.
المقاله تحت باب منتخبات في
06/05/2010 06:00 AM GMT
"إن فكرة نموذج حضاري وحيد غير محتملة في اي مكان تقريبا .. " كاترين كليمون
كاتبة فرنسية معاصرة من طراز عجيب.. هادئة كالثلج، ولكن تفكيرها متوقد كالنار.. ترسم ابتسامة نحو الأشياء والشخوص وهى تترجم عما فى دواخلها من معان خصبة.. تأخذ فى الموضوعات ما تعتقد أنه يستهوى الناس الذين يعايشون تفكيرها، ولا تنتبه لمن هم خارج البساتين.. إنها من نفس جيلنا الذى تعب على نفسه كثيراً فى النصف الثانى من القرن العشرين ونما وشب فى مجموعة هائلة من الأفكار والنظريات والفلسفات والإيديولوجيات المتناقضة والمتلاقية وشهد مختلف البدائل السياسية والحضارية والثقافية فى حياته التى تعج بالمنغصات التى تقف على رأسها انتهاكات حقوق الإنسان من هذا الطرف أو ذاك! وتقف كاثرين كليمون فى مقدمة تلك النخبة الرائعة من المثقفين الشباب الذين يتطلعون إلى المستقبل بحساسية مفرطة عالية وهم يشيدون بما أنتجته أجيال النخب السالفة من فلسفات وقيم وأفكار لم يستفد الإنسان بعد منها أبداً.. خصوصاً عندما تركز كاثرين كليمون- كما وجدتها- على الرواد الفلاسفة والكتاب الفرنسيين الذين تعتقد أنهم قدموا للعالم المعاصر ما لم يقدمه غيرهم من فلسفات وأفكار فى القرن العشرين.. أمثال: جون بول سارتر وزوجته المتمردة سيمون دو بوفوار على رأس الوجوديين، ثم شتراوس ولاكان ورولان بارت والتوسير.. على رأس البنيويين ومن ثم ميشال فوكو وجان جينيه وجان كليفتيتش على رأس الفلاسفة الجدد.. أرجع لأقول: إن كاثرين كليمون موسوعة متنقلة وسفينة كبرى تمخر عباب بحر فلسفات فرنسا المعاصرة التى أعتقد أنها أول من أتقن فن كتابة تحليل تاريخى متميز عن حقبة مثقفة عالية المستوى فى العصر الحديث. كيف عرفتها؟ كنت أنتبه إلى امرأة هادئة جداً تجلس بعيداً فى مؤتمر أكاديمى حول مناهج التاريخ الثقافى والذى انعقد فى جامعة مونبلييه جنوبى فرنسا شهر سبتمبر لعام 1982 وعلى الطرف الآخر من المبنى كانت تجرى أعمال مؤتمر فى التاريخ العسكرى الذى كنت قد دعيت إليه.. وكنت أقتنص الفرصة لأشارك بصفة مراقب فى المؤتمر الأول الذى استهوانى أكثر من الأول.. وجدتها شابة فى ريعان العمر وهى بنظارتها التى تنبعث من ورائها نظرات حادة ولا تعبأ بالآخرين، ومنشغلة عن كل من هم حولها، فهى تكتب فى أوراقها وتطرق بتفكيرها طويلاً، ولكنها تبتسم قليلاً من دون وعى لمن كانت قد صادفته.. وكانت تلبس ثوباً عادياً محتشماً وإلى جانبها حقيبة جلدية سوداء اللون تنسق فيها أوراقها.. وجدتها هادئة ولكنها متوترة بعض الأحيان.. واستمعت إليها عصر ذلك اليوم إذ تحدثنا هى وأنا حديث فلسفة معمقة جداً فى تصنيف عناصر الثقافة الفرنسية المعاصرة التى فصلتها عن كل مشروعات وأفكار ما كان قد شاع فى العالم المعاصر وخصوصاً فى أمريكا والولايات المتحدة بالذات.. لم يحق لنا أن نسأل فى تلك الجلسة التى احتدم النقاش فيها، بحكم حضورنا والبعض الآخر بصفة مراقب، ولكننى احتفظت ببعض أسئلتى حتى المساء.. التقيت مع كاثرين كليمون وقد انتبهت إلى متابعتى لها، فراحت توسع من ابتسامتها لى وهى تعلق تعليقات جارحة على أولئك البعض ممن لا يريدون أن يستمعوا إلى الشباب من أدباء روائيين مخياليين يؤرخون الفلسفة- كما أسمتهم- كونهم من الأكاديميين المحنطين فى أقفاص