.
المقاله تحت باب في السياسة في
27/06/2010 06:00 AM GMT
في السنة الماضية، وفي الذكرى الثلاثين للثورة الإسلامية في إيران، أصدر السوسيولوجي الفرنسي، الإيراني الأصل، فرهاد خسروخافار كتاباً حمل عنوان (أن تكون في عمر العشرين في بلاد آيات الله)، درس فيه جيلَ الشباب الإيراني من المولودين والمولودات سنة 1989، أي بعد عشر سنوات من الثورة. الكتاب، الذي اعتمد على حوارات وتحقيقات سوسيولوجية قام بها خسروخافار على عينة واسعة من أبناء هذا الجيل في عاصمة إيران الدينية المقدّسة، قم، وصل إلى نتيجة مثيرة، وهي أن هذا الجيل لا يناقش ـ بالضرورة ـ القضايا السياسية الكبرى، من قبيل شكل النظام السياسي، والثيوقراطية، وطبيعة العلاقة بين مؤسسات السلطة، بل هو يتجه إلى ما يسمِّيه "طرق حياة علمانية خاصة داخل هذا النظام الثيوقراطي". هذه العلمنة تبدأ من التفصيلات الصغيرة المرتبطة بقيم الحداثة، من قبيل الموقف من الموسيقى، أو الاختلاط بين الجنسين، ويمكن أن تمتد إلى قضايا أوسع، من قبيل حرية التعبير، بل يمكن أن تنخرط في انتفاضة واسعة ضد تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية، على غرار ما حدث في حزيران 2009. يسمّي خسروخافار (علمنةَ التفاصيل) هذه بـ (العلمانية القطّاعية)، لأنها تنشط في قطاعات محدّدة، وهو يرى أنها (علمانية متناقضة)، لأنها تحافظ على التوتر بين علمنة قطاعات معينة والقبول بالثيوقراطية في قطاعات أخرى. غير أن خسروخافار، الذي التقيته في باريس في الصيف الماضي، على تخوم انتفاضة حزيران، لم يُجب على سؤالي ما إذا كانت هذه (العلمانية القطّاعية) ستحركها ديناميكية توسّعها وتمدّها إلى القضايا السياسية الكبرى، وأنها قد تُفضي إلى صناعة مادة انقلاب راديكالي على النظام الثيوقراطي. لم يُجب خسروخافار على مثل هذا الافتراض، ربما لأنه لا يرى الباحثَ العلمي (فتّاح فال)، ولكن، بالتأكيد، لأنه لم يُرد لبحثه هذا أن يتحول إلى دعوة سياسية. غير أن هذه الفكرة المثيرة، وإن كانت استقراء لسلوك جيل الشباب في إيران، وليست ستراتيجيات عمل مقترحة، فإنها تقدّم لنا واحدة من الطرق الأكثر عملية التي يمكن أن تسير فيها الدمقرطةُ في العراق، وإنها يمكن أن تمثّل تكتيكاً مهماً لاستعادة العلمانية المتعثر. لقد كانت الإنتلجنسيا العلمانية واحدة من المصادر الأساسية لحلم الديمقراطية في العراق، . . كانت جزءاً من الحالمين بأن يفتح سقوطُ الاستبداد في نيسان 2003 البابَ أمام تغيير ديمقراطي منهجي في البلاد، على الرغم من السياق المعقد الذي حصل فيه، لكونه جاء بقوة احتلال أجنبية، من دون إجماع وطني على مثل هذه الآلية في التغيير، بل من دون توافق داخلي على الشكل المستقبلي للسلطة وكيفية بنائها، ووسط محيط غير مرحِّب وخائف مما جرى في العراق. ومع ذلك، لم تتردد الإنتلجنسيا العلمانية في تقديم دعوة علمانية واضحة، في لجّة الجدل والصراع على الكيفية التي سيجري بها بناء مؤسسات الدولة. كانت هذه الإنتلجنسيا تؤمن بأن العلمانية هي ضرورة ولازمة للديمقراطية، وتخاف ـ في الوقت نفسه ـ من