.
المقاله تحت باب في السياسة في
16/03/2010 06:00 AM GMT
من الواضح أن النخب السياسية العراقية لم تع بعد فكرة مفهوم مشروعية الدولة، وأنا هنا أتحدث عن الجميع، ملكيين وجمهوريين، دكتاتوريين وديمقراطيين مفترضين. وجميعهم تعاملوا مع القانون بوصفه أداة ووسيلة لغايات سياسية مباشرة، فهو ليس أكثر من سطر يكتبه القابضون على السلطة، ويمسحونه أنى شاءوا، يعلقونه أو يحيدونه أو يستعملونه متى أرادوا، وبالطريقة التي يريدون، وليس بوصفه قاعدة عامة مجردة، الغاية منه تنظيم وضع المجتمع والدولة معا، وآلية مرتبطة بنظام القيم التي تعطي لحياة الإنسان معناها. ومن ثم فإن تطبيق القانون يبقى المسؤولية الأولى والرئيسة للدولة، عبر سلطتيها القضائية والتنفيذية، ولا بد من أن يكون هناك بداية إرادة حقيقية لدى النخب الحاكمة للالتزام بفكرة القانون نفسها. لقد عكست الوقائع المتتالية التي رافقت بدء التحضير لعملية الانتخابات، بداية من تعديل القانون، و وصولا إلى الإجراءات النهائية الخاصة بالانتخابات، أننا بإزاء أزمة حقيقية في مشروع بناء الدولة العراقية. حيث كنا مرة أخرى أمام مشهد مكرر في التعامل الفوضوي مع فكرة القانون، حين شهدنا سقوطا صريحا وعلنيا لمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه دستوريا، وحين شهدنا تحول مؤسسات الدولة، المستقلة بموجب الدستور، إلى أداة للصراع السياسي، والصراع الانتخابي. وحين وجدنا التأويل، بل التأويل المفرط والأحادي هو الفيصل والحاكم وليس النص القانوني. وحين يكون اللاوضوح واللاشفافية، وربما اللامنطق سيد الموقف. وإذا كان البعض ما زال يجادل بأن عدم النضج السياسي والقانوني الذي حكم لحظة كتابة الدستور، والاستقطابات الإثنية والمذهبية قد تم تجاوزها، فإن الطريقة التي تمت بها إدارة هذا الموضوع يؤكد أننا ما زلنا نراوح في لحظة عدم النضج نفسها.
ـ قانون تعديل قانون الانتخابات... الحكم للأقوى: كما هو الحال في لحظة أي استحقاق دستوري أو قانوني، يظل تنازع إرادات القوى الفاعلة في مجلس النواب، والذي يصور من قبل هذه القوى على أنه دفاع عن حقوق مشروعة، أو مفترضة، أو حتى متخيلة لمكونات اجتماعية وليس عن إرادة وطنية جامعة، هو الحاكم الوحيد للعملية السياسية، وهو ما يعكس استمرار منطق الصراع الذي حكم الوضع السياسي في العراق بعد لحظة 9 نيسان 2003. فعلى الرغم من مظاهر الترحيب، والمواقف التي وصفت إقرار تعديل قانون الانتخابات بأنه "انتصار للشعب"، و"انتصار للديمقراطية"، و "انتصار لإرادة العراقيين"،وأنه "لحظة حاسمة للديمقراطية العراقية" كما وصفه البيت الأبيض!!! إلا أن القانون عكس، بل وكرس أزمة الدولة العراقية الجديدة المفترضة. لا أتحدث هنا عن الأجواء التي صاحبت مناقشات إقرار التعديل بصيغته الأولى، أو التعديل بصيغته الثانية بعد النقض، والتي أعادتنا إلى الإصطفافات التقليدية (الشيعية الكردية في مواجهة السنة)، أو أجواء قراءة التعديلات والتصويت عليها التي كانت مخالفة صريحة للنظام الداخلي لمجلس النواب، وتحديدا المادة (36) التي تنص على أنه ((لا يجوز التصويت على مشروع القانون قبل مضي أربعة أيام في الأقل على انتهاء المداولة فيه وفقاً لما يلي: أولاً. يُقرأ مشروع القانون قراءة أولى. ثانيا:ً يقرأ مشروع القانون قراءة ثانية بعد يومين على الأقل وبعد استلام المقترحات التحريرية بتعديلهِ ثم إجراء المناقشة عليه)). وإنما سأتحدث عن النص النهائي لقانون التعديل رقم 26 لسنة 2009، والذي جاء محملا بالكثير من التناقضات التي تنسف مفهوم القانون بوصفه "قاعدة عامة مجردة"، ومن ثم لسنا في الحقيقة أمام نص قانوني وإنما أمام اتفاق سياسي لا يمكن وصفه بالقانون بأي حال من الأحوال. وهذه أسباب ما نذهب إليه: أولا: لقد أقر القانون بصيغته النهائية معيارين لتحديد سجل الناخبين، المعيار الأول "إحصائيات وزارة التجارة للمحافظات لعام 2005 على أن تضاف إليها نسبة النمو السكاني بمعدل (2.8%) لكل محافظة سنويا" (المادة الأولى/1 من التعديل)، والمعيار الثاني " بحسب آخر الإحصائيات المعتمدة للبطاقة التموينية" (المادة ثانيا من التعديل). بداية نحن أمام رقم اعتباطي قرره القانون للنمو السكاني سنويا، فالتقرير الوطني لحال التنمية البشرية الذي صدر منتصف العام 2009، والذي وصفه السيد رئيس الوزراء في تقديمه للكتاب بأنه "يؤسس قاعدة بيانات إحصائية غنية وموثوقة"، ينتهي إلى أن معدل النمو السنوي في العراق هي 3% (التقرير ص 204). ثم إن هذا الرقم يمثل المعدل الوطني، ذلك أن المعدل يختلف من محافظة إلى أخرى، فتبعا لأرقام التقرير نفسه، كان معدل الزيادة السنوي في محافظة البصرة مثلا، 5.8%، وهذه النسبة هي أكثر من ضعفي معدل النمو السنوي لمحافظة ديالى البالغة 1.7% ، وهذا يعني ان اعتماد المعدل الوطني سوف يشكل انتهاكا للحقوق الدستورية في نسبة المقاعد لمواطني محافظة (البصرة)، في مقابل زيادة غير دستورية في مقاعد محافظة أخرى (ديالى). ثم إن اعتماد المعيار الأول يعني أن سكان العراق لن يتجاوزوا 30.7 مليون نسمة، من ثم تبعا للمادة (49/ أولا) من الدستور (مقعد لكل مائة ألف نسمة)، فإن عدد مقاعد مجلس النواب 307 مقعد. أما اعتماد المعيار الثاني فيعني أن عدد مقاعد مجلس النواب هو 323 مقعدا، ذلك أن عدد سكان العراق تبعا لآخر إحصائية لوزارة التجارة هو32.3 مليون نسمة. وهذا يعني أيضا، أننا أمام تباين يصل إلى 1.8 مليون نسمة، أي ما نسبته 18 مقعدا نيابيا!!! ومن هنا كان اللجوء إلى إتفاق سياسي ينقض المعيارين معا، فقد جاء في المذكرة التفسيرية التي أقرت في 6/12/2009 ، أن عدد المقاعد هو 325 مقعدا، وهذا الرقم لا يتفق مع أي من المعيارين المتناقضين اللذين نص عليهما القانون! ثانيا: المقاعد التعويضية، نص التعديل الأخير على أن " تخصص نسبة ( 5%) من المقاعد كمقاعد تعويضية"؛ وهذا يعني أن المقاعد التعويضية (5% من 325 ) يجب أن تكون 16 مقعدا وليس 15 مقعدا، ولكن طريقة الحساب كانت مختلفة تماما. فقد تم الاتفاق على أن يكون عدد المقاعد 310 مقعدا، أي بإضافة 3 مقاعد على نتيجة حساب إحصائية 2005 بزيادة 2.3 سنويا، ثم إضافة نسبة 5% مقاعد تعويضية، ليصل عدد المقاعد إلى 315. ولو تم اعتماد رقم 325 منذ البداية فهذا يعني أن نسبة 5% للمقاعد التعويضية يجب أن تكون 16 مقعدا وليس 15. وهذا يعني أن الاتفاق خالف ما نص عليه تعديل القانون نفسه. وما تم هو إضافة نسبة 5% إلى عدد المقاعد وليس تخصيصها من المقاعد المقررة كما نص القانون!!! وهذا يعني في النهاية أن القانون جاء مخالفا للدستور نفسه الذي نص على أن "يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق" (المادة 49/أولا). إذ تم إضافة 18 مقعدا من دون أي غطاء قانوني. ثالثا: تصويت النازحين أو المهجرين، جاء في التعديل النهائي للقانون "يصوت العراقيون أينما كانوا لقوائم محافظاتهم أو لمرشحيهم" (المادة أولا/2)، وعبارة "أينما كانوا" يعني أنها تشمل النازحين أو المهجرين أيضا، وهذا النص يناقض ما ورد في (المادة رابعا/رابعا/ب) من القانون نفسه، والتي تنص على أنه " يحق للمُهَجَرْ التصويت للدائرة التي هُجِرَ منها ما لم يكن قد نقل بطاقته التموينية إلى المحافظة التي هُجِرَ إليها"!!! رابعا: تصويت اللاجئين والمهاجرين، جاء في التعديل النهائي للقانون " يصوت العراقيون أينما كانوا لقوائم محافظاتهم أو لمرشحيهم على أن يشمل المصوتين خارج العراق بضوابط التصويت الخاص" (المادة أولا/2)، وهذا النص يخالف ما جاء في المادة رابعا من التعديل الخاصة بالتصويت الخاص، فالمادة تحدد المشمولين حصرا بالتصويت الخاص من دون أي ذكر للاجئين أو المهاجرين!!! كما أن هذه المادة تناقض (المادة 19) من القانون نفسه، والتي لم يتم إلغاؤها من القانون الأصلي رقم 16 لسنة 2005، التي تنص على أن "يقترع العراقيون في خارج العراق في مراكز انتخابية تحددها مفوضية الانتخابات العراقية المستقلة، وتحتسب