قراءة في عمارة الحداثة بالعراق (2-2)

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
24/12/2009 06:00 AM
GMT



(الصورة بعدسة الفنان ناظم رمزي : شارع الرشيد 1960 )
  الى: علي الشوك.

ومشغل الهلال الاحمر، مخصص اصلا لسكن وتدريب 50 فتاة يتيمة، تحت اشراف القسم النسوي التابع لجمعية الهلال الاحمر العراقية . يشتمل المبنى على جناحين "بلوكين" منفصلين موقعا في الطابق الارضي؛ احدهما مخصص للصفوف وورش العمل، وفضاءات عرض تطل على جانب الطريق، والجناح الثاني تشغله بالاضافة الى القسم الادراي، مكتبة ، وغرفة معيشة وفضاء تناول الطعام. وقد تم ربط القسمين – الجناحين من خلال كتلة الطابق الاول المرفوعة جزئيا على اعمدة، والمشغولة بغرف نوم المتدربات. تبلغ ابعاد المبنى حوالي 43 مترا في الطول و13 مترا في العرض. واختيرالاسلوب الهيكلي  لنوعية التركيب الانشائي للمبنى: ثمة اعمدة ترفع صبة السقفين العلويين. واستخدم مجال Span إنشائي موحد للجهتين، بلغ مقداره 6 امتار.  (A.D., March, 1957,, p.80)
اعتمد القرار التصميمي على تجزئة واضحة لكتلتي الطابقين: الارضي والاول. ففي حين فرّغ جزئياً الطابق الاسفل، جاءت معالجة الطابق الاعلى مليئة باحياز غرف النوم التى شكلت بمجموعها كتلة متراصة، امتدت على طول المبنى ومحددة بجدارين اصمين في طرفيها الشرقي  والغربي. اتسمت معالجة الواجهة الجنوبية في الطابق الاول، على حضور ظاهر لشريطين من فتحات نوافذ مستمرة تحميها بروزات افقية خرسانية في اعلاها وفي اسفلها, وثمة اختلاف مقصود في ارتفاع هذين الشريطين. الذي يفصلهما سطح اصم تم صبغه باللون الازرق، وتخلل مجال الفتحات الممتدة اعمدة الهيكل الانشائي مضاف اليها اعمدة تزينية آخرى تم وضعها في منتصف المجال Span المتكون بين عمودين، تتماثل في سمكها مع الاعمدة الرافعة. وقد تم تجزئة المجالات بين الاعمدة باطارات النوافذ الحديدية.  ويعلو سطح المبنى بيت الدرج الذي سقطت كتلته ضمن القسم الشرقي من المبنى. واقتصرت المفردات التصميمية للواجهة الجنوبية في الطابق الارضي، على تبيان الاعمدة الرافعة بشكل جلي، مع وجود "قطعة" لجدار آجري، اتسم سطحه على انحناءة خفيفة نحو الداخل، وتم رصف طابوقه بشكل مميز؛ تخللته ثقوب  لنوافذ صغيرة مبثوثة بايقاع خاص على سطحه. في حين انطوت معالجة الواجهة الخلفية الشمالية قي قسمها الاعلى على وجود سطح واسع ابيض، يخترقه شريط لفتحات نوافذ بارتفاع قليل نسبياً. وفي الاسفل فان الاعمدة الرافعة تظهر جنبا الى جنب الجدران الآجرية برصفها المميز الذي شاهدنا مثيلا له في الواجهة الجنوبية.

تكاد تكون لغة التصميم المعتمدة في عمارة مشعل الهلال الاحمر بمثابة صدمة مفاجئة للمشهد الثقافي عموما والمعماري على وجه الخصوص. انها لغة جديدة، حداثية، وغير مسبوقة في الممارسة المعمارية المحلية. من هنا امتياز عمارة المبنى وتفردها، العمارة التى ستؤسس لاتجاه جديد يشي بنقطة انطلاق مغايرة في مسار العمارة العراقية الحديثة. وهي بصفتها الاستثنائية هذه، تكون قد لبت على وجه اكمل، نداءات ارهاصات التغيير، المعبأ بها الخطاب الثقافي وقتذاك؛ والتى وجدت في عمارة المشغل تمثيلا ناجحاً وكفوءاً لها.
