.
المقاله تحت باب في السياسة في
14/04/2010 06:00 AM GMT
يبدو أن ثمة فكرة (لم تنضج وتصبح قراراً بعد) تدور بين الكتلتين الشيعيتين الرئيستين في العراق، (ائتلاف دولة القانون) الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي، و(الائتلاف الوطني العراقي)، الذي يضم التيار الصدري و(المجلس الأعلى الإسلامي) وحزب الفضيلة وتيار الإصلاح الوطني، فكرة بالتحالف بعد الانتخابات النيابية التي أُجريت يوم السابع من آذار الجاري، وذلك لتشكيل حكومة، يسيطر عليها الشيعة من جديد. وعلى نحو عام، تنبني داخل النخبة الشيعية الحاكمة في العراق رؤية بضرورة تعزيز سيطرتها، سواء على المؤسسة الأمنية والعسكرية، أو القرار السياسي، أو المؤسسات التنفيذية للدولة، أو التخطيط الاقتصادي، بمعنى أنها تقود مشروعاً لاحتكار وحصر أكثر للصلاحيات، وذلك انطلاقاً من تفسير تتبناه بأن الخلل الذي شاب عملَ الدولة في المرحلة السابقة إنما يرجع إلى توزيع السلطات والصلاحيات، وفق الصيغة التي تُعرَف باسم (الديمقراطية التوافقية). ويبدو أن النخبة الشيعية ستعمل، بعد الانتخابات، على بناء ائتلاف حاكم من عدد محدود من الكتل السياسية، التي لا تمثل ـ بالضرورة ـ سائر مكونات المجتمع العراقي. وهو ما يعني العودة إلى نظام أغلبي، والخلاص من تقاليد النظام التوافقي، الذي حاول الأمريكان إرساءه في العراق ما بعد 2003، بوصفه النظام الأكثر صلاحية لمجتمع تعددي، على غرار المجتمع العراقي. لقد كان واضحاً من تصريحات المالكي أن النية تتجه إلى تشكيل ما سمّاه (حكومة أغلبية). وهو التصور نفسه الذي يتبناه (الائتلاف الوطني العراقي). جاء في برنامج العمل الانتخابي للائتلاف الوطني العراقي: "إن الديمقراطية الحقّة هي ديمقراطية الأغلبية السياسية التي تفرزها صناديقُ الاقتراع، وليست الديمقراطية التوافقية التي أنتجت المحاصصة". ويفصِّل هادي العامري، رئيس منظمة بدر والقيادي في الائتلاف، هذا التصوّرَ فيقول إن الائتلاف يعارض تشكيل حكومة وحدة وطنية و"ان أفضل ما يخدم الديمقراطية في العراق هو حكومة تضم فصائل سياسية لها نفس التوجه الفكري في مواجهة معارضة قوية قادرة على تقييد سلطاتها". وبصراحة أكثر، يقول عبد الهادي الحساني، عضو الائتلاف: "إذا ما أتى مكون بأغلبية في الانتخابات فستشكل هذه الكتلة أو المكون الحكومةَ، ولا يمكن تشكيل حكومة توافق وطني في المستقبل لان حكومة التوافق ستكون ضعيفة". وتفصيلاً، يتمثل الاختلافُ بين تصوري (الائتلاف الوطني العراقي) و(ائتلاف دولة القانون) في أن الأول لا يمانع إذا ما تشكلت الحكومة من عدد من المكونات الاجتماعية وتحولت مكونات أخرى إلى خانة المعارضة، في حين أن رؤية ائتلاف المالكي تقوم على بناء نموذج أغلبي مع ضمان تمثيل سائر المكونات. جاء في البرنامج الانتخابي لـ (ائتلاف دولة القانون): "لا بد من تحقيق مبدأ إشراك ممثّلين عن المكونات ولكن ليس على أساس المحاصصة الطائفية أو النتائج الانتخابية". ويبدو لي أن الأمور ستقود إلى بناء حكومة على وفق هذه الرؤية الأخيرة: تحالف حاكم يضم الائتلافين الشيعيين والتحالف الكردستاني، مع