في غياب منطق الدولة |
. المقاله تحت باب في السياسة لا يسع المتابع لمجريات الامور في العراق سوى الوقوف طويلا أمام الغياب التام لمنطق الدولة، الذي يفرض بالحد الأدنى الالتزام بالمؤسساتية بعيدا عن الانحيازات الفردية أو الجماعية التي تفرضها طبيعة علاقات الصراع القائمة. وقد وجدنا في الاسبوع الماضي أربع لحظات كان فيها هذا الغياب لمنطق الدولة هو الحقيقة الوحيدة. وهذه اللحظات هي: تقرير منظمة العفو الدولية، وصناديق الآثار المفقودة ضمن ادوات المطبخ، والموقف من الطلب الليبي التحقيق من موضوع الاحتلال الاميركي للعراق، وأخيرا الموقف من قضية الكويتي ياسر الحبيب. اللحظة الاولى: بعيد صدور تقرير منظمة العفو الدولية 2010، المعنون "نظام جديد والانتهاكات نفسها"، والذي ذكر عمليات الاعتقال غير القانوني والتعذيب، إذ احتجز آلاف الاشخاص بشكل تعسفي من دون تهمة او محاكمة، على الرغم من إصدار محاكم عراقية أو قضاة تحقيق أوامر بالإفراج عنهم، وصدور قانون العفو العام عام 2008 الذي قضى بالإفراج عن المحتجزين الذين لم يوجه إليهم الاتهام عقب ستة أشهر إلى 12 شهرا. وعن تعرض العديد من هؤلاء المعتقلين للتعذيب أو لسوء المعاملة في الفترة الأولية من اعتقالهم أثناء احتجازهم بمعزل عن العالم الخارجي. ولم يتمكن معظم هؤلاء من الاستعانة بتمثيل قانوني، بينما لم يتلق بعضهم أي زيارات من أقاربهم. وفي بعض الحالات، قضت العائلات أشهراً وهي تحاول معرفة المكان الذي احتجز فيه أقرباؤها. وقدر التقرير عدد المعتقلين حالياً لدى السلطات العراقية من دون محاكمة بنحو 30,000، معظمهم محتجز في سجون ومراكز اعتقال تسيطر عليها وزارات العدل والداخلية والدفاع وتعاني من الاكتظاظ الشديد وسوء ظروف الاعتقال. وقد تعالت الأصوات الرسمية رافضة للتقرير ومشككة به! إذ تحدث المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء عن استياء الحكومة من التقرير، واصفا اياه بالمضلل. وعن أن السجون العراقية تخلو من أي سجين سياسي. نافيا في الوقت نفسه احتفاظ الحكومة العراقية بمعتقلين في السجون دون عرضهم على القضاء، أو ممارسة التعذيب ضد السجناء، لكنه أقر بوجود حالات منفردة تمت محاسبة المتورطين فيها. أما وكيل وزير العدل فقد أكد ان المنظمة تتكلم دون اي اساس، وبأن جميع الموقوفين تم اعتقالهم بموجب مذكرات قضائية رسمية نظرا لوجود اتهامات ضدهم. ولم يتعرض احد منهم للتعذيب. فيما وصف المتحدث باسم مجلس القضاء الاعلى التقرير بـ “الملفق” والبعيد عن الحقيقة، وإنه ينطوي على دوافع سياسية. وظهر تقريرآخر للصليب الاحمر الدولي تحدث عن ان عدد المحتجزين في العراق خلال الفترة من كانون الثاني (يناير) إلى آب (أغسطس) 2010 يصل إلى 26700 محتجز (18 الف في مراكز احتجاز تحت سلطة وزارات العدل والدفاع والداخلية والعمل والشئون الاجتماعية العراقية، و أكثر من 2900 محتجز تحت سلطة حكومة إقليم كردستان، وأكثر من 5800 محتجز تحت سلطة القوات الأميركية في العراق). لكن المنهجية الرسمية نفسها تتكرر في التعاطي مع التقرير الثاني، فقد وصف وكيل وزير العدل التقرير بأنه "غير دقيق"، وبأن عدد "المعتقلين" في العراق هو 12 ألف فقط، بينما عدد المحكومين 13 ألف مدان، نافيا وجود أي "تجاوز او انتهاك". لكن مراجعة لوثائق رسمية اخرى تكشف عن أن الوضع يختلف تماما عما يتحدث به الرسميون السابقون! فآخر تقرير صدر عن وزارة حقوق الإنسان العراقية للعام 2008 سجل الانتهاكات الآتية: ـ التأخير في انجاز القضايا والاوراق التحقيقية لفترات طويلة نسبياً بما يضعف شرط حصول الموقوفين على محاكمة عادلة ضمن مدد معقولة. ـ رصد ادعاءات اساءة المعاملة والتعذيب وقد كانت بعض تلك الادعاءات مدعمة بالصور والوثائق التي ترجح تعرض السجناء الى التعذيب واساءة المعاملة والمعاملة غير الانسانية