أصواتهم على مستوى الدولة". فهذا النص لا يزال ساريا ولم تشمله التعديلات مما يعني أننا في القانون نفسه أمام طريقتين للتصويت في الخارج!!! خامسا: مقاعد الكوتا، نص التعديل النهائي على أن تمنح الأقليات "حصة ( كوتا) تحتسب من المقاعد المخصصه لمحافظاتهم" (المادة أولا/3)، وليس كما جاء في التعديل الأول المنقوض الذي نص على أن تكون هذه الكوتا من المقاعد التعويضية. ولكن المذكرة التفسيرية عادت وخالفت التعديل الأخير لتنص على أن تكون مقاعد الكوتا من المقاعد التعويضية وليس من المقاعد المخصصة لمحافظاتهم (المادة ثالثا من المذكرة)، أي أن المذكرة التفسيرية جمعت بين مادتين متناقضتين تماما لتشكل منها مادة مختلفة عما جاء في نص التعديل!!! سادسا: حساب المقاعد التعويضية، نص التعديل النهائي لقانون الانتخابات على ان " تخصص نسبة ( 5%) من المقاعد، كمقاعد تعويضية، توزع على القوائم بنسبة المقاعد التي حصلت عليها" (المادة أولا/4) وهذا يعني أن المقاعد التعويضية ستوزع حصرا على القوائم الفائزة بمقاعد في الانتخابات القادمة، وهذا النص يناقض تماما (المادة 17) من القانون رقم 16 لسنة 2005 التي لم تشملها التعديلات، والتي تحدد آلية توزيع المقاعد التعويضية بطريقة مختلفة تماما عن النص الوارد في التعديل. فالمادة تنص على توزيع هذه المقاعد على "الكيانات التي لم تحصل على تمثيل في الدوائر الانتخابية بشرط حصولها على المعدل الوطني"، أما المقاعد المتبقية فهي حصرا ما يوزع على الكيانات الفائزة!! فضلا عن هذه التناقضات والتباينات الخاصة بالقانون نفسه، هناك موضوع آخر يطلق عليه فقهاء القانون مصطلح "تنازع القوانين"، ويعرف بأنه " تزاحم قانونين متعارضين أو أكثر لدولتين أو أكثر بشأن حكم علاقة قانونية ذات عنصر آخر أجنبي"، ولكننا في العراق بإزاء استحداث تعريف آخر للمصطلح، وسنعرفه بأنه "تزاحم قانونين متعارضين أو أكثر ضمن الدولة نفسها بشأن حكم علاقة قانونية" وبالتأكيد فإن هذا الفرع القانوني المستحدث سيقتصر على العراق دون غيره! فالقانون بصيغته الأخيرة، ومن خلال التسويغات والجدل الذي دار حول مدى دقة إحصائيات وزارة التجارة، ومن خلال اعتماده أكثر من معيار لعدد السكان، جاء ليزاحم قوانين أخرى صدرت على مدى السنوات الأربعة الماضية، تم الاعتماد فيها على آخر إحصائية لوزارة التجارة (قانون انتخابات مجالس المحافظات رقم 36 لسنة 2008، قوانين الميزانية للسنوات 2007 و 2008، و2009، و2010)، والسؤال هنا كيف يسوغ مجلس النواب هذا التناقض الجلي في المرجعيات التي يفترض أنها تحكم قوانين الدولة؟ فلو كنا بإزاء دولة تحترم بالحد الأدنى فكرة القانون، فإن تعديل ما بعد النقض للقانون ما كان يجب أن يتم تمريره من قبل اللجنة القانونية، التي يفترض أن مهمتها دراسة القوانين ومدى دستوريتها، وعدم تنازعها مع قوانين أخرى، وأخيرا صياغتها صياغة قانونية. وأن لا يمر في مجلس النواب، ذلك أن النظام الداخلي يمنح رئيس المجلس مهمة "العمل على تطبيق الدستور والقوانين والنظام الداخلي للمجلس" (المادة 34/أولا)، ومن ثم كان لزاما على رئيس المجلس عدم السماح بتمرير هذا التعديل. كما أن هذا القانون بصيغته الأخيرة سيتم الحكم بعدم قانونيته في الجلسة الأولى للمحكمة الاتحادية. أخيرا نؤكد انه لا يمكن الدفع بأن النص الذي جاء في المادة 8/أولا من قانون تعديل قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005، والذي ينص على أنه "يلغى أي نص يتعارض مع أحكام هذا القانون"، ذلك لأننا بإزاء تعديل للقانون رقم 16 لسنة 2005 وليس بإزاء قانون جديد، ومن ثم فإن المواد التي لم يتم إلغاؤها في نص القانون ما زالت نافدة وحاكمة، وإلا لماذا أكد النص على إلغاء تلك المواد حصرا؟
ـ اختراع العدو ... الاجتثاث والابتزاز السياسي: منذ بداية العد العكسي للصراع الانتخابي، بدا واضحا أننا بإزاء صراع من دون أية قواعد قانونية أو أخلاقية تحكمه، وكان الحديث عن عودة حزب البعث إلى السلطة نقطة الالتقاء الوحيدة للكثير من الأطراف المتصارعة. حينها قلت في إحدى المقالات: لماذا هذا الحديث المعاد والمكرر عن "تسلل البعثيين للعملية السياسية عبر الانتخابات" (المالكي في 15/11/2009) ما دامت القوانين الخاصة بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات تنص صراحة على أن المرشح يجب "أن لا يكون من المشمولين بقانون المساءلة والعدالة" (نظام تصديق المرشحين رقم ( 17 ) لسنة 2009 القسم السادس/1/ب، و إجراءات التسجيل و المصادقة على المرشحين لانتخاب مجلس النواب العراقي 2010،القسم الثالث/أولا/ب) ؟ وهو النص المنقول بالحرف عن المادة (6/2) من قانون رقم 16 لسنة 2001 الخاص بانتخابات أعضاء مجلس النواب!
لقد حكم الفكر الاستئصالي، لا نظريا فقط، وإنما ممارسة أيضا؛ من خلال تاريخ الدم منذ عام 1958 وحتى اللحظة، الخطاب السياسي العراقي، والممارسة السياسية العراقية، وتاريخ الدولة/ السلطة العراقية. ولم يتم النظر، ولو للحظة، إلى هذا التاريخ إلا من خلال فوهة بندقية، أو استدارة حبل مشنقة. ومن خلال زاوية الإيديولوجيا، التي لا تؤمن إلا بأنها وحدها المالكة للحقيقة المطلقة، وأنها وحدها القابضة على مشعل "الوطنية". كان العنف الذي مارسته الآلة العسكرية من خلال إعدام العائلة المالكة (من الغريب أن البعض لا يزال يحاول تبرئة عبد الكريم قاسم وحده من هذه الجريمة!)، والعنف الذي مارسته "الجماهير" ضد نوري السعيد وعبد الإله، مجرد مقدمة لفكر شمولي وممارسات استئصاليه ستحكم المراحل اللاحقة من تاريخ العراق المعاصر كله. لا فرق إذا كان هذا الاستئصال يتم من خلال الرفاق الثوريين والديماغوجيون وحبالهم (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)، أو الرفاق الثوريين اللاحقين من "الحرس" من خلال عمليات القتل في معتقلات رسمية، أو الرفاق الثوريين من رجال الجهاز الخاص، أو الأجهزة الأمنية المختلفة لاحقا، أو من خلال المجاهدين الثوريين ومليشياتهم. ولا فرق إذا ما تم ذلك بتواطؤ، معلن أو غير معلن، مع الدولة/السلطة التي يفترض أنها المحتكر الوحيد للعنف، أو تم من خلال قوانين وأنظمة وأوامر "شرعية" تقررها الدولة/السلطة (ولا فرق أيضا بين تجريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي أو إلى الحزب الإسلامي أو إلى حزب الدعوة، و بين ما يسمى اليوم بقانون الاجتثاث، أو المساءلة والعدالة)، أو من خلال المحاكم الشرعية" (من محكمة المهداوي إلى المحكمة الجنائية الخاصة مرورا بمحاكم الثورة)، أو حتى من خلال مواد الدستور نفسه. طوال السنوات الخمسة اللاحقة للاحتلال 2003-2008 ، لم يعد حزب البعث العربي الاشتراكي يحضر في الخطاب السياسي في العراق إلا من خلال الأمر رقم واحد الذي أصدره بريمر في 16/5/2003، والذي حمل بالنسخة الرسمية باللغة العربية عنوان "تطهير المجتمع من حزب البعث"، ولكنه اشتهر من خلال ترجمة مصطلح De- Ba'athification بالاجتثاث. وكانت هناك محاولات واعية، أو غير واعية لعدم الإشارة إلى "البعث" بشكل مباشر عند الحديث عن الدور المحتمل لأعضائه في عمليات العنف، واستبدال ذلك بمصطلحات مثل أيتام النظام أو الصداميين وغيرها في محاولة لتأكيد انتهاء "البعث" رمزيا. بل إن الدستور نفسه، وفي المادة (7) تحدث عن حظر "البعث الصدامي" وليس حزب البعث. ولم يحضر باسمه الصريح إلا في الدعاية الانتخابية لعام 2005، وتحديدا من خلال تركيز الائتلاف العراقي الموحد على وصم منافسيه، وبالأخص أياد علاوي بوصمة "البعثية"، ونتذكر جميعا الملصق الذي حمل جزءا من صورة علاوي وهي تكمل خلفية تحمل صورة صدام حسين. ولكن الوضع بدأ يتغير مع نهاية عام 2008، وكانت البداية من خلال تصريح السيد رئيس الوزراء بإمكانية التعامل مع "البعث" في إطار ما يسمى بالمصالحة الوطنية، ولكن ردة الفعل التي واجهتها الدعوة "إئتلافيا"، ومحاولات تسويق رد الفعل شعبويا، دفع بالمالكي للعودة إلى