.
المقاله تحت باب قصة قصيرة في
16/10/2010 06:00 AM GMT
وهو يعيد ترتيب كتبه وينفض عنها تراب مسكنه المهجور لسنوات، ويوزعها على رفوف خشبية داكنة اللون شغلت حيزا واسعا من جدران صالة الاستقبال في مسكنه الجديد، وقع بصره على دفتر بغلاف اسود سميك تأطرت حاشيته بورق لاصق محكم لا يشبه الدفاتر الأخرى بقياساتها المعروفة، يوحي منظره بحرص متناه، خشية تلف وضياع مرتقب!! يترك المهمة التي أعيته كثيرا سيما بعد أن بدأت الشمس ترسل أشعتها قوية حارقة، منذ ساعات الصباح الأولى، فاحترقت النسمات الخفيفة التي كانت تداعب وريقات شجر قليلة في حديقة المنزل. حدق في السجل الذي ظل يبحث عنه طوال تلك المدة التي شهدت موجة من العنف والاحتراب موغلة في الوحشية،اضطر بسببها إلى الهرب والإفلات من الجحيم لينجو وعائلته، ليستقر بمأوى صغير.. بلا كتب، وذكريات وأسماء تركها محفورة على جدران منزله البيضاء، ومكتبته التي يأوي إليها في سنوات الحرمان والجوع والاضطهاد، كانت ملاذه الوحيد الذي يخفف عنه أحزان الزمن البغيض، أحس كامل بالعرق يتصبب من جبهته، من المؤكد وهو يتحاور مع نفسه، إن كل تلك الأحزان لا تعادل لحظة افتراق مع المكان الذي يشيد بالدموع والهم وعسر الحال، لاتعادل حالة الانتزاع ألقسري من الوطن أو إكراه الإنسان بالمغادرة تحت ضغط التهديد حاول كامل أن يتناسى تلك المشاعر المتضاربة التي يجدر به أن يكبحها لأنها تشكل وجعا ممضاً في حياته. كان مطمئنا بعض الشيء متمسكا بخيط واه من الأمل يعيد له السكينة بعودة كتبه إليه ، ولعل إحدى المفارقات التي تدعو للسخرية، ان مكتبته هي الوحيدة التي ظلت محفوظة من دون أن تمتد لها أيادي التدمير المجنون. يعرف جيدا ان القتلة والمجرمين لا يعنيهم الكتاب ، ولا يكترثون لوجوده، انه بنظرهم ليس سوى كومة من الأوراق جاهزة للحرق متى ماشاءوا، لتوفر الدفء لأجسادهم الملطخة بدماء الضحايا ، وهم يجتاحون البيوت الخالية من أهلها في ليالي موحشة ومظلمة، حالكة السواد، كسواد قلوبهم الميتة، أنها الحسنة الوحيدة ربما ، التي تركها أولئك الأوغاد ، فثمة شعور اختلط فيه الفرح والحزن، وهو يستعيد كنزه الثمين، بعد انتظار مرير. انتبه كامل الى نفسه، واستدار ليلقي ببصره مرة أخرى إلى ذلك الدفتر العتيق، الذي ضم أسماء رتبت حسب تسلسل هجائي بعناية فائقة، تنم عن اهتمام مبالغ فيه، وذوق فني منظم في تسجيل أرقام الهواتف، وعناوين الأشقاء والأصدقاء وزملاء له في العمل، ثمة مشاعر عديدة اجتاحته بوقع سريع موجع مشوب بالحذر والقلق والتردد. لقد كان كامل يدرك جيدا عدم جدوى تلك الأرقام التي باتت معطلة وليست ذات نفع، بسبب ما قدمه العصر من منجزات حديثة في وسائل الاتصال… لأنه على يقين، أن استعادة تلك الأسماء ستختزل له أحداث عقود من الزمن ولو بصورها المشوشة، راح يسأل نفسه ويجيبها باعتداد وهو يحاول أن يتشاغل بشيء نافع ومفيد يثنيه عن الرغبة في اكتشاف جديد لأشياء طواها الزمن، على افتراض مسبق بمعرفة الكثير من الحقائق التي عاصرها.. في تلك السنوات، رحل والده، والعديد من أفراد عائلته وأقاربه، وبعض من أصدقائه، انه على علم بتهجير رشاد وصالح، وقتل سليم، وذبح مراد، واختطاف باقر وكريم، واعتقال عبدالله.. ماذا تضيف له كل تلك الأحداث غير الألم، والفزع من المستقبل ؟. يتساءل كامل… لقد ظلت