نحو رؤية ما بعد نيوليبرالية : الدولة شر لا بدّ منه

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
03/03/2010 06:00 AM
GMT



 قبل نحو سنتين، كنتُ في جلسة حوار عن الثقافة العراقية في العقود الثلاثة الأخيرة. الجلسةُ ضمّت عددا من المثقفين العراقيين من أجيال مختلفة وباحثة أمريكية لبنانية الأصل. كانت أول كلمة نطق بها كل من المثقفين هؤلاء حين شرع يتحدث عن الثقافة العراقية هي (الدولةُ . . .). قلتُ للباحثة: هل لاحظتِ أن مفتاح حديثنا عن الثقافة العراقية، وأول كلمة فيه، هي (الدولة)؟ يحدث هذا لسبب بسيط، وتأريخي: أن المثقف العراقي لا يستطيع أن يتصوّر نفسَه خارجَ إطار الدولة، التي ظلت الثقافةُ العراقية ـ تأريخيا ـ مربوطة بها. وحتى بعد سقوط نظام صدّام حسين في نيسان 2003، حين بدأ الكل يتحدثون عن النموذج النيوليبرالي، الذي بدا (أو هكذا قُدِّم) أنه النموذج البديل: أن البديل من دولة شرسة، قاسية، هو تقليل دور الدولة، وصولا إلى بناء ما يُسمّى في الأدبيات النيوليبرالية (دولةَ الحد الأدنى)، انطلاقا من رؤية بُنيت داخل الاقتصاد السياسي بأن دولة قوية متحكِّمة بالثروات هي العائق الأساسي أمام قيام نظام ديمقراطي، وأنه ينبغي إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والاقتصاد، حتى بعد ذلك، كان المثقف آخرَ من تحدث عن النيوليبرالية، لأنه لا يستطيع أن يتصوّر نفسَه خارج رعاية الدولة، التي كانت ـ بالفعل ـ العنصرَ الأهم في حركة الثقافة العراقية، بل في حركة المجتمع العراقي كله.

 الدولة الأب
وعلى نحو عام، لا يتصوّر المجتمعُ العراقي ـ هو الآخر ـ نفسَه من دولة راعية، مركزية، قوية، . . لا يتصوّر نفسَه خارج رحمة الأب.
لقد احتلت (الدولةُ) المكانَ الفاعل والموجِّه في الحراك الاجتماعي الذي شهده العراقُ، وعموم المنطقة.
ومع ذلك، نحن لا نملك تفسيرا أو فهما واضحا لمنبع هذه النزعة الدولتية.
وعلى نحو أولي، يبدو أن السياق السياسي الذي أُنشئت فيه الدولةُ الحديثة في المنطقة، التي كانت من نتائج الحركة الكولونيالية الغربية، هو الذي وضعها في هذه المكانة.
لقد أدّت الدولةُ في المنطقة مهمتين تأريخيتين:
الأولى هي أنها كانت البوّابة التي انتقلَت من خلالها هذه المجتمعاتُ إلى الحداثة.
يرى يورغن هابرماز، في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة (1985)، أن (الحداثة) هي تجربة تأريخية خاصة بطبيعة تطوّر المجتمعات الغربية، وهو ينتقد (التحديث) بوصفه تجريدا لـ (الحداثة) من سياقها الغربي والتعامل معها بوصفها آليات صالحة للتطبيق في سائر المجتمعات، وهي الرؤية التي يبدو أنها حكمت التجربةَ الكولونيالية الغربية، ولم ينقطع التنظيرُ لها إلى هذه اللحظة.