في تناولهما للمعضلة التصميمية، المحددة اطارها، بتلبية وظائف المبنى والتعاطي مع تلك الاحياز جمالياً، يلجأ المصممان الى عدم توريط نفسيهما في مقاربة تصميمية عادية، ستنتج حتما اشكالا مألوفة تكون اجترارا مكررا لما هو شائع ومتعارف عليه، وبمفردات تكوينية امست توظيفاتها تشير الى رتابة مملة وجمالياتها تضمرّ ضجراً بصرياً. نحن اذاً، امام حدث تصميمي، يعزف مصمماه عزوفاً اطلاقيا على التعويل على ما هو سائد وشائع معماريا وانشائيا. ومرد هذا العزوف، في اعتقادي, ليس دافعه "التبجح" باظهار نزوة فنية  طارئة، وانما السعي وراء اثراء المشهد المعماري، بمقاربات جديدة، يمتلك "مؤلفاها" القدرة الكاملة والكفاءة المهنية لتحقيبق انزياح معرفي: تصميمي وجمالي، تتصادى قيمه وافكاره مع طليعية القيم والافكار التى تتسم بها الممارسة المعمارية الحداثية العالمية في اوج لحظتها الابداعية. انها، باختصار، عمارة تتجلى مفاهيمها لا <في العودة الى> بقدر ما تتطلع الى <الاتجاه نحو>! .
يتوق معماريا "المشغل" الى تذكيرنا باهمية وقيمة المرجعية التصميمية التى اعتمداها في اصطفاء قراراتهما التكوينية، تلك المرجعية التى تتبدى عبر تأويل شخصي لاطروحة  "لوكوربوزيه" الساعية وراء تحديد معنى "عمارة الحداثة"، والمتمظهرة بنقاطها الخمس: المبنى المرفوع على اعمدة، والواجهة الحرة، والمسقط الحر، والنوافذ الشريطية، واخيرا السطح المستوي. وعمارة المبنى تبدو وكأنها نتيجة لقراءة شغوفة، تمنحنا فرصة رصد التناص Intertextuality مع أطروحة رائد عمارة الحداثة. لكنها قراءة تظل رهينة اشتراطات خصوصية المكان، وبالطبع نوعية الآهلية المهنية لمؤلفيّها.
لا يتعين إدراك عناصر منظومة عمارة الحداثة، الموظفة في المبنى، انطلاقاً من قيمتها الانشائية، وانما ينبغي الانتباه الى ما تمنحنا تلك المنظومة من تداعيات تكوينية وجمالية. فعنصر "رفع المبنى على اعمدة" مثلا الحاضر بقوة في المعالجات التصميمية للمشغل، تتجاوز تأثيراته الفعالية التركبية ليسجل انعطافة هامة في النأي بعيدا عن تقاليد "عمارة الحائط" المهيمنة قرونا في الممارسة البنائية، ومن ثم التغاضي وحتى نبذ عن ما لازمها من ذائقة فنية خاصة اتسم بها النشاط العمراني المحلي. والحال ذاته يمكن رصده فيما يخص معالجة مفردات الواجهات وخصوصاً اشكال الفتحات فيها. فالقوام الانشائي الهيكلي، المستخدم في المبنى، يكفل عدم لزوم تطابق واجهات طابقي المبنى، ما اتاح للمعماريين امكانية رسم الواجهة الجنوبية، على سبيل المثال، بالطريقة اياها، المفعمة بالحس الجمالي، والمتولدة عن توظيف مقتدر لتضاد الكتل، فالطابق الارضي المفرغ جزئياً يراد منه معاكسة الكتلة الممتلئة نسبيا في الطابق الاعلى، كما ان الاشتغال على منظومة تناسبية خاصة ساهمت في اخضاع فتحات نوافذ الواجهة ضمن ايقاع مميّز ومدروس.