أرقام هواتف هؤلاء هي الشاهد الوحيد على تاريخ وذكريات متناثرة عنهم، لم تعد تلك الأرقام تشكل مصدرا يروي عطشه لمعرفة المزيد من الحقائق، ولعل وجود هاتف ارضي يوفر له خدمة الاتصال ضاعف من حماسه للاستفسار عن نزار الذي فارقه منذ ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر. تنتقل يداه الممسكة بسجل الهاتف لصفحة حرف (النون) ويخامره شك كبير أن يكون نزار على قيد الحياة ليرد على ندائه الاول، ومبعث شكوكه تلك، أن نزار الرجل الذي قارب السبعين من العمر، لا يتجاوز وزنه في ذروة شبابه أكثر من 50 كيلو غراما. جسد نحيل يرتكز على ساقين طويلين ينوء بحملهما وكأنهما خيطان متدليان متأرجحان، يذهبان يمينا وشمالا وخارجان عن السيطرة.. كان من السهل جدا علينا أن نعرف بقدوم نزار حين تسبقه زوبعة من التراب تثيرها أقدامه وهي تخبط الأرض بعشوائية غير مقصودة . يضع كامل سبابة يده اليمنى على قرص الهاتف الدائري.. يتحرك الرقم الأول بنصف استدارة ثم الثاني والثالث… حتى السابع. لحظات سريعة جدا مرت لم يعد احتمال ارتعاش ساقيه، فاختار مقعدا للراحة بانتظار رنين هاتف نزار. -الو… الو.. يجيب على الطرف الأخر، صوت نسوي ناعم خفيف خجول -نعم…ألو..من؟ -هل هذا بيت نزار؟ -تقصد ابو علي… نعم بيت نزار على الرغم من مشاعر الفرح المتواضعة التى تسللت الى اعماقه في اللحظات الاولى من الرد، الا ان هاجسا بالخوف كان هو الطاغي على حالة الترقب، وانتظار المفاجات، فاستمر كامل بالسؤال: -هل ابو علي موجود، استطيع التحدث معه؟ -نعم، لكنه خارج البيت… _ لم اكن مضطرة للمزاح .. اجابت بحذر شديد … وما الذي يدعوك الى هذا الاستنتاج ، يبدو انك بعيد تماما عن ( ابو علي ) . -عذرا لا اقصد ذلك.. أنا الذي أردت المزاح بالسؤال.شعر كامل بالحاجة حينئذ إلى المزيد من الراحة، والتقاط أنفاسه لبرهة قصيرة.. يمكن من خلالها أن يلملم أفكاره ويعيد تنظيم أسئلته من جديد على وفق معطيات المحادثة مع الصوت النسوي. -سأعاود الاتصال به في وقت آخر، يا سيدتي الفاضلة إن كان مستعدا لسماعي، أنا كامل بن فرحان، أرجو أبلاغه . -نعم، أجابت تلك المرأة، التي لم تشغل تفكيره لمعرفة صلتها بصديقه القديم نزار… فأغلقت الخط الهاتفي وتوقع بين لحظة وأخرى أن يرن هاتفه من جديد ليبدد السكون والصمت اللذان يسودان أجواء الصالة الخالية من الأثاث، سوى ما علق في جدارنها من لوحات تشكيلية وآيات قرآنية، تتصدرها آية الكرسي بحيز متميز. ظل يترقب بلهفة شديدة نداء عاجلا لنزار، فخاب توقعه بعد طول انتظار فقرر معاودة طلبه من جديد في الساعات الأولى من الليل. فجاءه الصوت خافتا مبحوحا متقطعا مشلولا . -هل أنت نزار؟ فرد بصعوبة بالغة … نعم -هل فقدت وعيك يانزار، وتمكنت الخمرة من شل لسانك؟ وأعيت أوتار صوتك؟ -أنا لا أعاقر الخمرة أبدا، كما تعلم يا كامل…لكنني اصب بالشلل، فتحولت إلى نصف رجل الآن من جراء جلطة دماغية أفقدتني القدرة على النطق لكن ذاكرتي ما تزال حية.. أنها الصدمة الأولى التي هزت كيان كامل في بحثه اللا مجدي، في الأسماء… لم يعد حاله يتحمل المزيد منها فيما إذا قرر مواصلة لعبته تلك.. فصمت قليلا وهو يتلمس كرسيا قريبا منه، سحبه اليه بعض الشيء ليستريح من وقع المفأجاة… أسند مرفقة اليمين عليه، وواصل السؤال: -وانت يانزار هل تعرفني جيدا… -كيف