موقف أكثر تشددا من "البعث" و "البعثيين" في هجوم مقابل سريع بهدف منع "المؤتلفين" معه من تسجيل أي نقطة محتملة "شعبويا"، ومن ثم "انتخابيا". ولكن وتيرة محاولة تسويق "فوبيا" البعث صارت جزءا من الخطاب السياسي باتجاه تصاعدي، وكان تصريح السيد عمار الحكيم من أن (40 بعثيا رشحوا في انتخابات مجالس المحافظات)، ومن ثم تحذيره من (أن البعثيين رجعوا للدخول في العملية السياسية الجديدة تحت مسميات أخرى بمساعدة دول الجوار بالمال والإعلام) (صحيفة الحياة في 19 أيار 2009) نقلت "البعث" إلى مرحلة جديدة. وكانت لحظة الذروة في هذا التصعيد تفجيرات الأربعاء 19/8/2009 ؛ حين تم ولأول مرة اتهام "البعث" بأنه وراء هذه العملية النوعية. بل وصل الأمر إلى تجاهل اعتراف "دولة العراق الإسلامية" بالعملية. هكذا تم اختراع "العدو" القديم/الجديد، وصرنا أمام عمليات منهجية لاستبدال العدو المعلن على مدى السنوات الخمسة الماضية بعدو آخر. ولكن بقاء "العدو" في حدود العمليات العسكرية يبدو غير مقنع في سياق المعركة الانتخابية القادمة، لذا كان لا بد من تصعيد من نوع آخر، من خلال الاستخدام التكتيكي/الشعبوي لفوبيا البعث لأغراض نفعية مباشرة. لم يعد "البعث" مجرد "عدو" مسلح قادر على تنفيذ عمليات نوعية ضد رموز سيادية، وإنما صار عدوا قادرا على تغيير المعادلة السياسية في العراق "الجديد". لذلك وجدنا السيد رئيس الوزراء يحذر في 2/11/2009 من (أسماء وحركات سياسية بعثية في عمقها ويريدون برلمانا بعثياً(؛ والسيد عمار الحكيم يحذر بعد ثلاثة أيام فقط، من اختراق "البعث الصدامي" للائتلافات الانتخابية القائمة، ووجدنا النائب عباس البياتي يتحدث صراحة عن ضرورة تشكيل ائتلاف موسع (لمواجهة الخطر البعثي المتستر الذي يدب بقرنه من خلال واجهات سياسية)، أما النائب سامي العسكري، فيتهم صراحة "الحركة الوطنية العراقية" التي شكلت باندماج حركتي الوفاق والحوار بأنها (تمهيد لعودة البعثيين)، بل وبأنها (قائمة بعثية). بل تجاوز الأمر الحديث عن "عدو" محتمل، إلى الحديث عن وضع قائم. فالنائب محمود عثمان يصرح بان التأجيل المحتمل للانتخابات إنما يأتي (لترتيب أوضاع البعثيين)، فيما يرجع النائب لطيف حاجي حسن سبب تأخير إقرار قانون الانتخابات إلى (البعثيين)! وكانت لحظة قرار تشكيل هيئة للمساءلة والعدالة في 12 تشرين الثاني 2009، أي بعد ما يقرب من سنتين على صدور القانون (نشر قانون المساءلة والعدالة في الوقائع العراقية في 14/2/2008) قبيل الانتخابات مباشرة، قد أوضحت بما لا لبس فيه أننا بإزاء سيناريو ما. وكان اختيار وليد الحلي، القيادي في حزب الدعوة، رئيسا للهيئة، إشارة واضحة إلى ماهية هذا السيناريو، وقد كتبت حينها أن مجرد ترشيح قيادي في أحد الأحزاب ذات الخصومة التاريخية الطويلة مع حزب البعث، وهو نفسه من قدم في 28/12/2008، ممثلا لحزب الدعوة، مذكرة شكوى إلى محكمة الجنايات العليا ضد حزب البعث، لهذا المنصب إنما يكرس أن فكرة استقلالية المؤسسات ليست سوى خرافة في عراق ما قبل و بعد نيسان 2003.
لقد حدد قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم 10 لسنة 2008 دور الهيئة بالنص على أن "تعد الهيئة جهة كاشفة عن المشمولين بالإجراءات الواردة في الفصل الرابع من هذا القانون" (المادة 2/ثانيا)، وعلى أن تتكون الهيئة من سبعة أعضاء (المادة 2/رابعا) تتخذ قراراتها "بأغلبية أربعة أصوات وتنفذ فورا" (المادة2/خامسا). وحدد القانون بشكل صريح وحصري الإجراءات التي على الهيئة اتخاذها "بحق المنتمين إلى صفوف حزب البعث والأجهزة القمعية قبل تاريخ 9/4/2003" (المادة 6). وقد جاءت هذه الإجراءات منسجمة مع القيدين السابقين: الأول:الانتماء إلى حزب البعث والأجهزة القمعية، والثاني: وقبل نيسان 2003. وهذه الإجراءات تستند إلى الدرجات الحزبية للموظفين العاملين في الدولة بشكل أساسي. ولكن تشكيل هذه الهيئة الجديدة لم يتم، وقد صدر بيان عن الأمانة العامة لمجلس الوزراء في 17/5/ 2009 يشير إلى أن عمل الهيئة ينحصر في تصريف الأعمال الاعتيادية بعد إقرار قانون المساءلة والعدالة، والأسئلة التي تطرح هنا هي: أولا: كيف استأنفت الهيئة عملها على الرغم من صدور قرار رسمي بإيقافه؟ ثانيا: كيف يسوغ، قانونيا، تولي أعضاء الهيئة القديمة تنفيذ إجراءات قانون المساءلة والعدالة على الرغم من الاختلاف الواسع بين بنية وآلية عمل كل من الهيئتين تبعا للقانون؟ ثالثا: كيف توسع عمل الهيئة من اجتثاث "الأفراد" المنتمين إلى حزب البعث إلى اجتثاث الكيانات التي يرأسها "أفراد" منتمين إلى حزب البعث، وما السند القانوني لمثل هذا الإجراء؟ رابعا: لقد نص قانون المساءلة والعدالة، وفي الفصل الرابع/ المادة 6، على إجراءات محددة بشأن "المنتمين" إلى حزب البعث، تبعا لدرجاتهم الحزبية، وكذلك المنتمين إلى "الأجهزة القمعية"، وحصرا قبل نيسان 2003، فكيف تم توسيع هذه الإجراءات لتشمل "من يروج لحزب البعث" من خلال حشر المادة 7/أولا من الدستور في السجال القائم؟ لا أحد يجيب على هذه الأسئلة طبعا، كما لا أحد يستغرب محاولات الهيئة المفترضة استباق قانون الانتخابات نفسه في تقرير جملة من القرارات غير المستندة إلى أي إطار قانوني. لقد أقر مجلس النواب بتاريخ 8/11/2009 النسخة الأولى من تعديل فانون الانتخابات التي نقضها السيد طارق الهاشمي، ثم تم إقرار النسخة الثانية بتاريخ 23/11/2009، ثم جاءت المذكرة التفسيرية بتاريخ 6/12/2009 التي كانت محاولة أخيرة لتلافي النقض مرة أخرى، ثم صادق مجلس الرئاسة على التعديل بتاريخ 9/12/2009. ولكن في خضم هذا الجدل كان ثمة سيناريو آخر يتم إعداده بهدوء، فقد صرح السيد علي اللامي المدير العام التنفيذي لهيئة المساءلة والعدالة لصحيفة الشرق الأوسط في 18/ 11/2009 ، أي قبل إقرار الصيغة النهائية للقانون، وقبل المصادقة عليه، بل وقبل المصادقة النهائية على أسماء المرشحين والكيانات، وقبل إرسال المفوضية لقوائم المرشحين الذي لم يتم إلا في 5/1/2010 !!! بأنه " إن كان رئيس الكيان مشمولا بقانون المساءلة والعدالة فالكيان كله يحل، أما إذا كان أحد المرشحين هو المشمول بالمساءلة والعدالة فهذا لا يعني حل الكيان برمته بل يمنع الشخص من الترشح"، من دون أن نعرف كيف توسع عمل الهيئة من اجتثاث «الأفراد» المنتمين إلى حزب البعث إلى اجتثاث الكيانات التي يرأسها «أفراد» منتمين إلى حزب البعث؟ ، وما السند القانوني لمثل هذا الإجراء؟ بل أنه تحدث عن كيانات بعينها تم اجتثاثها لشمول رؤسائها بالاجتثاث. ثم صرح السيد خالد الشامي مدير الدائرة الإعلامية في هيئة المساءلة والعدالة لموقع "نقاش" الالكتروني في 26/1/2009 بأن الهيئة قد أعدت قائمة " ضمت511 اسما وعشرة كيانات سياسية، منهم من كان بعثيا مشمولا بإجراءات قانون المساءلة والعدالة ومنهم من هو مروج لفكر البعث ومشمول بالإقصاء وفقا للمادة 7 من الدستور". من دون أن نعرف أيضا ما السند القانون لهذا الإجراء، إذ لم يرد في نص قانون المسائلة والعدالة أية إشارة إلى قضية "الترويج". كما أن المادة 7/أولا من الدستور لا تتعلق بالأفراد، وإنما تتعلق بالكيانات السياسية، فالمادة تنص على أنه ((يحظر كل كيانٍ أو نهجٍ يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمىً كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون )). وكما هو واضح ليس في القانون ما يسمح بالتأويل الذي اعتمدته الهيئة، ثم أن المادة تتحدث عن قانون يجب أن يصدر بهذا الصدد وهو ما لم يتم بعد. ولا يمكن الدفع بأن قانون المساءلة والعدالة هو القانون المقصود، كما يقول السيد بهاء الأعرج رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي، فقانون المساءلة والعدالة إنما جاء لتعديل قانون الاجتثاث الذي صدر قبل كتابة النص الدستوري، كما أن المادة الدستورية إنما تتحدث عن الكيانات السياسية عموما، وورد اسم "البعث الصدامي" على سبيل التمثيل ليس إلا.