مشبوهة!! وكان أن تعارفنا معرفة عابرة، وعلمت وأنا قريب منها، أنها ليست كما تبدو من بعيد فى صدر شبابها، بل تضفى على نفسها مسحة من الوقار المزيف! إن تلك المناسبة وبالذات مع فرصة حديثى مع هذه المرأة الوقورة والمهذبة والمثقفة عالية المستوى، قد فتحت لى حقاً الباب على مصراعيه لمعرفة المزيد عن دور فرنسا فى إثراء الفلسفة المعاصرة والتى فتحت لى المجال- أيضاً- أن أستفيد من تجاربها فى السنوات اللاحقة من حياتى وخصوصاً فى الثمانينيات من القرن العشرين، وكانت كاثرين قد أعطتنى «كارت» لها، ولكنه ضاع منى فى طيات جملة أوراق.. ولكن كتابها «بغى الشيطان» الذى أصدرته فى التسعينيات من القرن العشرين هو الذى أطلق شهرتها فى الآفاق كروائية متميزة فى أرشفة التاريخ الثقافى وقدرتها العجيبة فى التوغل لما وراء النصوص، فضلاً عن اختراقها الأنشطة لترى عن كثب ما الذى يثوى من ورائها من أسباب دينية أو غيرها من الأسباب! أصل الرواية: الفكر لا خوف عليه! اطلعت مصادفة على واحد من أجمل ما كتب من نقد على روايتها، وسعيت لاقتناء الرواية التى لم أستطع أن أكمل قراءتها ليس بسبب انعدام الوقت أو ضيقه، بل لأن الأسلوب كان صعبا ومتعبا إلى درجة الاكفهرار! تذكرت كاثرين كليمون قبل عشرين سنة وكيف عاب عليها المؤتمرون من بعض الأساتذة الجامعيين.. ووجدت أنها قد استفادت استفادة كبرى من خزينها الثقافى الذى امتلكته منذ سنوات طوال! ووجدتها تختلف عما كانت عليه فى بعض طروحاتها.. لقد أتاحت لنا حقا مشروعا فى رواية جعلت شخوصها جملة من أفكار فلسفية وكأنها من منتجات فرنسا القرن الثامن عشر، ولكنها تعالج التفكير المعاصر فى النصف الثانى من القرن العشرين. إنه تاريخ للمثقفين الفرنسيين بين 1945-1989 بكل ما حفلت به هذه المرحلة من المطاحنات والتلاقيات والإعجابات والمنكرات والتظاهرات والتناغمات.. ناهيكم عن الطوارئ الفكرية. والرواية عند كاثرين كليمون هى الحياة نفسها باعتبارها تسجيل أشكال ما ورائية الحياة بكل تعقيداتها اليوم. وهى بهذا التفكير لا تجرؤ على أن تغدو فليسوفة لأن الفلسفة معناها البحث عن الحقيقة ولكنها تبحث بنشاطها الثقافى عما وراء الحياة.. وإننى أحتفظ بقول لها عندما كانت تتكلم عن المثقفين الفرنسيين بأن مصطلح مثقف هو : مصطلح يشوبه الغموض، ولا يمكن إثباته إلا بصعوبة بالغة! أما العقل، فلقد خالفت كاثرين من عده مجرد بغى شيطان! وعليه ، فإن الفكر فى نظرة كاثرين لا خوف عليه لأن متغيراته بطيئة فهو لا يهدد بسهولة كالبنى الاقتصادية والسياسية.. ولا يمكن تهديده أو حتى تهديمه كما تتهدم الدول والإيديولوجيات والجيوش. تصنيفات المثقفين والتقسيمات التاريخية إنني أتفق مع كاثرين كليمون فى أن نظاما فلسفيا لا يمكن أن يحيا من دون اللا عقلانى، ولا يمكننا أن نعتبر أولئك الكتاب من البنيويين ، فلاسفة باستثناء ميشال فوكو الذى جاءنا بفلسفة الأنساق، وكأننى أجد كاثرين تقول إن البنيويين كلهم أصحاب أفكار أفقية وإن صاحب الأنساق هو العمودى الوحيد بينهم! لقد ساهم كل من فوكو وشتراوس ولاكان بإبعاد التفاهة والابتذال والأشياء العادية من التفكير وأنهم خرجوا من الحدود الخاصة إلى حيث الانتشار البعيد للفكر والتفكير وليس بالفلسفة والتفلسف، ذلك لأن جزءا من الحقيقة قد سيطر الإنسان عليه فانتهت بعض مهمة الفلسفة