لا… مازلت أتذكر تلك الليلة التي سرق فيها قطاع الطرق دراجتك قبل أربعين عاما، وأنت تتجه إلى حديقة الجمهورية لتذاكر دروسك تحت ضياء الحديقة أليس كذلك؟.. كنت مسكونا بالقراءة والكتاب ودفعت ثمن سعيك الجاد وحرصك على الدراسة. كنا نسخر منك ولما تزل لم تتخلص من اضطرابك الشديد، وهلعك من فوهات المسدس الذي صوب نحوك في الظلام. -أود ان أسألك يانزار عن مصير أفراد الشلة التي شغلت زاوية من مقهى شمه، بالحضور اليومي لساعات طويلة، وهي غير آبهة برواد المقهى الآخرين المنشغلين بلعبتي الدومينو والنرد،…. وصراخ الراديو والمارة.. كان جل أفرادها من أولئك الذين بدأوا خطواتهم الأولى في الكتابة وانشغالهم بقضايا الأدب والسياسة. - أين احمد السعيد، حميد الفاضل، رياض العيسى، سعيد راغب، نعيم ستار، و.. و…. يبدو ان نزار هو الاخر كان ينتظر هذه اللحظة التى ايقظت ذاكرته من جديد وحررت لسانه من الشلل، أيقنت وانا استمع لنزار، وهو يروى حكاية كل واحد من هؤلاء بتفاصيل دقيقة، انني ارى وأسمع واعيش بين اولئك دون ان يراني او يسمعني احد منهم، هالني ما أصابني من فزع بسبب هذا الشعور… لكن فجأة ساد الظلام، ليقطع النور والصوت، على الرغم من حزمة خيط رفيع من الضوء لم تستطع النافذة المطلة على الفضاء الخارجي للمسكن من كبحه ليستدل كامل على طريقه بصعوبة من خلال بقعة ضوء صغيرة كانت على الحائط طريقه بصعوبة ليعيد سماعة الهاتف الى مكانها الطبيعي وهو يعاود الهمس مع نفسه، وتتصاعد أنفاسه، وتتشبث يداه الراجفتان بأعلى مسند الكرسي مع إحساس متعاظم بقوة الظلام وبجهد صعب تخطت قدماه البالغة الثقل العتبة الواطئة لباب الصالة، محاولا الإفلات من هذا الكابوس… وهو يتطلع إلى الضوء القادم من الشارع كوسيلة للخلاص من تتبع الشريط المأساوي الذي ظل يدور بدون توقف في عقل نزار، إلا أن صمتاً بدأ يترسب بكثافة في أعماقه، شغله قليلا في تأجيل حشد من الرغبات المترسبة في الداخل. مشاعر جمة تؤجج في كامل أوار العزم للعودة إلى تصفح أوراقه القديمة، حال عودة التيار الكهربائي الى البيت، وها هي الإنارة تحتل مواضعها بتذبذب مفضوح، وراح الضوء يلثم برفق صفحات الكتب المرصوفة على رفوف الجدران، تحسس الوجه الصقيل من الدفتر بيده اليمنى المعفرة بتراب الجدران التي اتكأ عليها، وهو يتلمس طريقة نحو الغرفة من جديد ، عيناه تنتقلان بصعوبة فوق الأشياء الغارقة في الضوء ساد الصمت بين الجدران، وانزوى في ركن تحتله طاولة داكنة اللون، مستطيلة الشكل، يقف خلفها كرسي دوار.. أسند ظهره إليه، وهو يحلم بالطواف حول العالم، أطرق الى السجل محدقا فيه، طوى أول صفحة فيه، احتوت على معلومات شخصية ورقم بطاقة الهوية، وفصيلة الدم وعنوان مسكنه القديم، وصفحة أخرى تقابلها لا تحمل أي معنى، وفي الزاوية العليا اليسرى من الصفحة التالية، يبرز حرف(أ) كأنما ينبعث من تجاويف غائرة في الأرض، شامخا، منغرزاً في أعلى الصفحة كمسمار. الاسم الأول (أكرم) ، التقاه صدفة قبل أيام في مبنى إحدى الصحف الأسبوعية لم يصغ الى سماع شكواه وهو يتحدث بانفعال وبسرعة عن معاناته، وجهه يعتريه الشحوب، حاول أن يمسح دموعه التي كادت ان تخنقه.