ـ الفصل بين السلطات ... خرافة أخرى: لقد ظلت فكرة الفصل بين السلطات مغيبة في الممارسة السياسية في العراق على مدى تاريخه الحديث، وإذا كان القانون الأساس لعام 1925 قد حاول الاقتراب من المفهوم من دون النص عليه بشكل صريح، فإن الدساتير الجمهورية بداية من العام 1958 قد أسقطت هذا المفهوم تماما. سواء من خلال عدم ذكره في الدساتير المؤقتة المتتالية(1958، 1964، 1968، 1970)، أو من خلال الممارسة السياسية التي شهدت احتكارا أحاديا للسلطات بشكل كامل. على الرغم من ذلك، فقد حرصت الدساتير العراقية جميعها على النص على "استقلالية القضاء": ـ دستور 1925: " المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها " )المادة 71 .( ـ دستور 1958 المؤقت: " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 23 .( ـ دستور 1964 المؤقت: " الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 85 .( ـ دستور 1968 المؤقت: " الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأيه سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة" )المادة 79 .( ـ دستور 1970 المؤقت: " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون" )المادة 60/أ.( وكان واضحا انه على الرغم من النيات الحسنة، لم تكن فكرة الفصل بين السلطات ومعها مفهوم الاستقلالية واضحين في ذهن النخب السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، صدر في العام 14/5/1963، أي بعد شهرين من تولي القوميين والبعثيين السلطة في العراق، القانون رقم 26 الخاص بـ "السلطة القضائية"، وقد جاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون: " إن من أهم المبادئ الأساسية التي أرست كيانها ثورة 14 رمضان المبارك، مبدأ سلطان القضاء وصيانة استقلاله وهذا لا يتم إلا بإصدار التشريعات الحديثة التي تكفل ذلك". ولكن أحد مواد القانون نصت بشكل صريح على تدخل السلطة التنفيذية في أعلى مجلس في السلطة القضائية، جاء في القانون أنه في حال غياب بعض أعضاء مجلس القضاء " للوزير أن يعين أعضاء احتياطيين من كبار موظفي وزارة العدل وحكام محكمة التمييز ليقوموا مقام الغائبين" )المادة 28/أ(. وربما كان قانون وزارة العدل الذي صدر في 27/7/1977 ، أكثر تعبيرا عن رؤية النخب السياسية العراقية لسلطة القضاء، فهذا القانون ألغي، منذ البداية، قانون السلطة القضائية السابق، والذي بدا واضحا انه لم يكن سوى خطاب متعال لا علاقة له بما يحدث على الأرض، ونص على أن: "تتولى وزارة العدل الإشراف على القضاء وأجهزة العدل الأخرى" )المادة 1/أولا.( وكان ذلك المانفيستو الأخير لمقولة استقلال القضاء. المفارقة هنا أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو الذي فرض مبدأ الفصل بين السلطات بشكل صريح في قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في آذار 2004، الذي نص على إن نظام الحكم الاتحادي في العراق يقوم على "الفصل بين السلطات" )المادة( 4 . وقد اعتمد الدستور العراقي 2005 هذا المبدأ، فقد حدد نظام الحكم بأنه نظام نيابي (برلماني) ديمقراطي (المادة 1). وحدد طبيعة السلطات فيه بأنها: "السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات" (المادة 47). وفي السياق نفسه جاءت النصوص الدستورية الخاصة باستقلالية القضاء: ـ قانون إدارة الدولة المؤقت 2004: "القضاء مستقل, ولا يُدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل. ويتمتع القضاء بالصلاحية التامة حصراً لتقرير براءة المتهم أو أدانته وفقاً للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية أو التنفيذية" ) المادة 43/أ(. ـ دستور 2005: " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون" )المادة 19/أ.( ولكن ما حدث في بعد قرار الهيئة التمييزية الأول الخاص بتأجيل النظر في الطعون إلى ما بعد الانتخابات أعاد طرح السؤال فيما إذا كنا هذه المرة بإزاء فصل حقيقي بين السلطات، أم بإزاء إعادة إنتاج للعلاقة التي حكمت مؤسسات العراق منذ بداية تأسيسه الحديث عام 1921. أي أن نكون بإزاء ممارسة سياسية تتحرك بعيدا عن النصوص الدستورية والقانونية التي يفترض أنها الوحيدة الحاكمة. فقد "دعا رئيس الوزراء نوري المالكي في وقت متأخر من مساء الأربعاء، مجلس النواب إلى عقد جلسة طارئة بهدف مناقشة تداعيات قرار الهيئة التمييزية، الخاص بإرجاء استبعاد المشمولين بقرار هيئة المساءلة والعدالة إلى ما بعد الانتخابات المقبلة" (أصوات العراق 3/2). فيما أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية علي الدباغ بأن الحكومة العراقية تحرص على التزام الجميع بالآليات القانونية والدستورية وحسن تطبيقها بما يضمن توفير سيادة القانون على الجميع وأن تأجيل تطبيق قانون المساءلة والعدالة لما بعد الانتخابات هو غير قانوني وغير دستوري وتعطيل للقانون الواجب والملزم التطبيق وهذا ليس من صلاحيات اللجنة التمييزية. (بيان صادر يوم 4/2) فيما صدر عن السيد عادل عبد المهدي عضو هيئة الرئاسة التي تمثل الجناح الثاني للسلطة التنفيذية في العراق (تنص المادة 66 من الدستور العراقي على أن السلطة التنفيذية في العراق تتكون من رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء معا) بيان يتحدث عن تجاوز الهيئة التمييزية لصلاحياتها (بيان صادر عن المكتب الإعلامي للسيد عادل عبد المهدي بوم 7/2). ولم يقتصر الأمر على السلطة التنفيذية الاتحادية، فقد أشار بيان صادر عن رئاسة إقليم كردستان بأن قرار الهيئة التمييزية " قرار غير صائب وغير مدروس من حيث مضمونه وتكمن فيه اعتبارات سياسية" (أصوات العراق 4/2). أما أعضاء السلطة التشريعية فقد شكك بعضهم في قانونية ودستورية قرار الهيئة التمييزية، فقد صرح السيد محسن السعدون النائب عن التحالف الكردستاني و عضو في اللجنة القانونية بالبرلمان بأن قرار الهيئة التمييزية " غير صائب ومخالف للقانون" (أصوات العراق 3/2). وصرح السيد فالح الفياض النائب عن الائتلاف العراقي بأن كتلته رأت أن " ما صدر عن الهيئة التميزية خارج صلاحياتها بالتالي لا قيمة لهذا الرأي ولم نقيم له أي وزن". (أصوات العراق 4/2). بل وصل الأمر إلى اتهامات مباشرة وصريحة، فقد تحدث عضو البرلمان عن التيار الصدري بهاء الأعرجي، وهو رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي عن أن "قرار الهيئة التمييزية هو قرار سياسي، وأنها تجاوزت صلاحياتها من البت بالطعون إلى اتخاذ قرار في إرجاء النظر بالمرشحين، وهو شي غير جائز" .بل أضاف أن القرار تم "جاء بعد اجتماع بين ممثل حزب البعث ومسؤولين أمريكيين ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي". (أصوات العراق 4/2). فيما ذهب السيد النائب وائل عبد اللطيف إلى ان القرار "غير قانوني ولا ينسجم مع القانون والدستور"، وإلى أن القرار الصادر من الهيئة "هو رأي السفير الأمريكي في بغداد ورأي نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، ومن المعيب على السلطة القضائية أن تتخذ قرارات بهذا الشأن تجاوبا مع متطلبات الجانب الأمريكي الذي يؤثر بشكل مخزي على رأي القضاء العراقي" .هذا فضلا عن انه نسف تمام فكرة الفصل بين السلطات عندما قرر أن "السلطة التشريعية تعتبر أعلى سلطة بالبلد، وبإمكانها أن تتخذ القرارات التي تراها مناسبة”، مشيرا إلى أن "قرارات مجلس النواب تعتبر قوانين ملزمة بالنسبة للدولة العراقية وهي قرارات نافذة على السلطتين التنفيذية والقضائية"(أصوات العراق 4/2). وهو ما رددته النائبة شذى الموسوي التي تحدث عن تجاوز الهيئة التمييزية لصلاحياتها، وإلى أن قرارها " جاء بضغط أمريكي معلن"، ومن ثم رأت أن على مجلس النواب أن "يقول كلمته الفصل في الحفاظ على استقلال العراق وسيادته" (أصوات العراق 5/2). بل وصل الأمر إلى المطالبة بسحب الثقة من الهيئة التمييزية الحالية، فقد صرح النائب حسن الشمري عن حزب الفضيلة وعضو اللجنة القانونية في البرلمان بأنه سيطالب مجلس النواب " بسحب الثقة من الهيئة التمييزية لأن بعد الرأي الأخير الذي قدمته كان سياسيا وليس قانونيا، وهو لا يخلو من أمرين؛ إما ان الهيئة كانت خاضعة لضغوط أقوى من إرادتها ومعنى ذلك أنها ضعيفة، أو أنها تحمل ميولا سياسية أثرت باتخاذها هذا الموقف" (أصوات العراق 6/2). إن هذه التصريحات، وعشرات غيرها في وسائل الإعلام المختلفة لأعضاء في السلطتين التنفيذية والتشريعية إنما تخالف نصا دستوريا صريحا