ولكن حالات التعذيب لا يمكن وصفها بالحالات المنهجية. ـ ضعف التحقيقات الإدارية والقضائية لقضايا التعذيب أو اساءة المعاملة وبطئها للحد الذي يمكن مرتكبي التعذيب او إساءة المعاملة ولأغلبهم من الهرب والافلات من العقاب. ـ برزت خلال هذا العام حالات منع في السجون ومراكز الاحتجاز مما يشكل مخالفة صريحة لمبادئ حقوق الانسان ومازالت عقوبة الحجز الانفرادي والحرمان من الزيارات العائلية هي العقوبة السائدة مع الاشارة الى ان اجراءات تلقي الشكاوى من المحتجزين والبت فيها دون المستوى المطلوب في اغلب مرافق الحجز والتوقيف. ـ وجود بعض الحالات التي يثار حولها شك كبير حول احتمال تعرض السجناء فيها الى حجز تعسفي. ـ ما تزال وزارتا الداخلية والدفاع تديران مرافق التوقيف الكبيرة والمهمة مما يشكل مخالفة صريحة لاحكام القانون. ـ حالة الاكتظاظ مازالت منتشرة في العديد من السجون ومرافق التوقيف الاحتياطي، ولم تعالج بشكل حاسم وجذري. ووفقا لاحصائيات وزارة حقوق الانسان عام 2008 فان عدد المشمولين بقانون العفو العام من المودعين في وزارة العدل بلغ 3341، أما عدد المشمولين بالقانون من المودعين في وزارة الداخلية فقد بلغ 5510 (2715 أطلق سراحهم، و2795 لم يطلق سراحهم لأنهم مطلوبون في قضايا أخرى). أما من شملوا بالقانون من المودعين في وزارة الدفاع فقد بلغ 1252. أي أن النسبة الكبرى من "المعتقلين" لم يكونوا مودعين قي وزارة العدل، فالنسب الماضية تبين أن المودعين فيها لا يتجاوزرن نسبة 33.2% من المعتقلين، في حين كانت نسبة المعتقلين في وزارة الداخلية هي 54.5%، ونسبتهم في وزارة الدفاع هي 12.3% من المعتقلين. وكان رقم المعتقلين لدى القوات الاميركية والعراقية، عدا اقليم كردستان، قد وصل في بداية العام 2008 إلى 48.477 معتقلا (24677 لدى القوات العراقية، و23800 لدى القوات الأميركية). تراجع في بداية العام 2009 إلى 41.271 (26.213 لدى القوات العراقية، و15.085 لدى القوات الاميركية). وكما هم واضح فان تطبيق قانون العفو العام لم يؤثر مطلقا على اعداد المعتقلين لدى القوات العراقية، على العكس من ذلك، فقد ارتفع عدد المعتقلين بصورة واضحة! كما إن احصائية مجلس القضاء الأعلى للمشمولين بقانون العفو العام حتى شهر تشرين الاول عام 2009 ، تكشف عن أن النسبة الأقل من المشمولين بالقانون كانوا من المسجونين بأحكام قضائية، وإن النسبة العظمى كانت لموقوفين، أي معتقلين، أو مطلق سراحهم بكفالة، أو لم يلق القبض عليهم اصلا. فمن مجموع 136.272 مشمول بقانون العفو، بلغ عدد المسجونين 8770 فقط، مقابل 16.090 موقوف، و65.606 مكفل، و 45.806 لم يلق القبض عليهم. أما عدد غير المشمولين فقد بلغ 33.788 معتقل. وإذا حسبنا عدد الذين شملوا بقانون العفو حتى نهاية حزيران من عام 2010، وهو 4340 معتقل، فإن عدد غير المشمولين من المعتقلين سيبلغ 29.448 معتقل ما زالوا قيد الاحتجاز حتى اللحظة، على افتراض أنه لم يكن هناك اية حملة اعتقالات طيلة هذه المدة! ومن دون الحديث عن أرقام المعتقلين الذين تم تسلهم من القوات الاميركية مؤخرا! ما الذي تعنيه هذه الأرقام؟ وبماذا نفسر عدم تقديم الدولة العراقية أية أرقام عن اعداد المعتقلين في جميع مراكز الاعتقال (وزارة الداخلية، ووزارة الدفاع، وقيادة قوات بغداد، وقوات مكافحة الارهاب، وغيرها)، واكتفت بالحديث عن ارقام المعتقلين في وزارة العدل حصرا! على الأقل لتفنيد الأرقام التي تعلنها المنظمات الدولية. ببساطة القائمون على الدولة العراقية المفترضة ما زالوا يتعاملون مع اكثر القضايا حساسية، وهي حقوق الإنسان، من زاوية سياسية بحتة، مقدمتها الاساسية هي موقع المسؤول الرسمي من بنية الصراع. وإن الحقيقة لا ينظر اليها إلا في ضوء التحيزات الخاصة بهؤلاء المسؤولين. وفي الاسبوع القادم سنقف عند اللحظات الأخرى. |