ويخفف بعض آلامه وحزنه لم تترك كلمات أكرم أثرا بالغا في نفسه، لأنهما يتقاسمان المصير ذاته!! ليت احمد بأحسن حال من أكرم، يتساءل كامل مع نفسه، وهو يتابع قراءة أسماء الصفحة الأولى، أن كليهما يتشاطران الفجيعة، أما ابتسام، فقد ظلت وحيدة في بيتها الذي كان ضاجا بضحكات الأولاد، ومزروعا بأمانيهم العذبة، لقد تركوها وحيدة، واختاروا الغربة في البلاد البعيدة هربا من الموت الذي يداهم الشباب، هاهي تتلفت الى الجدران التي تغادرها الروح… لم يعد الدخل العالي والكسب المادي الكبير، وترف العيش الذي يوفره عملها اليومي في عيادة طب الأسنان العائدة لها، ان يعيد لها أبناءها ، ويزيح الهواء الفاسد المخزون في صدرها ، ترى هل يمكن للحيطان أن تلم أحلام ابتسام؟ يحاول كامل بتركيز شديد أن يتذكر (أمير)، فلم تسعفه ذاكرته المعطوبة من التعرف على أمير، وظل هو واسمه مجهولا.. وبلا معنى .. ولم يصل إلى ما يسعفه لمعرفة المناسبة التي دون فيها اسم أمير وكذلك أسماء أخرى، أبو ازاد، ترى من هو ابو أزاد؟ واسعد، واحمد.. هناك خمسة أرقام تحمل ذات الاسم.. أياً من هؤلاء يستطيع ان يتلمس طريقه إليه؟ حاول كامل ان يرتب أفكاره من جديد، ويعيد وصل سلسلتها المقطوعة، لكن سرعان ما تلاشت الذكريات، وشعر بداخله يحترق حين تأكد له، إن إبراهيم وإسراء، وأمال، وابتهال، هم الآخرون لا وجود لهم ألان على خارطة الأصدقاء. وبعد ان نفدت حيلة كامل، بدا هادئا وادعا لبرهة من الوقت، كأنما عيناه تتوسلان الى شيء مبهم يقدم له المساعدة للتخفيف من حيرته وشدة خيبته، واصل النظر بجمود إلى بقية الصفحات.. أيقن من صعوبة الاستمرار ، فكر بالأمر جليا.. لان صفحة واحدة من الأسماء تختزن بمئات الأحداث والذكريات، وثمة صيحة أخرى هزت كيانه انطلقت من داخلة : كامل اترك هذه اللعبة وانصرف!! لكنه قبل ان يلبي النداء اتجه بنظره الى النافذة ليرى كتلا من الظلام تتخللها خيوط وامضة، كانت به رغبة الى النوم، مشت العتمة الى الشباك، واتسعت دائرة الصمت، ظل كامل شارد العينين، فالساعة تقترب من منتصف الليل.. فشعر بالانقباض وقرر ان يتمعن للمرة الأخيرة في الأسماء ، وذهب إلى صفحة أخرى، كان يعرف أن اسم عدي فيها يتلألأ لوحده بين الأسماء، بدا له ألان في العشرين من عمره، كان طالبا في كلية الهندسة يدرس الميكانيك، يلوح له ألان من فوق الرؤؤس باسما بحقيبته الصغيرة، تشاغل كامل عن عدي بالنظر إلى سطور أخرى ، محاولا الابتعاد عن ذكرى عدي، الذي غادر بيته في اليوم الأول من بدء عطلة نصف السنة يقضيها بين أبويه وإخوته في الحلة، لكنها كانت المغادرة الأبدية.. استحضر وجهه الأبيض، ونظراته الصافية، كان يتحدث بصوت خفيض بطعم الريحان، وله أفكار رائعة، كأنه حمامة بيضاء ترفرف في سماء البيت وينثر الورد صباحا مصبوغا بضحكته الطفولية. لم يعد السجل بعد ذلك الاستحضار، وهو مسجى أمامه على طاولة المكتب سوى أنين مكتوم وحشرجات، واستغاثات ليست بعيدة جدا… يلفها الحزن، مازالت تسمع على مقربة منه. لم تلبث نظرات كامل ان اضطربت وهي تتجه صوب دفتره السميك فأنسل بخفة نحو مطبخ المنزل، يبحث عن عود ثقاب، ارتعشت أصابعه، وكاد قلبه يفر من صدره، لم تتخاذل يده، وسرعان ما جمع قواه.. وفي لحظة غامضة حول اوراق الدفتر إلى جسد يلتهمه الحريق يثير الشفقة. فتح نافذة الصالة، يتابع تصاعد الدخان الذي بدأ يتسرب كثيفا وببطء نحو الخارج، وماهي إلا دقائق مرت، حتى انطفأت الأضواء ، ولملم بقايا الرماد، وساد المكان الصمت.
|