وواضحا وملزما، هذا فضلا عن أنها تبين بوضوح أن النخب السياسية العراقية لم تع لحد اللحظة مبدأ الفصل بين السلطات Separation of powers. الذي يعني ببساطة: التوزيع المتوازن للسلطة (Power) بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وتفعيل الرقابة المتبادلة بينها: Power should be a check to power ، ويتطلب ذلك، بداية، احترام كل سلطة لاختصاصاتها التي حددها الدستور. وأن احتكار أي من هذه السلطات للسلطة، يهدد بإحلال الاستبداد والطغيان محل القانون. وقد صار مبدأ الفصل هذا مقدمة ضرورية لنشأة الدولة الحديثة، وأحد أهم المبادئ الدستورية والأساس الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية الحديثة. من جهة ثانية، فإن هذه التصريحات تضع مسألة حكم القانون على المحك، فقد عرف قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة رقم 10 لسنة 2008 الهيئة التمييزية بأنها "الهيئة المختصة في محكمة التمييز بتطبيق قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة" (المادة ثالثا)، ونص القانون على أن "تصدر هيئة التمييز قرارها في الاعتراضات الواردة خلال مدة لا تزيد عن (60) يوما وتكون قراراتها قطعية وباتة" (المادة 17). أما قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 فقد نص على أنه "للمحكمة ان تقرر تأجيل الدعوى مدة مناسبة إذا اقتضت الظروف ذلك" (المادة 162)، ونصت المادة 229 على أنه "لا يجوز للمحكمة ان ترجع عن الحكم أو القرار الذي أصدرته أو تغير أو تبدل فيه إلا لتصحيح خطا مادي على ان يدون ذلك حاشية له ويعتبر جزءا منه". وقد اجتمعت الهيئة التمييزية للنظر في أحد الطعون المقدمة إليها، وأصدرت قرارها في 3/2/2010 الذي تضمن ثلاثة أسباب موجبة للتأجيل: الأول: أن البت في الطعون يتطلب ابتداء النظر في قانونية الجهة التي أصدرتها. الثاني: تدقيق الأدلة والمستندات التي استندت إليها هذه الجهة في شمول المعترض وبقية المعترضين بالإجراءات المشار إليها. الثالث: تدقيق ما لدى المعترضين من أدلة تثبت عدم صحة ما نسب إليهم. وقد رأت الهيئة التمييزية السباعية بأن ذلك "يتطلب وقتا لا ينسجم ولا يتناسب مع الوقت المحدد مع موعد بدء الحملة الانتخابية" ومن ثم قررت بالاتفاق "إرجاء النظر في الطعن مع بقية الطعون المقدمة والسماح للمعترض بالمشاركة بالترشيح للانتخابات لممارسة حقه الدستوري ... وفي حالة فوزه وفق قانون الانتخابات ... فان هذا الفوز لا يرتب له حق إشغال مقعد في مجلس النواب ولا يخوله التمتع بالحقوق والامتيازات التي يمنحها القانون للأعضاء في مجلس النواب ومنها الحصانة البرلمانية والمزايا المالية وغيرها إلا بعد البت باعتراضه من الناحيتين الشكلية والموضوعية". أي أننا أما قرار صريح اتخذته هيئة قضائية تمييزية، وهو قرار يستند إلى معايير العدالة التي تشترط التدقيق في الوثائق وهي عملية فنية معقدة وتستلزم بعض الوقت، خاصة في طل التزوير الكبير في الوثائق الحاصل في العراق اليوم، وهو قرار بات وقطعي حسب نص القانون، فكيف يمكن تسويغ هذا التدخل والتشكيك الذي مارسته السلطتان التنفيذية والتشريعية في اختصاصات قضائية؟ وكيف ستتمكن السلطة القضائية من تسويغ التدخل في حكم قضائي أصدرته هيئة تمييزية لا يمكن قانونا الطعن فيها؟وكيف سيتم تسويغ تراجع الهيئة التمييزية عن قرار التأجيل؟
ـ مفوضية الانتخابات ... وتبادل الأدوار: أدخلت المفوضية العليا للانتخابات نفسها منذ اللحظة الأولى في ملف الاجتثاث في تجاوز صريح لاختصاصاتها الموصوفة في قانون المفوضية، فقد رفعت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كتابا في 6/12/2009 إلى المحكمة الاتحادية تستفسر فيه عن المادة (7 / أولا) من الدستور التي تنص على: ((يحظر كل كيان او نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه))، ثم استفسرت عن هل "أن شمول بعض رؤساء الكيانات السياسية بإجراءات اجتثاث البعث، وأن الكيان يتبنى ذلك الفكر المحظور بموجب المادة (7) من الدستور وبالتالي إلغاء المصادقة على الكيان الذي يترأسه". وكان رد المحكمة الاتحادية واضحا جدا، فهو أعاد سرد نص المادة الدستورية كما هي لأنها واضحة ولا تحتاج إلى تفسير! أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني فقد ردت المحكمة بأنه "يخـرج عن اختصاصها" وأنه "من الأمور الإجرائية القانونية التطبيقية التي تختص الهيأة العليا للانتخابات باتخاذها". وهذا يعني أن المحكمة الدستورية نأت بنفسها تماما عن الدخول في هذا الجدل السياسي وغير القانوني، وأعادت الكرة إلى ملعب المفوضية؛ فالمادة تتحدث عن الكيانات التي تتبنى تلك المبادئ، ومن ثم يتم الحظر على أساس الأفكار لا الأشخاص، ومن خلال الأفكار المعلنة، ثم أن رد المحكمة الاتحادية بين بوضوح أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات هي من يمتلك حصرا سلطة البت في قضية الكيانات وليس هيئة المساءلة والعدالة. ولكن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح هنا هو: ما موجب توجيه هذا السؤال إلى المحكمة الاتحادية؟ ولماذا بهذا التوقيت بالذات، أي في يوم صدور المذكرة التفسيرية عن مجلس النواب على تعديل ما بعد النقض وقبل أن تتلقى أي كتاب رسمي من هيئة المساءلة والعدالة، خاصة وأن القانون يحصر علاقة المفوضية بمسألة الاجتثاث في المادة الخاصة بشروط المرشح؟ والسؤال الأهم هنا هو ما مسوغ الربط بين اجتثاث البعث (وليس المساءلة والعدالة كما يفترض!) والمادة 7 من الدستور في هذا الاستفسار؟ وأخيرا لماذا هذا الاستفسار أصلا؟
ثم فوجئنا بتصريح السيد فرج الحيدري في 5/10/2010 ، جاء مناقضا بالكامل لرد المحكمة الاتحادية، فقد صرح بأن "المفوضية تلقت رد المحكمة الاتحادية حول طلب هيئة المساءلة والعدالة بإلغاء المصادقة على كيانات يرأسها مشمولون بإجراءات المادة السابعة من الدستور"!! وأضاف أن "التفسير الذي ردت به المحكمة يؤكد إلغاء تسجيل أي كيان يرأسه شخص مشمول بإجراءات اجتثاث البعث او مشارك في عمليات إرهابية او عمليات الأنفال"!!(صحيفة الحياة نقلا عن المركز الوطني للإعلام يوم 5/2/2010) وكما هو واضح فان رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لم يخالف فقط قرار المحكمة الدستورية، فضلا عن نسبته إليها أشياء لم تقل بها أصلا، بل إنه أضاف إليه ما لم يرد في المادة الدستورية أو قانون المساءلة والعدالة، فليس فيهما أي حديث عن عمليات إرهابية أو أنفال! جاء في قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005، وتحديدا في الفقرة (2) من المادة السادسة الخاصة بشروط المرشح "أن لا يكون مشمولا بقانون اجتثاث البعث"، وعلى الرغم من ان هذه الفقرة لم يتم تغييرها في تعديل قانون الانتخابات الأخير، حيث كان يفترض تغيير الفقرة لتكون "أن لا يكون مشمولا بقانون المساءلة والعدالة"، إلا أن المفوضية أعطت لنفسها سلطة تصحيح الأمر (ولا نعرف حقيقة من أعطاها هكذا سلطة لتعيير جوهري في نص القانون!!!) بأن أشارت في القسم السادس/أولا/ب من نظام تصديق المرشحين رقم (17) لسنة 2009 أن "لا يكون المرشح من المشمولين بقانون المساءلة والعدالة". ثم تحدث النظام في القسم السابع عما أسماه "تصديق قوائم المرشحين" وأشار في الفقرة 13 منه إلى انه "للكيانات السياسية ومرشحيهم الطعن بقرار المفوضية القاضي برفض التصديق على قوائم المرشحين أمام لهيئة القضائية للانتخابات". وكما هو واضح فان الاعتراض إنما يتعلق بالقرارات التي تتخذها المفوضية حصرا والمتعلقة بمسائل إجرائية محدد وموصوفة بوضوح؛ من مثل إدراج احد المرشحين اسمه في أكثر من دائرة انتخابية. وهذا يعني ببساطة أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أو الهيئة القضائية للانتخابات لا تتلق الطعون أو الاعتراضات إلا فيما بتعلق بإجراءاته الموصوفة بوضوح. وصف قانون المساءلة والعدالة الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة بأنها "هيئة كاشفة" (المادة /ثانيا)، وهذا يعني أن دورها يقتصر على تبيان ما إذا كان المرشح مشمولا بإجراءاتها أم لا، وهذا يعني أن القرارات الخاصة بمنع المرشحين من المشاركة إنما تصدر عن المفوضية العليا للانتخابات وليس هيئة المساءلة والعدالة. ولكن التدقيق في الوثائق يكشف عن تداخل وتجاوز للصلاحيات في عمل كلا الجهتين! جاء في المحضر الخاص باجتماع مجلس المفوضين يوم 18/1/2010 ما نصه: "ناقش المجلس كتاب الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة بالعدد 232 في 18/1/2010 المعنون (حظر مشاركة) واستنادا إلى الفقرة 2 من المادة (6) من قانون الانتخابات رقم (16) لسنة 2005 المعدل واستنادا لنظام تصديق المرشحين رقم (17) لسنة 2009 وعليه قرر مجلس المفوضين: ... إلغاء ترشيح الأسماء التي وردتها من هيئة المساءلة والعدالة وعددهم 511 مرشحا وذلك لفقدانهم لشرط الترشيح لمجلس النواب استنادا إلى الفقرة 2 من قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005 المعدل". كما ناقش المجلس في الاجتماع نفسه "كتاب الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة بالعدد 231 في 18/1/2010 المعنون "حظر مشاركة" وإشارة إلى القسم الخامس من قانون الكيانات السياسية والأحزاب رقم 97 لسنة 2004 وعليه قرر مجلس المفوضين ... إلغاء المصادقة على الكيانات السياسية أدناه" وحمل الجدول أسماء (8) كيانات سياسية. ثم كنا في يوم 25/1/2010 أمام قرار آخر ينص على: "استناداً إلى قرار الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة في حضر مشاركة عدد من الكيانات السياسية ألغت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات المصادقة على (9) كيانات سياسية وفقا للقسم الخامس من قانون الكيانات السياسية والأحزاب رقم 97 لسنة 2004. وبموجب هذا الإلغاء سيحظر على الكيانات السياسية والائتلافات والمرشحين (استخدام أسماء وشعارات الكيانات السياسية الملغاة في الدعاية الانتخابية)..". فما هي الأسس القانونية لهذه القرارات؟ بداية كان عنوانا كتابي هيئة المساءلة والعدالة هو "حظر مشاركة"، وهذا يعني أن الهيئة تجاوزت صلاحياتها بوصفها هيئة كاشفة لتكون هيئة منشئة، وهي بذلك تجاوزت صلاحياتها المنصوص عليها قانونا! إذ يفترض بالهيئة أن تقدم قوائم بالمشمولين بالقانون فقط من دون الحديث عن "حظر" المشاركة. إذ تنص الفقرة (2) من المادة 6 من قانون الانتخابات المعدل الخاصة بشروط المرشح، على أن لا يكون المرشح مشمولا بقانون "اجتثاث البعث" (والمفروض أن لا يكون مشمولا بقانون المساءلة والعدالة كما قدمنا)، ولكن بعض الأسماء الواردة في هذه القائمة لم تكن مشمولة بهذا القانون، بل أنها شملت بموضوع آخر بعيد كل البعد عن ذلك القانون، فقد أعطت هيئة المساءلة والعدالة لنفسها صلاحيات لم ينص عليها قانونها، عندما منعت من أسمتهم "المروجين" لأفكار حزب البعث من المشاركة في الانتخابات استنادا إلى المادة السابعة من الدستور، فكيف سوغت المفوضية قرارها بمنع هؤلاء من الترشيح، فضلا عن إلغاء الكيانات التي يرأسونها من دون أن يكون هؤلاء مشمولين حصرا بإجراءات قانون المساءلة والعدالة كما نص على ذلك قانون الانتخابات؟ أما بالنسبة للقسم الخامس من القانون رقم 97 لسنة 2004 (واسمه "قانون الأحزاب والهيئات السياسية" وليس قانون "الكيانات السياسية والأحزاب كما ورد في قرار المفوضية!) فقد نص على أن "للمفوضية وحدها دون غيرها مسؤولية معالجة جميع الأمور الإضافية المتعلقة باللوائح التنظيمية والمصادقة على الكيانات السياسية". فهل يعني ذلك أن المفوضية، لا الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة، هي التي قررت إلقاء الكيانات السياسية الثمانية لمجرد شمول رؤساء هذه الكيانات بقرار المساءلة والعدالة؟ أم أن كتاب هيئة المسائلة والعدالة المشار إليه هو الذي قرر ذلك كما هو مبين في القرارات أعلاه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا توجهت المفوضية بالاستفسار السابق إلى المحكمة الاتحادية، وما معنى الإشارة إلى القسم الخامس من قانون رقم 97 الذي يمنح المفوضية حصرا سلطة إلغاء الكيانات السياسية؟ ثم كنا يوم 16/2/2010 أمام النص التالي على موقع المفوضية " قررت الهيئة القضائية للانتخابات في محكمة التمييز الاتحادية رد الطعون المقدمة ضد قرارات مجلس المفوضين، واعتبار القرارات الصادرة من قبلها صحيحة وموافقة للقانون.. وشملت قرارات الهيئة الأسماء الواردة في قرار الهيئة العليا للمساءلة والعدالة..."، فماذا نجد هنا: أولا: أن قرار المنع من المشاركة صدر عن مجلس المفوضين. ثانيا: ثم كنا أما حديث عن "قرار" هيئة المساءلة والعدالة، وليس أي شيء آخر!!! ثالثا: يبدو أن المفوضية قد نسيت قرارها السابق بمنع "كيانات سياسية" من المشاركة في الانتخابات لشمول رؤساء هذه الكيانات بالمنع، فهي لم تتراجع عنه، ولم تنفذه في الوقت نفسه، وهو أمر لا علاقة للهيئة التمييزية به! في يوم السبت 18/2/2010 تحدث ممثل الأمين العام في العراق إد ملكرت عن أن الأمم المتحدة تدخلت لمنع حظر مشاركة كيانات سياسية في الانتخابات لمخالفة ذلك للمعايير الدولية للانتخابات. فهل تمت العودة عن القرار بسبب تدخل الأمم المتحدة؟ وما هو المسوغ القانوني الذي يمكن أن تستند إليه المفوضية في العودة عن قرارها الخاص بالمنع؟ وكيف يمكن للمفوضية "المستقلة" أن تخضع لضغط جهة خارجية وتمتنع عن تنفيذ ما رأت فيه قرارا موافقا للقانون؟ مرة أخرى نكون في ظل دوامة من الأسئلة من دون إجابة، ومرة أخرى يكون الالتباس مجرد مظهر من مظاهر الأزمة ككل.
ـ انتخابات 2010... إعادة إنتاج الصراع: بدا واضحا منذ لحظة نيسان 2003، أن الصراع في العراق أخذ شكل منتصرين يعتقدون أنهم منتصرون، وبالتالي فهذه هي اللحظة التي لا تكرر لتثبيت مطالبهم القومية والمذهبية، بل وحتى التاريخية (تعكس التأويل الشيعي/الكردي لتاريخ العراق الحديث). ومهزومين يستشعرون الهزيمة بسبب تماهيهم الطويل مع "الدولة المنهارة "، ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أنهم يمتلكون القدرة على استعادة وجودهم بشكل ما (السنة العرب). لقد حكم هذا الصراع لحظة كتابة الدستور التي حددت طبيعة النظام السياسي، ذلك أن الجمعية الوطنية التي كانت مسؤولة عن كتابته، لاقت مقاطعة سنية شبه شاملة. فكان الدستور نتاج توازن قوى مختل، وفي لحظة نشوة منتصرين، وصدمة مهزوم، وكلتاهما لحظتان غير عقلانيتين لبناء دولة. والنتيجة دستور يعبر عن "إرادة " جماعات سياسية تستمد وجودها وديمومتها من الولاءات الأولية، بوصفها "انتماءات" تسبق في تراتبيتها الانتماء "للدولة" وفق النظام التراتبي لتصور الهوية، مع هيمنة غير مسبوقة " لخطاب التماهيات"، التماهي بين الجماعات السياسية وبين المكونات الاجتماعية التي تدعي " تمثيلها"، مع كل ما يترتب على ذلك من احتكار أصواتها. لقد أنتج هذا السياق نظاما سياسيا يرتكز على نموذجين رئيسين: النموذج الأكثروي - نسبة إلى الأكثرية الديمغراغرافية-، والنموذج الفيدرالي. الأول كان مطلبا شيعيا يرتكز إلى المعطى الديمغرافي، والثاني كان مطلبا كرديا بالدرجة الأولى. وبدا واضحا أن هذا الدستور الذي رفضه العرب السنة، عموما، فشل في أن يكون عقدا اجتماعيا جامعا، وكانت الحرب الأهلية غير المعلنة في العامين 2006 ـ2007، مؤشرا صريحا لهذا الفشل. هذا فضلا عن التعمية الشديدة التي صيغت بها مواد الدستور المختلفة، الخلافية منها على الخصوص، والتي أتاحت وتتيح للقوى الأساسية التي صاغت ومررت هذه المواد، اعتماد تأويلاتها الخاصة في التفسير تبعا لما تسمح به موازين القوى، وبعيدا عن أية مرجعية، وقد وقفنا على الكثير من الانتهاكات الدستورية الصريحة من دون أي اعتراض من النخب السياسية العراقية، وكان تعديل قانون الانتخابات الحلقة الأخيرة في ذلك.
إن أبرز ما وسم الانتخابات العراقية بعد 2003، (انتخابات الجمعية الوطنية عام 2005، وانتخابات البرلمان العراقي 2005، وانتخابات مجالس المحافظات 2009) هو التضخم غير الطبيعي في عدد الكيانات السياسية المسجلة لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، (111 كيانا سياسيا في انتخابات الجمعية الوطنية على الرغم من مقاطعة أهم القوى السنية العربية للانتخابات، و228 كيانا سياسيا في انتخابات مجلس النواب 2005، و407 كيانا سياسيا في انتخابات مجالس المحافظات في14 محافظة فقط). في مقابل محدودية الكيانات الفائزة بالمقاعد (فاز 12 ائتلافا وكيانا سياسيا فقط في الانتخابات الأولى، وفاز 12 في الانتخابات الثانية أيضا، وفاز 41 في الانتخابات الثالثة). ويبدو أن هذه الظاهرة ستلازم الانتخابات البرلمانية القادمة؛ إذ بلغ عدد الكيانات السياسية المسجلة 297 كيانا، منها 129 كيانا سبق له المشاركة في الانتخابات السابقة (بضمنها كيانان فرديان)، في مقابل 168 كيانا جديدا (بضمنها 48 كيانا فرديا). تجمعت 164 كيانا منها في 12 ائتلافا سياسيا.