وهذا يعني أن دور الدولة في المنطقة لم يقتصر على التحديث السياسي، الذي تمثّل بنقل (ودمج) الممارسات السياسية ما قبل الحديثة (الخلافة، السلطنة، الإمارة، . . .)  إلى النموذج الحديث ("الدولة"، وما تضمه ويرتبط بها من مؤسسات سياسية حديثة: برلمان، أحزاب، دستور، معارضة، فصل بين السلطات، تنظيم تداول السلطة، ارتباط  بالمجتمع الدولي، . . .)، بل لقد تركت تجربةُ التحديث في المنطقة، التي باشرت بها الكولونياليةُ الغربية، والتي كانت تتمحور حول الدولة، آثارا اجتماعية كبيرة، تتمثل في جعل (الدولة) المرجعيةَ الاجتماعية العامة، بما أنها تملك السلطات الحصرية، وهي التي تنظِّم المواطنةَ المتساوية، بما يتضمن ذلك من حقوق وواجبات. لقد أسهم ذلك (وإن بشكل مبدئي، وجزئي، ومتعثر، على نحو ما تكشف تجربةُ الدولة في المنطقة) في تفكيك الروابط التقليدية، إذ عملت الدولةُ على حصر الجمهور عبر تعريفه من خلال (المواطن الفرد) وربطه بها من حيث هي مرجعية هوية، وحقوق، وهو ما أسهم في تنمية (المشاركة العامة) وتنشيط (الفردانية). وبالتزامن، عمل النموُّ الحضري، الذي نهضت به الدولة، ونشوءُ المدن ونموها، ولا سيما المدن الكبرى والعواصم، في دعم تفكيك الروابط التقليدية، كما أن بناء الدولة لمؤسسات تربوية حديثة ترتبط بها أسهم في تطور التعليم العام، والأهم من ذلك، في تنظيم المثاقفة مع الغرب، الأمر الذي سيلعب دورا أساسيا في تطور هذه المجتمعات.
لقد أسهم كلُّ هذا في نمو ما أسمّيه (الوعي الدولتي)، أي الوعي الذي يقوم على ربط كل المظاهر الاجتماعية بالدولة بوصفها المصدر السببي للحراك الاجتماعي.
أما المهمة التأريخية الأخرى التي أدّتها الدولةُ فتقع في صلب مشروع التحديث، وهي (بناء الأمة)، التي كانت مهمة حصرية للدولة.
لقد فرضت الكولونياليةُ الغربية نموذجَها الخاص عن (الدولة ـ الأمة) على المنطقة، غير أن هذه المحاولة أنتجت تركيبا لاتأريخيا بين (الدولة) و(الأمة): الدولة شكل مستعار من التجربة الغربية، ولكن من دون أن  تكون هناك أمة تتطابق مع هذا الشكل السياسي، أمة لا تقوم على أساس الدين، أو الطائفة، أو الإثنية، بقدر ما يجمعها الانتماء لفكرة (الوطن). (الدولة) في المجتمعات الغربية (في الأقل، في النموذج الفرنسي للقومية) كانت شكلا مستنبَطا من، أو قائما على، (أمة) متشكلة. أما دولتنا الوطنية فهي شكل سياسي لأمة غير موجودة. يقول الملك فيصل الأول (1883 ـ 1933)، الذي أطلق مشروعا لبناء ما سمّاه (أمة عراقية): "لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة".
ومن ثم، شهدت المنطقةُ عملية معاكسة، وهي أن يكون (بناءُ الأمة) مهمة من مهمات الدولة.
غير أن انطلاق التعبير عن الهويات الإثنية والطائفية والدينية مع سقوط الدولة في 9/ 4/ 2003 كان دليلا على أن لا شيء تغيّر عمّا تحدث عنه فيصل الأول، لأقل: كان دليلا على فشل مشروع (بناء الأمة)، وعلى نحو أوسع، على تعثرات الدولة في أداء مهمتيها التأريخيتين. 
لقد فشلت الدولةُ الوطنية العربية في أن تكون مصدرا للهوية الوطنية، التي أصبحت مجردَ هوية سياسية تشير إلى الانتماء إلى كيان سياسي محدد، ولم تصبح هوية ثقافية، بمعنى أن الدولة فشلت في أن تبني (هوية ثقافية وطنية). لقد شكّل الإيمانُ بهوية عربية إسلامية القاعدةَ الثقافية للدولة الوطنية العربية، وظل الحديثُ عن الهويات الوطنية في الخطاب العربي حديثاً (خيانياً) للانتماء العربي الإسلامي.
كان ثمة فصام حاد، أو نفس مبتورة، بتعبير داريوش شايغان، عاشتها مجتمعاتُ هذه المنطقة ودولها: فصام بين حضانة الدولة للمجتمع، في حين يرى هذا المجتمعُ هويتَه خارج إطار الدولة، وفصام بين الهوية السياسية الوطنية والهوية الثقافية القومية والدينية، بين كون الدولة كياناً سياسياً يفرض عليها (هوية سياسية قطرية) وبين قاعدتها الثقافية التي تفرض عليها هوية أخرى.
