية في ما يتعلق بجرائم التعذيب، على سبيل المثال لا الحصر فان المادة (3/1) تحدد الجرائم التي لا يجوز تحريك الدعوة الجزائية ضدها إلا بناء على شكوى من المجني عليه أو من يقوم مقامه قانونا، ومن هذه الجرائم: (التهديد أو الإيذاء)، وتأتي المادة (6) لتقرر عدم قبول الشكوى (بعد مضي ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة أو زوال العذر القهري الذي حال دون تقديم الشكوى ويسقط الحق في الشكوى بموت المجني عليه ما لم ينص القانون على خلاف ذلك). والمادة (8) تقرر أنه (إذا اشترط القانون لتحريك الدعوى الجزائية تقديم شكوى فلا يتخذ أي إجراء ضد مرتكب الجريمة إلا بعد تقديم الشكوى ويعتبر المشتكي متنازلا عن شكواه بعد تقديمها إذا تركها دون مراجعة مدة ثلاثة أشهر دون عذر مشروع، ويصدر قاضي التحقيق قرارا برفض الشكوى وغلق الدعوى نهائيا). كما أن تقارير وزارة حقوق الإنسان للعامين 2007 و2008 تتحدث صراحة أن "الإفلات من العقاب" يكاد يكون منهجيا في قضايا التعذيب، وتشير الوزارة أيضا في تقرير سنة 2009 إلى شمول المتهمين بممارسة التعذيب قبل العام 2008 بقانون العفو العام! كل ذلك يدلل على ان ليس ثمة إمكانية لأية متابعة حقيقية للجرائم الموصوفة في وثائق ويكيليكس، ولا إمكانية حقيقية لإنصاف الضحايا، لا دوليا ولا محليا، وكل ما نستطيعه هو الإدانة الاخلاقية لما جرى ويجري، خاصة في ظل عدم وجود إرادة سياسية حقيقية للتعامل مع ما جاء في هذه الوثائق، تماما كما هو الأمر مع ما سبق معرفته من انتهاكات، من سجن الجادرية إلى سجن المثنى، وتماما كما تم التعامل مع التقارير الدولية، من يونامي إلى منظمة العفو الدولية إلى هيومان رايتس ووتش إلى التقارير المحلية، بل وحتى التقارير الرسمية التي أصدرتها وزارة حقوق الانسان لم تتابع، لا شيء سيتمخض سوى مناكفات سياسية تهدأ مع أول بادرة توافق سياسي. أما اللجنة الرسمية المشكلة لمتابعة القضية فلا تعدو إطار البروباغاندا السياسية. |