نحو رؤية ما بعد نيوليبرالية : الدولة شر لا بدّ منه |
. المقاله تحت باب في السياسة قبل نحو سنتين، كنتُ في جلسة حوار عن الثقافة العراقية في العقود الثلاثة الأخيرة. الجلسةُ ضمّت عددا من المثقفين العراقيين من أجيال مختلفة وباحثة أمريكية لبنانية الأصل. كانت أول كلمة نطق بها كل من المثقفين هؤلاء حين شرع يتحدث عن الثقافة العراقية هي (الدولةُ . . .). قلتُ للباحثة: هل لاحظتِ أن مفتاح حديثنا عن الثقافة العراقية، وأول كلمة فيه، هي (الدولة)؟ يحدث هذا لسبب بسيط، وتأريخي: أن المثقف العراقي لا يستطيع أن يتصوّر نفسَه خارجَ إطار الدولة، التي ظلت الثقافةُ العراقية ـ تأريخيا ـ مربوطة بها. وحتى بعد سقوط نظام صدّام حسين في نيسان 2003، حين بدأ الكل يتحدثون عن النموذج النيوليبرالي، الذي بدا (أو هكذا قُدِّم) أنه النموذج البديل: أن البديل من دولة شرسة، قاسية، هو تقليل دور الدولة، وصولا إلى بناء ما يُسمّى في الأدبيات النيوليبرالية (دولةَ الحد الأدنى)، انطلاقا من رؤية بُنيت داخل الاقتصاد السياسي بأن دولة قوية متحكِّمة بالثروات هي العائق الأساسي أمام قيام نظام ديمقراطي، وأنه ينبغي إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والاقتصاد، حتى بعد ذلك، كان المثقف آخرَ من تحدث عن النيوليبرالية، لأنه لا يستطيع أن يتصوّر نفسَه خارج رعاية الدولة، التي كانت ـ بالفعل ـ العنصرَ الأهم في حركة الثقافة العراقية، بل في حركة المجتمع العراقي كله. الدولة الأب
وعلى نحو عام، لا يتصوّر المجتمعُ العراقي ـ هو الآخر ـ نفسَه من دولة راعية، مركزية، قوية، . . لا يتصوّر نفسَه خارج رحمة الأب. لقد احتلت (الدولةُ) المكانَ الفاعل والموجِّه في الحراك الاجتماعي الذي شهده العراقُ، وعموم المنطقة. ومع ذلك، نحن لا نملك تفسيرا أو فهما واضحا لمنبع هذه النزعة الدولتية. وعلى نحو أولي، يبدو أن السياق السياسي الذي أُنشئت فيه الدولةُ الحديثة في المنطقة، التي كانت من نتائج الحركة الكولونيالية الغربية، هو الذي وضعها في هذه المكانة. لقد أدّت الدولةُ في المنطقة مهمتين تأريخيتين: الأولى هي أنها كانت البوّابة التي انتقلَت من خلالها هذه المجتمعاتُ إلى الحداثة. يرى يورغن هابرماز، في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة (1985)، أن (الحداثة) هي تجربة تأريخية خاصة بطبيعة تطوّر المجتمعات الغربية، وهو ينتقد (التحديث) بوصفه تجريدا لـ (الحداثة) من سياقها الغربي والتعامل معها بوصفها آليات صالحة للتطبيق في سائر المجتمعات، وهي الرؤية التي يبدو أنها حكمت التجربةَ الكولونيالية الغربية، ولم ينقطع التنظيرُ لها إلى هذه اللحظة. وهذا يعني أن دور الدولة في المنطقة لم يقتصر على التحديث السياسي، الذي تمثّل بنقل (ودمج) الممارسات السياسية ما قبل الحديثة (الخلافة، السلطنة، الإمارة، . . .) إلى النموذج الحديث ("الدولة"، وما تضمه ويرتبط بها من مؤسسات سياسية حديثة: برلمان، أحزاب، دستور، معارضة، فصل بين السلطات، تنظيم تداول السلطة، ارتباط بالمجتمع الدولي، . . .)، بل لقد تركت تجربةُ التحديث في المنطقة، التي باشرت بها الكولونياليةُ الغربية، والتي كانت تتمحور حول الدولة، آثارا اجتماعية كبيرة، تتمثل في جعل (الدولة) المرجعيةَ الاجتماعية العامة، بما أنها تملك السلطات الحصرية، وهي التي تنظِّم المواطنةَ المتساوية، بما يتضمن ذلك من حقوق وواجبات. لقد أسهم ذلك (وإن بشكل مبدئي، وجزئي، ومتعثر، على نحو ما تكشف تجربةُ الدولة في المنطقة) في تفكيك الروابط التقليدية، إذ عملت الدولةُ على حصر الجمهور عبر تعريفه من خلال (المواطن الفرد) وربطه بها من حيث هي مرجعية هوية، وحقوق، وهو ما أسهم في تنمية (المشاركة العامة) وتنشيط (الفردانية). وبالتزامن، عمل النموُّ الحضري، الذي نهضت به الدولة، ونشوءُ المدن ونموها، ولا سيما المدن الكبرى والعواصم، في دعم تفكيك الروابط التقليدية، كما أن بناء الدولة لمؤسسات تربوية حديثة ترتبط بها أسهم في تطور التعليم العام، والأهم من ذلك، في تنظيم المثاقفة مع الغرب، الأمر الذي سيلعب دورا أساسيا في