ليتجاوزها الإنسان إلى الفكر.. وربما أختلف هنا مع كاثرين لأننا- نحن المسلمين- نقرأ منذ مئات السنين ، وستقرأها من بعدنا الأجيال تلو الأجيال فى النص القرآنى : « وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» .. وأختلف مع كاثرين أيضا فى تقسيماتها لأجيال الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين عندما اعتبرتهم على مدى 44 سنة ثلاثة أجيال فقط: الوجوديون والبنيويون والحداثويون، ولا ندرى لماذا بدأت بالسنة ,1945 ولماذا انتهت بالسنة 1989؟ وهل بدأت الحداثة عند الفلاسفة الجدد فيما بعد مايو 1968؟ ربما كان التصنيف صائبا على ضوء المعطيات الثقافية والسياسية فى المكان والزمان، أى فى فرنسا بالذات والزمان المعاصر، ولكن التصنيف سيكون خاطئا جدا فى ظل المعطيات التاريخية التى يفرزها لنا العصر الحديث بكل ظواهره الكبرى بدءا بالاستكشافات الجغرافية فى القرن الخامس عشر، وعصر النهضة الأوروبية والإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر، والظاهرة الماركنتالية فى القرن السابع عشر ثم عصر التنوير والاستنارة فى القرن الثامن عشر، ثم الثورة الليبرالية والصناعية فى القرن التاسع عشر ثم الثورة التكنولوجية وصراع الإيديولوجيات فى القرن العشرين. وأن “مصطلح “ جيل generation لا يستخدم كما استخدمته كاثرين والعديد من زملائها الأدباء والصحفيين، بل إن له معنى محددًا يقدر عمره بثلاثين سنة وليس بعقد واحد من السنين! نتاج الحداثة فى الفلسفة والتفكير والثقافة إن كاثرين تعتبر نفسها ممثلة جيل جديد تبلور مع منتجات ثورة الطلبة فى فرنسا العام ,1968 وإن كان السالفون لم يعترفوا بالحداثويين فإن الحداثويين يعترفون بكل من سبقهم من وجوديين وبنيويين، بل إنها تعتقد اعتقادا جازما أن البنيوية لم تزل موجودة حتى اليوم مع شبح لمعانها وتوهجها الذى سيطر على المرحلة السابقة! وترى كاثرين أن المعرفة بأسسها وتحويلها هى التى تترسخ يوما بعد آخر فى الواقع مستقبلا بدلاً من أن تبقى سجينة رفوف المكتبات.. وأن الفلاسفة الجدد قد تخلصوا من النعرات الاستعمارية والدينية ومن النزعات القومية والشوفينية، فمعينها اختلطت فيه شتى الآليات فى المعانى والأشياء وحتى الموسيقى والتصوف استفاد منه الفلاسفة ناهيكم عن عودة التيمات الأخلاقية التى لا يمتلكها السياسيون. إن عودة الديني مثلا هي مجرد انعكاس مضاد لكل ما أفرزته الحياة الحديثة من التشيؤات وخصوصا الأسلحة التى مزقت الأستار القديمة وكذلك العنف وكذلك الجنس وما هب من الأدران.. ولكن يا للأسف بدلاً من أن يكون النظام أخلاقيا فى ممارساته انقلب إلى أن يكون أصوليا فى تحدياته، وغدت نزعاته فى أسوأ الأحوال.. نتيجة للتفكير المضاد الذى خلقته التحديات المريرة التى عاشتها الشعوب المقهورة لتبدأ حياة صعبة ستعيشها أجيالنا المقبلة. وأخيرا، إننى أكتب عن كاثرين للمرة الثانية بعد أن كتبت عنها قبل سنوات خلت.. ولقد أثارتنى اليوم بكتابها الجديد الذى ضم ذكرياتها، وما سجلته من حواراتنا معا.. شكرا جزيلا لك كاترين على كل تسجيلاتك الحية .. واشيد بذاكرتك الحادة التي لم تزل مفعمة بكل تلك الايام الرائعة .. أما عربيا ، فأنني أتمنى من صميم القلب أن تترجم أعمالها المتميزة إلى العربية، لإغناء الثقافة العربية المعاصرة.
www.sayyaraljamil.com
|