لقد ظلت الهوياتُ السياسية هوياتٍ ثقافية منقوصة. وقد رسّخت نخبُ الدولة الوطنية ومثقفوها، وكذلك الأيديولوجيات القومية التي حكمت باسم (الشرعية الثورية)، رسّخت في شعوب هذه المنطقة أن الانتماء الوطني هو هوية منقوصة بإزاء الهوية الكبرى، العربية الإسلامية. وهكذا لم يستطع الانتماءُ العراقي (على سبيل المثال) أن يكون إشارة إلى انتماء إلى (أمة عراقية)، أو (ثقافة عراقية)، أو (هوية عراقية).
لقد وضع فقهاء الهوية وأيديولوجيو الشعور القومي محدداتٍ أيديولوجية للأمة، من قبيل اللغة والتأريخ المشترك، وسيّسوا وأدلجوا الشعورَ السيكولوجي البسيط لدى شعوب هذه المنطقة بالانتماء إلى العروبة من حيث هي قدر تأريخي، أو بالانتماء إلى الإسلام من حيث هو دين.
وفي العراق، عملت الأيديولوجيا القومية التي تبنتها الدولةُ على تكسير فكرة (الوطن) داخل العراقيين، فضلاً عن منع قيام (أمة عراقية). وهكذا، لم تكن (الفكرةُ العراقية) هي البديل المطروح بعد سقوط نظام صدّام. لقد برز الانتماءات الإثنية والدينية والطائفية بوصفها ناتجا منطقيا لدولة ذات هوية أحادية، دولة ذات بعد قومي عربي إسلامي.
ومن ثم، كان الفصامُ الذي عاشته الدولةُ الوطنية العربية، ممثلة بالعراق، وعجزُها عن تأسيس هوية ثقافية وطنية، كان يقودها إلى الفشل.

 الاقتصاد السياسي للدولة وسحر النيوليبرالية
لقد أدّى اكتشاف وظهورُ صناعة النفط في المنطقة منذ عشرينيات القرن العشرين وبدءُ تعرّف الدولة على الريع النفطي وإفادتها من موارده، أدّى إلى بناء ونموّ في جهاز الدولة بما جعلها تسيطر على المجتمع وتتحكم فيه. لقد كان هذا أحدَ الروافد الأساسية لنشوء ظاهرة الاستبداد: هيمنة الدولة على الاقتصاد، منشئةً كيانها القوي على الاقتصاد الريعي والطفرة النفطية.
لقد جعلت الدولةُ المجتمعَ هامشا عليها، مستهلكا لثرواتها، ومنتوجاتها، وأيضا، لأفكارها، وقيمها، ونماذجها. هذه الحالة سمّاها عصام الخفاجي (رأسماليةَ الدولة الوطنية)، وهو يصف ـ من منظور اقتصاد سياسي ـ طبيعةَ الدولة التي نمت في العراق وعلاقتها بالثروة.
كان هذا النمطُ من الدولة عائقا أساسيا أمام حدوث إصلاح ديمقراطي، هذا فضلا عن أن العراق شهد ترهلا في الجهاز البيروقراطي وفقدان الدولة لكفاءتها في أداء كثير من وظائفها، ولا سيما مع الحرب العراقية الإيرانية والحصار الدولي في التسعينيات.
لقد كانت هذه هي النقطة التي نفذ منها النموذجُ النيوليبرالي ومحاولة إزاحة الدولة إلى العراق، الذي كان تجسيدا لأزمة الدولة في المنطقة، وأيضا، تمرينا ومختبرا للنموذج النيوليبرالي، الذي بدا أن مشهد 9/ 4 مفتتحا هائلا له ووثيقة على قبوله الاجتماعي، وذلك حين اتجه العراقيون إلى الانتقام من الدولة، في مشهد لا يُنسى.
كان ثمة اختلاف فلسفي جذري في التعامل مع مسألة (التحديث) بين البريطانيين، الذين أنشؤوا الدولةَ العراقية سنة 1921، والأمريكان، الذين وجدوا أنفسَهم أمام مهمة إعادة بناء الدولة سنة 2003، إذ كان البريطانيون يرون أن (الدولة) هي مصدر التحديث، في حين تعامل الأمريكان مع (المجتمع) بوصفه مصدرا له.
وفي كل الأحوال، كان العراق فرصة مثالية لاختبار إلى أي مدى يمكن لنموذج نيوليبرالي، أو نموذج يستخف بالدولة، أن ينجح في هذه المنطقة، وإلى أي مدى تمثل (الدولة) أهمية لهذه المجتمعات.