ولعل أبرز مظهر فيما يتعلق بالكيانات المسجلة، هو تفكك الكتل الرئيسة التي هيمنت على المشهد السياسي العراقي طيلة السنوات الأربعة الماضية؛ فالائتلاف العراقي الموحد الذي حصل، من مجموع 275 مقعدا، على 170 في انتخابات الجمعية الوطنية 2005، و128 في انتخابات مجلس النواب لسنة 2005، انقسم إلى كيانين: الائتلاف الوطني العراقي (ويضم المجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، تيار الإصلاح الوطني بقيادة إبراهيم الجعفري، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، ومنظمة بدر بزعامة هادي العامري، وحزب الفضيلة، وكتلة التضامن بزعامة قاسم داؤد، وحزب الدعوة- تنظيم الداخل بزعامة عبد الكريم العنزي (منشق عن حزب الدعوة تنظيم العراق)، وهي جميعها كانت جزءا من الائتلاف العراقي الموحد، فضلا عن تجمع العراق المستقل بزعامة إبراهيم بحر العلوم، والمؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي، وجماعة علماء ومثقفي العراق/فرع الجنوب بزعامة الشيخ خالد الملا، ومجلس إنقاذ الأنبار بزعامة حميد الهايس. أما الكتلة الثانية فهي ائتلاف دولة القانون الذي يضم، بشكل أساسي، حزب الدعوة الإسلامية بزعامة المالكي، وحزب الدعوة تنظيم العراق بزعامة هاشم الموسوي، والاتحاد الإسلامي لتركمان العراق بزعامة عباس البياتي، وكتلة مستقلون (خالد العطية وحسين الشهرستاني)، فضلا عن أكثر من 36 كيانا آخر. أما التفكك الأكبر فقد طال جبهة التوافق السنية، وهو تفكك تجاوز الجبهة إلى الأحزاب والكيانات المشكلة لها والتي فقدت أبرز وجوهها؛ فالحزب الإسلامي العراقي الذي كان يمثل عماد الجبهة، تعرض لأكثر من انشقاق، بدأه علي بابان وزير التخطيط الحالي، ثم الدكتور رافع العيساوي، والذي شكل مع آخرين كيانا باسم "تجمع المستقبل الوطني" والذي ضم فضلا عنه الدكتور عبد ذياب العجيلي عضو الحزب سابقا. ثم تلاه طارق الهاشمي الذي شكل كيانا باسم "تجديد" ضم بعض أبرز وجوه الحزب. وهو ما حصل بشكل أكبر لمؤتمر أهل العراق الذي كان بزعامة الدكتور عدنان الدليمي؛ فقد تم تسجيل الكيان باسم "التجمع الوطني لأهل العراق" ويتزعمه خالد البرع، أما ابرز وجوه المؤتمر السابق فقد توزعوا على الكيانات الأخرى؛ فالدكتور ظافر العاني (قبل منعه من المشاركة)، والدكتور سلمان الجميلي، ونوال السامرائي انضموا إلى "تجمع المستقبل الوطني" الذي انضم إلى كتلة العراقية، والدكتور سلام الزوبعي شكل تجمعا باسم "حركة أبناء الرافدين"، وحسين الفلوجي سجل نفسه في كيان منفرد. أما الكيان الثالث الذي كان يشكل جبهة التوافق وهو "مجلس الحوار الوطني" فقد تشتت تماما، ولم يعد يضم سوى زعيمه خلف العليان الذي انضم إلى "ائتلاف وحدة العراق" بزعامة جواد البولاني، فيما شكل الدكتور محمود المشهداني مع الدكتور نديم الجابري "التيار الوطني المستقل". فضلا عن هذا التفكك للكتل الكبيرة، ثمة مظهر آخر، وهو ما يمكن تسميته بـ "الدكاكين السياسية"، ويمكن تعريفها بأنها الكيانات التي تكتسب وجودها من خلال الإعلان عن نفسها ككتل سياسية قبيل البازار الانتخابي، وليس من خلال الحضور الفعلي في المجتمع السياسي أو المجال العام. وترتبط ديمومتها بمدى نجاحها في الوصول إلى مقاعد البرلمان، وتعرف من خلال زعيم أو رئيس الكيان، ولا يتعدى دور المسجلين معه، إن وجدوا، عن كونهم عمالة مؤقتة ينتهي عقدها لحظة الفوز أو الخسارة في مقاعد البرلمان. وتتلخص الإستراتجية السياسية المتبعة لهذه الدكاكين في الإعلان عن الكيان قبيل الانتخابات من أجل تحقيق الحضور، ومن ثم لفت انتباه الأحزاب الكبرى المهيمنة، ثم الائتلاف مع أحدها. بل إن بعضها حرق المراحل بالتصريح في لحظة الإعلان عن نفسه بانضمامه إلى أحد الائتلافات حتى قبل الإعلان النهائي عن وجوده. ولعل عدد هذه الدكاكين السياسية هو ما دفع اللاعبين الكبار إلى تعديل قانون الانتخابات ليسمح لكل كيان سياسي بترشيح ضعف عدد المقاعد المخصصة للمحافظة، على عكس ما كان عليه القانون القديم الذي كان يشترط ألا يزيد عدد المرشحين على عدد المقاعد المخصصة للمحافظة!
لقد سادت بروباغاندا سياسية صاخبة حول الائتلافات الوطنية المفترضة؛ فأغلب الكيانات السياسية أضافت إلى أسمائها مفردة الوطنية، وتحدثت هذه الائتلافات عن تجاوز البعد الهوياتي (الإثني والطائفي) الذي حكم، فعليا، تشكيل أغلب الكيانات السياسية في العراق، بما فيها الكيانات التي تدعي الليبرالية والعلمانية. لكن الوقائع على الأرض تبين بوضوح أن نموذج الكيانات "الوطنية" العابرة للولاءات الأولية Primordial Sentiments ما زال بعيدا عن العملية السياسية في العراق، وأن ما يجري حقيقة محض محاولة لتأطير الطائفية وليس تجاوزها. أولا بسبب طبيعة وبنية الإسلام السياسي الشيعي والسني في العراق، فأحزابهما تنطلق من متن تاريخي ونظري متقاطع تماما خاصة تلك المتعلقة بنظرية الحكم، التي تعد واحدة من أهم مقولات الإسلام السياسي. فالجماعات السياسية الرئيسة، والتي أثبتت حضورها في الانتخابات المحلية الأخيرة، قد بنيت، في الأساس، على الطائفية بوصفها مقولة سياسية )حزب الدعوة، المجلس الإسلامي الأعلى، التيار الصدري(، وإذا كان )الحزب الإسلامي( لم يفكر في لحظة التأسيس بهذه المسألة بسبب من طبيعة الدولة السنية في العراق، فانه اعتمد هذه المقولة بعد نيسان 2003 بشكل عملي، ومن ثم فهي بطبيعتها أحزاب "طائفية"، أي أنها لا يمكن إلا أن تكون أحزابا شيعية أو سنية. وقد وقعت الجماعات السياسية العلمانية في المقابل في المأزق ذاته، فوجدنا بعضها ينسف تاريخه الوطني العابر للولاءات الأولية بقبول الدخول في مجلس الحكم تحت عنوان طائفي محدد )حميد مجيد موسى/الحزب الشيوعي العراقي بوصفه شيعيا، نصير الجادرجي وريث الحزب الوطني الديمقراطي بوصفه سنيا(، وينحى البعض الآخر ذو التاريخ الليبرالي المفترض قبل نيسان 2003 ، المنحى نفسه ليقبل بالمنطق ذاته )أياد علاوي/حركة الوفاق، أحمد الجلبي/ المؤتمر العراقي(. وكان التأسيس الأخير للبيت الشيعي تعبيرا رمزيا عن هذا المأزق. أما بالنسبة للجماعات التي تأسست في الداخل بعد 2003 ، فقد اعتمدت على المقولة الطائفية في بنيتها. وبدا واضحا من خلال انتخابات مجالس المحافظات 2009 أن الأحزاب الليبرالية المفترضة لم تكن تحصل على الأصوات إلا من خلال هذا التصنيف، وان الكتلة الوحيدة التي دخلت الانتخابات الثلاثة بعد نيسان 2003 بقوائم عابرة للولاءات الأولية،هي القائمة العراقية التي يتزعمها الدكتور أياد علاوي،والتي لم تحصل على أصوات كثيرة في المناطق الشيعية، خلافا للمناطق السنية. نأتي إلى الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني، فبسبب من بنيتهما وتأريخهما، لا يزالان يحملان أيديولوجيا قومية صارمة لا يمكن معها التفكير بالائتلاف في كيانات وطنية عابرة أخرى، وهذا الموقف تلتزم به الأحزاب الإسلامية (كالإتحاد الإسلامي الكردستاني)، والماركسية (كالحزب الشيوعي الكردستاني) أيضا. وعلى الرغم من المحاولات العربية لجس نبض قائمة "التغيير" التي يتزعمها نوشيروان مصطفى المنشق عن الاتحاد الوطني الكردستاني، والتي حققت مفاجأة غير متوقعة بفوزها ب 25 مقعدا في برلمان كردستان، أي ما نسبته 22.5% من مجموع المقاعد، إلا أن مثل هذه المحاولات لم تنجح، وأصبحنا أمام قوائم كردية بحتة.
