قارورة الإسلام والدولة وحكم القانون |
. المقاله تحت باب في السياسة لعلها المرة الأولى التي يعترف فيها مسؤول في الدولة العراقية بأن النخبة السياسية العراقية قد اتفقت على انتهاك الدستور! ففي معرض تسويغ الدكتور فؤاد معصوم، رئيس السن لمجلس النواب، لواقعة تأجيل اجتماع المجلس لمدة أسبوعين آخرين عن موعد الثلاثين يوما التي حددها الدستور لانتخاب رئيس للجمهورية، قال بأنها ليست بأول قارورة كسرت في الإسلام. ولكن هذه الكناية التي تستخدم أحيانا لتوصيف الانتهاكات، الصريحة أو الضمنية، لبعض أحكام الإسلام، تعكس وعي النخبة السياسية العراقية لمبدأ حكم القانون The Role of Low الذي يعد مبدأ أساسيا للدولة الحديثة وللديمقراطية. ولعل مفردة القارورة نفسها تقدم توصيفا فريدا لحقيقة القانون في العراق الحديث، ملكيا وجمهوريا، دكتاتوريا وديمقراطيا مفترضا، وهو انه هش وقابل للكسر أولا، وبأنه لا إصلاح له إن انكسر، تماما كما القارورة! ومراجعة سريعة لتاريخ كسر قوارير القانون على مدى ما يقرب من تسعين سنة من عمر هذه الدولة يوضح بجلاء استمراء هذا الكسر. لقد أشرنا في مرات عديدة، إلى حقيقة أساسية، وهي أن الدستور والقانون ينتهكان بشكل منهجي ويومي في العراق. وأنه ليس ثمة جهة تراقب أو تكشف أو تضغط باتجاه احترام مبدأ حكم القانون. وقلنا أن السلطتان التشريعية والتنفيذية كثيرا ما تواطأت، بقصد أو بضعف وعي، على ذلك. وبأن بنية المجتمع المدني العراقي وضعفه وتفككه قد أسهم في استفحال هذه الظاهرة، حيث اثبت عجزه التام عن مراقبة وكشف هذه الانتهاكات من جهة، أو الاحتجاج عليها ومقاومتها من جهة أخرى. لقد حدد الدستور العراقي ضامنا وحيدا لاحترام سيادته، هو رئيس الجمهورية الذي "بسهر على ضمان الالتزام بالدستور" (المادة 67). ولكننا لم نجد هذا "السهر" حاضرا في عشرات المواقف التي تمت فيها انتهاكات صريحة لهذا الدستور، فلم يتقدم السيد رئيس الجمهورية مثلا بطلب إلى المحاكمة الاتحادية حول مدى دستورية تمديد جلسة مجلس النواب المفتوحة كما فعل بشأن صلاحيات مجلس الرئاسة! ببساطة لأن ثمة تداخل بين هذا المنصب وبين الجهة السياسية التي يمثلها شخص الرئيس التي كانت طرفا في الاتفاق على تأجيل الجلسة أصلا! ومرة أخرى لا يمكن الدفع بان "طبيعة المرحلة" تحتم مثل هذه الانتهاكات القانونية، وبأن "النظام التوافقي" يسمح بهكذا تجاوزات ما دامت تمنع حدوث أزمات سياسية، أو بأننا ما زلنا على "طريق الديمقراطية" الطويل ولم نصل بعد، أو بأن القوارير يمكن أن تكسر ثم يعاد إصلاحها! لأننا سنكون مرة أخرى بإزاء إعادة إنتاج للدعاوى المماثلة التي حكمت العراق الحديث والتي كانت سببا رئيسا في سقوطه المأساوي يوم 9 نيسان 2003. من القوارير التي كسرت، وما زالت تكسر، هي تلك الخاصة بالسلطة القضائية، وقد أشرنا في أكثر من مقال سابق إلى بعض هذه القوارير، ولكني سأتوقف هنا عند حالة خاصة لم يلتفت إليها. ففي 22/5/2010 استأنفت المحكمة الجنائية العراقية العليا جلساتها لمحاكمة المتهمين في قضية تصفية الأحزاب الدينية، وقد سأل القاضي المتهم طارق عزيز بطريقة تهكمية عن دوره في هذه القضية، فأجاب الأخير بأنه يفتخر بما وصل إليه من مناصب سياسية وبأنه لا علاقة له بما كانت تقوم به الأجهزة الأمنية، رد القاضي قائلا: "هل هذه سمعتك التي تفتخر بها بمجلس قيادة الثورة التي كانت سلطة تشريعية شكلية وتعمل بموجب تخويل، هذا الذي تفتخر به؟ كل الأجوبة التي أجبت عنها تحمل في طياتها، والمحكمة تعرف ذلك جيدا وتعرف كل شيء". إن إجابة القاضي تخالف مبدأ أساسيا استقر عليه القضاء، ألا وهو أن القاضي لا يحكم بعلمه الشخصي. وهنا نحن بصدد مخالفة صريحة لأحكام المادة 212 من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 التي تنص على أنه "لا يجوز للمحكمة أن تستند في حكمها إلى دليل لم يطرح للمناقشة أو لم يشر إليه في الجلسة ولا إلى ورقة قدمها احد الخصوم دون أن يمكن باقي الخصوم من الاطلاع عليها. وليس للقاضي أن يحكم في الدعوى بناء على علمه الشخصي". الأمر الأخطر هنا أن القاضي نفسه لا يستند إلى "علمه الشخصية" فحسب، وإنما هو يقوم دور الإدعاء العام! وهو هنا يخالف الدستور العراقي الذي نص على أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة" (المادة 19/ خامسا). بل وقانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 نفسه الذي نص في المادة 19/ثانيا على أن "المتهم بريء حتى تثبت أدانته أمام المحكمة وفقا للقانون". فالقاضي يقرر هنا "أحكاما شخصية بالإدانة" حتى قبل انتهاء المحاكمة وإصدار الحكم. و هذا القاضي نفسه، سبق له أن ترشح لانتخابات مجلس النواب العراقي 2010 ضمن قائمة ائتلاف دولة القانون، على الرغم من أن هذا الترشيح يخالف صراحة نص المادة 98/ثانيا من الدستور، التي نصت على أنه يحظر على القاضي (الانتماء إلى أي حزب سياسي أو منظمة سياسية، أو العمل في أي نشاط سياسي). والترشيح لعضوية مجلس النواب هو عمل سياسي بامتياز، ولا نعرف ما هي الأسس التي استندت إليها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في قبول ترشيحه على الرغم من استمراره في عمله قاضيا في المحكمة الجنائية العليا؟ كما لا نعرف لماذا لم تتخذ رئاسة المحكمة الجنائية نفسها أي إجراء بهذا الصدد؟ كما لا نعرف لماذا لم تتخذ السلطة القضائية (مجلس القضاء الأعلى ) أي موقف بهذا الشأن؟ واستكمالا لهذا كله وجدنا السيد وكيل وزارة العدل لشؤون السجون العراقية، بوشو إبراهيم دزئي يقول يوم 15/7/2010 لصحيفة "الشرق الأوسط"، بعد تسلم وزارة العدل لمعتقلي سجن كروبر الأمريكي الذي كان يضم بعض المحكومين بالإعدام من قبل المحكمة الجنائية العليا، بأنه "سيتم تنفيذ عقوبة الإعدام في حق كل محكوم بهذه العقوبة بقرار من المحكمة وقد اكتسب الحكم الدرجة القطعية"، وبأن "أحكام الإعدام الصادرة عن المحكمة الجنائية الخاصة العراقية العليا لا تحتاج إلى مصادقة رئاسة الجمهورية ولا يشملها العفو، وهذا حسبما يؤكده قانون المحكمة، ولا يمكن تغييره إلا عن طريق مجلس النواب العراقي". ويبدو واضحا أن السيد الوكيل ينتهك بذلك قرار المحكمة الاتحادية المرقم 21/اتحادية 2007 بشأن تفسير نص الفقرة ثامنا من المادة 72 من دستور جمهورية العراق، فقد نص القرار على ضرورة مصادقة رئيس الجمهورية/مجلس الرئاسة على هذه الأحكام لأن "عبارة (المحاكم المختصة) الواردة في الفقرة ثامنا من المادة 72 من الدستور وردت مطلقة، والمطلق يجري على إطلاقه، فإنها تشمل المحكمة الجنائية العراقية العليا"، وهي صاحبة السلطة الحصرية في تفسير الدستور. بمعنى آخر يبدو أننا لا نملك أكثر من جمع الزجاج المكسور من قوارير القانون والدولة معا. |