تمثيل للسنّة من خلال الشخصيات والقوى القريبة من الائتلافين، أي من دون القوى السنّية الرئيسة التي ستفرزها الانتخابات. وعلى الرغم من أن هذا التحالف هو تحالف تكتيكي لتشكيل الحكومة، فإنه ـ في تصوّري ـ يمثل خطوة أخرى في النزوع الذي تتخذه النخبةُ السياسية الشيعية في معارضة النظام التوافقي واحتكار أكثر للسلطة. وإذا كنتُ قد افترضتُ، في بحث نشرته سنة 2006 وحمل عنوان (ثراء التعددية وشقاؤها)، أن دستور 2005، الذي كان للنخبة الشيعية الدور الأكبر في صياغته، قد قضى على عناصر أساسية في النظام التوافقي الذي تضمنه (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية TAL)، الذي أقرّته (سلطةُ الائتلاف الموقتة CPA) في آذار 2004، فإن ما يجري اليوم هو خطوة أبعد، . . خطوة تحاول أن تتم مشروع استبدال التقاليد التوافقية، التي طبعت النظام السياسي لعراق ما بعد صدّام، والعودة إلى نظام أغلبي. وبالأحرى، إن ما تحاوله النخبةُ الشيعية هو إعادة تعريف العلاقة بين الأركان، أو المكوّنات، أو النخب السياسية التي كوّنها نظام توافقي يقوم على أساس الهويات الإثنية أو الدينية أو الطائفية، وجعلها علاقة تقوم على قوانين الديمقراطية التنافسية، التي يمكن أن تكون صالحة لنموذج قومي كلاسيكي. وبكلمة مختصرة: ما تحاوله النخبةُ الشيعية هو تفريغ النظام التوافقي من محتواه، وبناء توافقية بروح ديمقراطية تنافسية. يحدث هذا في ظل افتراض (غير مؤكّد) تتبناه النخبةُ الشيعية، وهو أن الكتل السياسية الحالية لا تعبّر عن هويات، على نحو ما كان عليه الحال سنة 2005، بل هي كيانات (وطنية). وبالتالي، لا تعبِّر الأغلبياتُ والأقليات الناتجة عن الانتخابات عن وضعية ديموغرافية، بقدر ما هي أغلبيات وأقليات سياسية، نسبية وغير ثابتة، الأمر الذي يجعل تداول السلطة بينها أمراً ممكنا وحيوياً. ولكن، لو اكتشفنا أن الكيانات الحالية هي كيانات معبِّرة عن هويات طائفية وإثنية، فإن هذا النظام سيضعنا أمام المفصل الآتي: حاكم أبدي، ومعارض أبدي، من دون شراكة في السلطة. وهذه هي العتبة نفسها التي قادت العراقَ إلى نزاع أهلي عنيف، إذ لم يكن بمقدور الآليات الديمقراطية أن تعبِّر عن مصالح سائر الجماعات في ممارسة السلطة وحيازتها والوصول إليها. ومن ثم، اختُزل تداول السلطة بكونه تداولاً داخل نخبة جماعة محدّدة. وهكذا، سيكون أمام النخبة الشيعية، والنخبة السياسية العراقية عموماً، رهانان مفهوميان: الأول هو هل النظام التوافقي هو، فعلاً، النظام الأكثر صلاحية للعراق إذا فهمناه وتعاملنا معه على أنه بلد تعددي، أم ينبغي له أن يختار نموذجاً قومياً بفهم أنه يمثل أمة واحدة، وأن الانقسامات والصراعات والتعبيرات الهووية الحالية هي عَرَضية، وخارجية، وغير أصيلة؟ ومن ثم، هل التوافقية هي آلية للاستقرار أم طريقة للتقسيم؟ والرهان الآخر هو هل المشكلات التي اعترضت النظام السياسي لعراق ما بعد صدّام تخص جوهر النظام التوافقي أم أنها تتعلق بشكل وصيغة التوافقية التي اختيرت؟ وهل تكون معالجةُ خلل التوافقية بالعودة إلى نظام أغلبي، أم بتطوير وإنضاج النموذج التوافقي.
|