أن تقود الخلفيات الإيديولوجية لجزء كبير من الطبقة السياسية العراقية إلى استلهام نماذج تعضِّي الدين داخل الدولة، تبني المواطنةَ العراقية على أسس دينية، وتجعل فهمَها للحريات مُلهِماً للقوانين، ومسيطِرا فعلياً على المجال العام. غير أن حلم الديمقراطية أنتج، في النهاية، دستوراً فيه درجة غير قليلة من الثيوقراطية، وانتهى إلى أن يقبض الإسلاميون الأصوليون، بقسوة، على السلطة، والأكثر مرارة أنه انتهى إلى صراع أهلي طاحن، خاضته باسم الهويات الطائفية هذه التنظيماتُ الأصولية، التي تركت ظلالَها الثقيلة على البلاد. هنا، فقدت الإنتلجنسيا العلمانية بوصلتَها، وأصبحت العلمنةُ تفصيلاً صغيراً بإزاء دولة منهارة وفوضى عارمة. ومن ثم، أصبحت أولويتُنا الأولى ورهانُنا الأساسي هي (الدولة)، . . دولة قوية، تعبِّر عن إجماع وطني، وتشكِّل ناظماً اجتماعياً، وترعى وتحمي البناءَ المؤسسي. لقد كتبتُ، في ذروة الشعور بالحاجة إلى الدولة وبانهيارها، أن النموذج النيوليبرالي، الذي حاول الأمريكان تطبيقه في العراق ما بعد 2003، يرى أن (الدولة) هي أصل الشرور والعلل وأنها عنصر رئيس في بناء الأنظمة الاستبدادية، غير أن هذا النموذج قاد إلى التفريط بالدولة، التي كانت ـ تأريخياً ـ أداةَ التحديث الأساسية في المنطقة. قلتُ، آنئذ: "كان الأمريكان في العراق يتعاملون باستخفاف ولامبالاة شديدين مع انهيار مؤسسات الدولة وتفكيكها، لأنه كان ثمة إيمان بأن الدولة غير مأسوف عليها، وأن العراق الجديد يجب أن يتأسس على عقيدة جديدة. غير أن ما حدث في العراق منذ ذلك الوقت يقدِّم تحديا جادا لهذا التصوّر، إذ لم يمنع زوالُ الاستبداد من انتعاش الأصولية. والأكثر، أن الديمقراطية لم تبدُ مسألة ذات أولوية للعراقيين. وبالتالي، كانت سنواتُ التفريط بالدولة في العراق عملا بالاتجاه الخاطئ". إذن، تجربةُ ما بعد 2003 جعلت خطابَنا يدور على مقولتين، مختلفتين ومتعاقبتين: العلمانية، ثم الدولة. هذه الكرونولوجيا، التي أستمدها من سيرتي الشخصية، تكشف لي أنني لم أكن أدرك أنه كان علينا، ربما، أن نرتِّب هذا التعاقبَ بشكل مختلف: الدولة، ثم العلمانية. وفي كل الأحوال، لا يزال المشروعان متعثرين، فبعد الفورة التفاؤلية التي شهدناها في أواسط 2008، بعد الضربة القوية التي تعرض لها تنظيم (القاعدة)، ونشوء مجالس (الصحوة)، ومعارك (صولة الفرسان)، والقضاء على الميليشيات، وبناء مشروع سياسي لاستعادة دولة قوية، بدأت ـ في النصف الثاني من سنة 2009 ـ انتكاسة، أمنية وسياسية، عميقة، إذ لم تستطع الطبقةُ السياسية أن تتقدم خطوة في مشروع (الدولة)، وظلت تناقشها بمنطق الخنادق الطائفية، في حين أن الشرط الأول للدولة القوية هو أنها تعبِّر عن إجماع وطني. وهكذا، ظلت الدولةُ محلَّ صراع، وظلت العلمانيةُ متوارية خلف الهويات الطائفية والإيديولوجيا الإسلامية، التي أصبحت أداةَ هذا الصراع. سأناقش، في مقال لاحق، كيف يمكننا تصحيح مسار الدمقرطة المتعثر، من قاعدة الهرم باتجاه قمته، وموقع (الاحتجاج المدني) و(علمنة التفاصيل) في مثل هذا المسار.
|