تطور هذه المجتمعات. لقد أسهم كلُّ هذا في نمو ما أسمّيه (الوعي الدولتي)، أي الوعي الذي يقوم على ربط كل المظاهر الاجتماعية بالدولة بوصفها المصدر السببي للحراك الاجتماعي. أما المهمة التأريخية الأخرى التي أدّتها الدولةُ فتقع في صلب مشروع التحديث، وهي (بناء الأمة)، التي كانت مهمة حصرية للدولة. لقد فرضت الكولونياليةُ الغربية نموذجَها الخاص عن (الدولة ـ الأمة) على المنطقة، غير أن هذه المحاولة أنتجت تركيبا لاتأريخيا بين (الدولة) و(الأمة): الدولة شكل مستعار من التجربة الغربية، ولكن من دون أن تكون هناك أمة تتطابق مع هذا الشكل السياسي، أمة لا تقوم على أساس الدين، أو الطائفة، أو الإثنية، بقدر ما يجمعها الانتماء لفكرة (الوطن). (الدولة) في المجتمعات الغربية (في الأقل، في النموذج الفرنسي للقومية) كانت شكلا مستنبَطا من، أو قائما على، (أمة) متشكلة. أما دولتنا الوطنية فهي شكل سياسي لأمة غير موجودة. يقول الملك فيصل الأول (1883 ـ 1933)، الذي أطلق مشروعا لبناء ما سمّاه (أمة عراقية): "لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة". ومن ثم، شهدت المنطقةُ عملية معاكسة، وهي أن يكون (بناءُ الأمة) مهمة من مهمات الدولة. غير أن انطلاق التعبير عن الهويات الإثنية والطائفية والدينية مع سقوط الدولة في 9/ 4/ 2003 كان دليلا على أن لا شيء تغيّر عمّا تحدث عنه فيصل الأول، لأقل: كان دليلا على فشل مشروع (بناء الأمة)، وعلى نحو أوسع، على تعثرات الدولة في أداء مهمتيها التأريخيتين. لقد فشلت الدولةُ الوطنية العربية في أن تكون مصدرا للهوية الوطنية، التي أصبحت مجردَ هوية سياسية تشير إلى الانتماء إلى كيان سياسي محدد، ولم تصبح هوية ثقافية، بمعنى أن الدولة فشلت في أن تبني (هوية ثقافية وطنية). لقد شكّل الإيمانُ بهوية عربية إسلامية القاعدةَ الثقافية للدولة الوطنية العربية، وظل الحديثُ عن الهويات الوطنية في الخطاب العربي حديثاً (خيانياً) للانتماء العربي الإسلامي. كان ثمة فصام حاد، أو نفس مبتورة، بتعبير داريوش شايغان، عاشتها مجتمعاتُ هذه المنطقة ودولها: فصام بين حضانة الدولة للمجتمع، في حين يرى هذا المجتمعُ هويتَه خارج إطار الدولة، وفصام بين الهوية السياسية الوطنية والهوية الثقافية القومية والدينية، بين كون الدولة كياناً سياسياً يفرض عليها (هوية سياسية قطرية) وبين قاعدتها الثقافية التي تفرض عليها هوية أخرى. لقد ظلت الهوياتُ السياسية هوياتٍ ثقافية منقوصة. وقد رسّخت نخبُ الدولة الوطنية ومثقفوها، وكذلك الأيديولوجيات القومية التي حكمت باسم (الشرعية الثورية)، رسّخت في شعوب هذه المنطقة أن الانتماء الوطني هو هوية منقوصة بإزاء الهوية الكبرى، العربية الإسلامية. وهكذا لم يستطع الانتماءُ العراقي (على سبيل المثال) أن يكون إشارة إلى انتماء إلى (أمة عراقية)، أو (ثقافة عراقية)، أو (هوية عراقية). لقد وضع فقهاء الهوية وأيديولوجيو الشعور القومي محدداتٍ أيديولوجية للأمة، من قبيل اللغة والتأريخ المشترك، وسيّسوا وأدلجوا الشعورَ السيكولوجي البسيط لدى شعوب هذه المنطقة بالانتماء إلى العروبة من حيث هي قدر تأريخي، أو بالانتماء إلى الإسلام من حيث هو دين. وفي العراق، عملت الأيديولوجيا القومية التي تبنتها الدولةُ على تكسير فكرة (الوطن) داخل العراقيين، فضلاً عن منع قيام (أمة عراقية). وهكذا، لم تكن (الفكرةُ العراقية) هي البديل المطروح بعد سقوط نظام صدّام. لقد برز الانتماءات الإثنية والدينية والطائفية بوصفها ناتجا منطقيا لدولة ذات هوية أحادية، دولة ذات بعد قومي عربي إسلامي. ومن ثم، كان الفصامُ الذي عاشته الدولةُ الوطنية العربية، ممثلة بالعراق، وعجزُها عن تأسيس هوية ثقافية وطنية، كان يقودها إلى الفشل. الاقتصاد السياسي للدولة وسحر النيوليبرالية الديمقراطية أم التحديث؟ * نُشر هذا المقال في مجلة آفاق المستقبل، مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبو ظبي، العدد (3)، كانون الثاني/ يناير ـ شباط/ فبراير 2010، ونُشرت أجزاء منه في جريدة العالم، ومجلة الأسبوعية، اللتين تصدران في بغداد. |