لا أحاول، هنا، أن أقدّم نقدا أيديولوجيا للنيوليبرالية، وقد كنتُ أحدَ المتحمِّسين لها، ولكنني أحاول أن أنجز مراجعة نقدية تستند إلى الدروس التي علّمتنا إياها تجربةُ سبعُ سنوات بعد سقوط نظام صدّام.
لقد أسهمت الروح النيوليبرالية، التي وردت إلى العراق مع العهد الأمريكي، والتي تعتقد أن (الدولة) هي أصل العلل والشرور، إلى مفارقة جوهرية، فقد أفضى طموحها في الوصول إلى (ما بعد الدولة)، وتحجيم دورها وتقليم أظفارها، أفضى إلى إطلاق قوى (ما قبل الدولة). لقد كان غيابُ الدولة الفرصةَ المثالية لأن تستعيد هذه القوى وجودَها وحيويتها.
وقد أصبح العراق، وسائر المنطقة، ساحة لعمل قوى ما قبل الدولة، التي لا تؤمن بالقانون الحديث، وتمارس وتفرض إرثا تشريعيا قديما، تمارس الحدود وتعاقب الناس بحسب ما تمليه عليها الشريعةُ، ولم يفوِّضها أحد بممارسة العقاب. هذه الحال من التعارض التأريخي بلغت ذروتها في العراق الآن، وهو تعارض تأريخي فريد لم يشهده العالم منذ قرون.
لقد شكّلت الجماعاتُ الإسلامية جوهرَ قوى ما قبل الدولة، فهي قد عملت على بناء انفصال حاسم بين العمل الإسلامي والدولة، وقد وصَفت الدولةَ بأنها (دولة كافرة). أنا أقصد، هنا، الجماعات الإسلامية التي أطلقها خطاب سيد قطب (1906 ـ 1966)، التي حوّلت انفصالَها عن الدولة إلى انفصال عن مفهوم (الدولة الحديثة) نفسه، ليجري تنظيم هذا الانفصال عبر أيديولوجيا لا تؤمن بالدولة.
وإلى جانب هذا، كان يبدو عسيرا جدا على دولة ذات اقتصاد ريعي، على غرار العراق، أن تتخلى عن مهماتها، ولا سيما في إحداث تحوّل نحو اقتصاد حر، يقلّل من دور الدولة، في حين أن هذه الدولة تستحوذ على الثروة الأساسية للبلاد، وهي النفط. ولذلك، كان يبدو التحولُ نحو الاقتصاد الحر رهانا نظريا لا عمليا، فقد وُضع العراق أمام ظرف إشكالي: لقد كان ناتج الحروب والحصار والفوضى الاقتصادية السابقة أن أصبح العراقُ أمام تركة ثقيلة، تتمثل في بنية تحتية مدمرة ومشاكل اقتصادية كبيرة، من قبيل البطالة والفقر. ولعلاج هذه المشكلات، كان ينبغي أولاً الإبقاء على النظام الاقتصادي السابق، لأن إصلاح المشكلات الاقتصادية الراهنة يقتضي مورداً سريعاً، وأن تسيطر الدولة على عملية الإصلاح، مفيدة من الاقتصاد الريعي الذي لا مفر منه. وكما أن الدولة ذات مسؤولية أساسية في إعادة الإعمار، فإنها تتحمل المسؤولية الأولى في التنمية وفي حماية المواطنين من الكلفة والتبعات الاجتماعية التي يسبّبها، عادة، التحول نحو اقتصاد حر، وفي صدارة هذه التبعات ازدياد نسبة الطبقات الفقيرة، وتدمير الطبقة الوسطى.
 لقد كان ضعفُ الدولة أحدَ العوامل الأساسية في ضعف الطبقة الوسطى، التي ارتبطت تأريخيا في العراق بالدولة. لقد مثّل موظفو الدولة عمادَ الطبقة الوسطى، التي نمت في لحظتين أساسيتين في العراق الحديث، ارتبطت كل منهما بتوفر الدولة على ثروات هائلة، الأولى في الخمسينيات حين طوّرت الدولة تعاقداتها مع الشركات الأجنبية المالكة لامتياز استخراج النفط لتحصل الدولةُ على نصف الأرباح، والأخرى في السبعينيات مع التأميم وارتفاع أسعار النفط والطفرة النفطية التي شهدتها. وبالتالي، كان صعود وهبوط الطبقة الوسطى في العراق مرتبطا بصعود وهبوط الدولة. وهذا يعني أيضا أن إضعاف الدولة، الذي باشرت به النيوليبراليةُ، هو ـ كذلك ـ إضعاف للطبقة الوسطى.