إن تحليل طبيعة الائتلافات "الوطنية" المعلنة، يكشف أمرين اثنين: الأول: أن ائتلافي "دولة القانون" و" الوطني العراقي" فشل كلاهما في استقطاب كيانات أو أسماء "سنية" ذات حضور انتخابي فاعل، أو كيانات سياسية ليبرالية وعلمانية فاعلة، ومن ثم ظلا ائتلافين شيعيين بامتياز؛ فالأول، والذي ضم أكثر من أربعين كيانا، لم يستطع أن يستقطب سوى التيار العربي المستقل بزعامة عبد مطلك الجبوري، والقائمة الوطنية بزعامة حاجم الحسني، والتجمع العربي العراقي بزعامة عبد الكريم عبطان، والحركة الدستورية (العراقية) بزعامة الشريف علي بن الحسين بن علي، و تحالف بيارق العراقي بزعامة علي حاتم عبد الرزاق السليمان، وقائمة قادمون بزعامة وصفي عاصي العبيدي، وحركة النهوض الوطني بزعامة خالد سعدي الياور، ومجلس أعيان العراق بزعامة نزار حبيب الخيزران. ومعظم هذه الكيانات جديدة تم إعلانها مؤخرا، وليس لها ثقل انتخابي حقيقي، ومعظمه لا يضم فعليا سوى أسماء زعماء الكيانات لوحدهم. أما الكيانات الأخرى، فلم تحصل سوى على نتائج متواضعة جدا في الانتخابات السابقة (لم تحصل الحركة الدستورية على نتائج تذكر في انتخابات 2005، فيما لم يحصل قائمة الحسني سوى على بضعة آلاف من الأصوات في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة (وكانت كالآتي:البصرة 2335 صوتا، بغداد 2410 صوتا، نينوى 5318 صوتا، الأنبار 1471 صوتا، المثنى 3144 صوتا). فيما عدا قائمة التجمع الوطني التي كانت بديلا عن كتلة المصالحة والتحرير التي حصلت على ثلاثة مقاعد في انتخابات برلمان 2005. أما الكتل القومية والليبرالية ذات البعد التاريخي: الحركة الاشتراكية العربية في العراق (عبد الإله النصراوي)، و الائتلاف الوطني الديمقراطي (مالك دوهان الحسن)، و حزب الوحدة (مبدر سلمان الويس)، و الحزب الوطني الديمقراطي الأول (هديب الحاج حمود)، فإنها لم تحرز أي نتائج تذكر في الانتخابات التي شاركت فيها، وليس ثمة إمكانية لتغيير هذا الواقع، ومن ثم فإن وجود هذه الكتل في ائتلاف دولة القانون كان مجرد هوامش على متن إسلامي/شيعي. أما الائتلاف الوطني العراقي فكان أقل نجاحا في استقطاب الآخرين؛ فالأسماء السنية الأبرز فيه هما حميد الهايس و خالد الملا، وكلاهما لم يحصلا في الانتخابات الأخيرة على شيء يذكر؛ فالأول لم يحصل في محافظة الأنبار التي تنافس فيها في انتخابات مجالس المحافظات، سوى على مقعد واحد، فيما لم تحصل قائمة الثاني سوى على 1904 صوتا فقط في البصرة. الثاني: وعلى خلاف الائتلافات الإسلامية (الشيعية والسنية)، والأحزاب/الائتلافات الكردية، تشهد الانتخابات بروز أول ائتلاف كبير نسبيا (تبعا لنتائجه الانتخابية)، يحاول ان يتجاوز، ولو نظريا، الولاءات الأولية، باتجاه ما يطلق عليه "قائمة وطنية"، وهو ما تعكسه "الحركة الوطنية العراقية" التي تشكلت من خلال اندماج تياري أياد علاوي وصالح المطلك (قبل منعه من المشاركة)، وتشكيل ائتلاف يضمهما مع أسامة النجيفي طارق الهاشمي ورافع العيساوي وآخرين. ولكن هذا الائتلاف لا يمكن أن يصنف في النهاية إلا بأنه ائتلاف سني، وهو ما سيفقد الدكتور علاوي المزيد من ناخبيه في المناطق الشيعية، أي أنها دخلت بالضرورة في قائمة التصنيف الهوياتي.
بعد مرور ما يقرب من سبع سنوات على الاحتلال وسقوط الدولة العراقية، وأكثر من أربع سنوات على إقرار الدستور، لا يزال العراق محكوما بمنطق الصراع على السلطة والثروة. صحيح اننا بإزاء حراك سياسي سريع ودائم التحول، إلا انه حراك محكوم بمقدمات الصراع نفسها، على الرغم من الصخب العالي الذي يحاول تصوير بعض مظاهر هذا الحراك بأنها تحولات نوعية حقيقية؛ فالائتلافات الكبرى والمرشحة للحصول على العدد الأكبر من مقاعد مجلس النواب القادم، اعتمدت وتعتمد، بالدرجة الأساس، على التضامن القائم على الولاءات الأولية الإثنية والمذهبية، وإن أوحت بأنها عابرة لهذا التصنيف،لكن هذه المحاولات ظلت دعائية ولم تتجاوز هذا الحد. ومن خلال مقارنة النتائج المتحققة في الانتخابات السابقة، وفي ضوء التحالفات والائتلافات المعلنة، يبدو ان العوامل التي ستحدد سلوك الناخب العراقي في الانتخابات القادمة هي نفسها التي وجدناها في انتخابات مجالس المحافظات 2009، وهذه العوامل هي: العامل الأول: البعد الإثني، حيث ستفوز قائمة التحالف الكردستاني بأغلبية مقاعد محافظات أربيل والسليمانية ودهوك، وبعدد من مقاعد محافظتي نينوى ودبالي. وستشاركها قائمتا التغيير بزعامة نوشيروان مصطفى وقائمة الاتحاد الإسلامي الكردستاني ببعض هذه المقاعد. العامل الثاني: البعد الطائفي، حيث ستحصل قائمتا ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي على غالبية مقاعد محافظات الوسط والجنوب الشيعية، في حين ستتوزع الأصوات في المناطق السنية بشكل رئيس بين الحركة الوطنية العراقية، وجيهة التوافق العراقية، مع حضور بسيط لقائمة ائتلاف وحدة العراق. العامل الثالث: البعد الإسلاموي/الأيديولوجي، وتحديدا في المناطق الشيعية. من خلال الكيانات الرئيسة المشكلة للائتلاف الوطني العراقي (المجلس الأعلى الإسلامي، والتيار الصدري، وتيار الإصلاح/ الجعفري، وحزب الفضيلة)، والكيانات المشكلة لائتلاف دولة القانون (حزب الدعوة الإسلامية، وحزب الدعوة تنظيم العراق). أما في المناطق السنية فيبدو ان الحزب الإسلامي سيظل يحظى بحضور معين على الرغم من خسارته لنفوذه السابق. العامل الرابع: القوى المحلية، كان من أبرز المتغيرات التي حكمت الانتخابات الأخيرة أن الناخب صار أكثر إيمانا بقدرة هذه القوى على التعبير عن مصالحه، ووعيها للتحديات والمشكلات التي تواجهه، ولعل المثال الأبرز هو فوز" قائمة الحدباء الوطنية" الكاسح في نينوى. ولعل طبيعة الخطاب الذي استخدمته القائمة كان العامل الرئيس في هذه النتيجة، والذي عبر عن مخاوف وتطلعات الناخبين الموصليين أكثر مما عبر عن إرادة القوى التقليدية كالحزب الإسلامي مثلا، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة مع الحزبين الكرديين.
من هنا فإن النتائج المتوقعة تشير إلى أن العملية السياسية في العراق، لا تزال محكومة بمجموعة من الحقائق، وستظل كذلك إلى مدى غير منظور: الحقيقة الأولى: استمرار اعتماد الولاءات الأولية الإثنية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية، والبقاء في إطار دولة مكونات وليس دولة مواطنين؛ حيث سيظل النظام السياسي ومعه بناء الدولة محكومين بنظام المحاصصات الديمغرافية وليس السياسية، وستبقى التوافقات السياسية، مع كل ما نجم عن ذلك من حضور الطائفة، وسيطا بين المواطن والدولة. ولكن مع محاولات النخبة الشيعية ضمان استمرار الهيمنة على السلطة والقرار السياسي من جهة أخرى، خاصة في طل وجود نزعة متصاعدة ومعلنة لدى هذه النخب في احتكار أوسع للسلطة مما هو قائم اليوم، وهو وضع سيفضي بالنتيجة إلى دوامة صراع مفتوحة على المدى الطويل. الحقيقة الثانية: كسر ثنائية الفدرالية – المركزية؛ فقد أوحت انتخابات مجالس المحافظات بأنها مواجهة بين الفيدراليين والمركزيين، خاصة في الوسط الشيعي، إلا ان التحالفات القائمة اليوم جعلت مثل هذه المواجهة غير حقيقية (الصدريون والفضيلة وتيار الجعفري كانوا الأشد معارضة للفيدرالية يأتلفون اليوم مع المجلس الأعلى). ومن ثم فإن دعوة الفيدرالية قد تراجعت كثيرا، وقد وجدنا المجلس الأعلى يعلن مؤخرا أنها لم تعد ضمن أولوياته. الحقيقة الثالثة: استمرار أزمة النظام السياسي الذي أنتج بعد 2003، لا سيما المادة الدستورية التي تنص على أن "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء"( المادة 76/أولا)، وليس الكتلة الفائزة بالانتخابات، وهذا يعني في ظل الانقسام السياسي والمجتمعي القائم في العراق، أن الكتلتين الشيعيتين الكبيرتين (ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي) يمكن ان تتقاسما بفارق بسيط الأصوات الانتخابية (لم يزد الفرق بين ائتلاف دولة القانون والأطراف الرئيسة في الائتلاف الوطني العراقي عن 200 ألف صوت)، ومن ثم ستجدان نفسيهما مضطرتين للدخول في إطار كتلة سياسية من أجل ضمان منصب رئيس الوزراء من جهة. الحقيقة الرابعة: استمرار الخلط بين السلطة والدولة؛ إن الحكم من خلال ائتلاف واسع يضم ممثلين من القطاعات الهامة الفائزة بالانتخابات، يبقي دور مجلس النواب محدودا في مواجهة احتكار السلطة التنفيذية، وتحديدا الأمانة العامة لمجلس الوزراء، للسلطة، وما يستتبع ذلك من انتهاكات دستورية وقانونية، وعلى رأسها مبدأ الفصل بين السلطات. الحقيقة الخامسة: استمرار عجز الحكومة الاتحادية عن حل أية مشكلة تقع بينها وبين سلطة الإقليم، وإذا كان الدستور العراقي قد تحدث عن المحكمة الاتحادية بوصفها الجهة المختصة بـ " الفصل في النزاعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات" (المادة 93/رابعا). إلا أن لم يحدد الآليات التي يمكن اللجوء إليها في حال عدم قبول أي من هذه الأطراف بقرار المحكمة الاتحادية، ذلك أن الدستور لم يحدد الجهة التي تمتلك سلطة الحسم. هذا فضلا عن بقاء الصوت الكردي في البرلمان العراقي حاسما في ترجيح كفة التحالف الشيعي المقبل في أية استحقاقات قادمة في مجلس النواب.
|