 الديمقراطية أم التحديث؟
 ركّز التصوّرُ الذي حكم الاستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس جورج و. بوش (2001 ـ 2009)، والذي أسهم المحافظون الجدد في بنائه، على أن الأنظمة الاستبدادية وغياب الديمقراطية هما السببان الرئيسان في انتعاش الأصولية.
لقد كان التصورُ الأمريكي متردِّدا بين نزعة عقلانية ترى أن هناك قيما كونية للمجتمعات البشرية، في صدارتها (الحرية)، ومن ثم، تميل هذه المجتمعات إلى اختيار الديمقراطية، بما أنها نظام صيانة الحرية، وهذا يتضمن أن الديمقراطية أقرب إلى أن تكون الشكل الطبيعي الذي تختاره المجتمعات، وبين نزعة مستمدة من التراث السلوكي الأمريكي، ترى أن الديمقراطية ممارسة، مجموعة من العادات التي تجري التربية عليها.
لقد كان ثمة يقين عميق آمن به المحافظون الجدد، وهو أن المجتمعات تميل إلى اختيار أنظمة ديمقراطية بعد زوال الاستبداد. وقد تصوّروا أن هذا هو ما سيحدث في العراق بمجرد إزالة نظام صدّام. ومن ثم، قادهم هذا التصوّر إلى التفريط بالدولة من حيث هي عنصر رئيس في بناء الأنظمة الاستبدادية. وبالفعل، كان الأمريكان في العراق يتعاملون باستخفاف ولامبالاة شديدين مع انهيار مؤسسات الدولة وتفكيكها، لأنه كان ثمة إيمان بأن الدولة غير مأسوف عليها، وأن العراق الجديد يجب أن يتأسس على عقيدة جديدة.
غير أن ما حدث في العراق منذ ذلك الوقت يقدِّم تحديا جادا لهذا التصوّر، إذ لم يمنع زوالُ الاستبداد من انتعاش الأصولية. والأكثر، أن الديمقراطية لم تبدُ مسألة ذات أولوية للعراقيين.
وبالتالي، كانت سنواتُ التفريط بالدولة في العراق عملا بالاتجاه الخاطئ.
هنا، كان هذا التصور ينقلب على نفسه، ليعود سؤالُ (التحديث) إلى أن يكون السؤالَ الأساسي: إن المنطقة بحاجة إلى تحديث بنيوي عميق، قبل الحديث عن تحول ديمقراطي، وإن الديمقراطية هي ناتج من نتائج التحديث، وليس العكس. وهنا، تعود الدولة بوصفها أداة التحديث وبوابته الأولى: إن عتبة (ما بعد الدولة) هي (الدولة) نفسها، وأنه لا يمكن الوصول إلى (ما بعد الدولة) من خلال (اللادولة)، بل من خلال الدولة.
لقد كانت التجاربُ الأساسية للتحديث في المنطقة، من قبيل تجربة تركيا، هي من صناعة الدولة، غير أن العقل الأمريكي لم يستطع أن يفهم منطق الدولة هذا والأهمية التي تحتلها في منطقتنا، ولم ير من فائدة وضرورة لها سوى أنها شرطي يواجه التطرف الإسلامي، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تدعم الأنظمة القائمة في المنطقة، بعد أن تبيّن لها أن إسقاط نظام صدّام قد أطلق نزعات أصولية نائمة.
لقد كان التفكير في الدولة في منطقتنا ينطلق من قدرتها على تمثيل المجتمع: هل هي تعبِّر عن أمة واحدة، أو مجتمع متعدد؟ نحن لا نفكر بالدولة، هنا، من حيث هي جهاز بيروقراطي (الذي يبدو، للمفارقة، أن إصلاحه لن يتم إلا بضربة نيوليبرالية)، بل من حيث هي ناظم اجتماعي.
وهكذا، يبدو أن السنوات القادمة ستكون عملا لإعادة إنتاج وبناء وترميم النزعة الدولتية.

* نُشر هذا المقال في مجلة آفاق المستقبل، مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبو ظبي، العدد (3)، كانون الثاني/ يناير ـ شباط/ فبراير 2010، ونُشرت أجزاء منه في جريدة العالم، ومجلة الأسبوعية، اللتين تصدران في بغداد.