يراعي المصممان طبيعة الظروف المناخية المحلية السائدة، ويتطلعا لجعل تأثيرات تلك الظروف اداة فعالة في التأكيد على انتمائية المبنى لمكانه. جدير بالاشارة ان العامل المناخي عدّ وقتذاك ( في الاربعينات، ولاحقا في الخمسينات)، من اهم العوامل، ان لم يكن العامل الوحيد، في اضفاء هوية مميزة الى المباني في الممارسة المعمارية العالمية الحداثية؛ منذ ان أُستخدمت بصورة لافته ادوات منظومة حماية المبنى ولا سيما مفردة "كاسرات الشمس" Louvers على نطاق واسع.  في مبنى "المشغل" تلعب البروزات الافقية فوق فتحات النوافذ دورا اساسيا في اكساب المبنى حماية كفوءة من سلبيات المناخ السائد المتسم بحرارة عالية ووهج ضياء شديد. وهذه الاداة ذاتها، تضحى ايضا في ايدي المعماريين وسيلة هامة في اضفاء قيمة جمالية الى واجهات  المبنى. لكن حماية فتحات النوافذ بواسطة التطليعات الخرسانية، لم تكن الوسيلة المناخية الوحيدة المستخدمة في المبنى. ثمة قرارات تصميمية آخرى بالمشغل، اعتمدت على نتائج دراسات وبحوث علمية، كانت جديدة جداً ورائجة جدا، في الوسط المعماري ابان تلك الفترة، ابتغت التقليل من سلبيات تاثير المناخ الحارعلى المباني. ومن ضمنها ولع المعماريين في استخدام ما يسمى "بجدار الفجوة الهوائية" بغية الحصول على عزل حراري،  والذي تم تطبيق اثره في مبنى المشغل. فقطع جدراني الواجهتين الجنوبية والشمالية معمولة بالواقع من صفين آجريين تحصران بينهما فجوة هوائية. وقد ساهم استخدم اللون الابيض الطاغي في انهائيات سطوح المبنى، هو الآخر في تقليل تأثير تلك السلبيات. ولا يجب ان ننسى ما يحمله تناوب مناطق الظل والضوء التى تتشكل وفق نوعية القرار التصميمي الفضائي – الحجمي الخاص، في خلق تيارات هوائية دائمية تنعش بيئة الفضاءات المصممة.
حرص معماريا المشغل على توظيف معالجات تصميمية مختلفة  وجديدة فيه، سعيا لإثراء لغة عمارته، وتأكيد فرادتها التصميمية. فبالاضافة الى استخدام شريط النوافذ الافقية، وهو حدث تصميمي بالغ الاهمية في الممارسة المعمارية المحلية، نلاحظ ثمة توق لدى المعمارييّن في جعل مقاسات بعض فتحات نوافذ المبنى واسعة نوعا ما، تمتد من الارضية وحتى السقف، مع تقطيع كبير للالواح الزجاجية فيها. ماجعل "الخارج" يدغم عضويا ويتداخل بصريا مع "الداخل" بصيغة لم تألفها كثيرا الممارسة البنائية المحلية. وتستحضر هنا، المحاولة الجسورة والرائدة التى قام بها سابقا المعمار "ولسون" في مبنى الكلية الدينية بجامعة آل البيت( 1922-24) بالاعظمية ببغداد. حينما استخدم فتحات واسعة لنوافذ صفوفه ولكن بتقطيع صغير نسبيا للزجاج، لكن تلك المحاولة الرائدة في الممارسة المعمارية المحلية، لم تحظ باهتمام كبير، لحين إعادة  قراءتها مرة اخرى، بالصيغة الحداثية التى ابانتها عمارة المشغل. 
ويظل القرار التصميمي الخاص بتوظيف شعار المؤسسة الخيرية واستخدام الاحرف الكتابية عل سطح الجدار الغربي للمشغل، من القرارات الجديدة التى اضفت جواً حداثيا وطازجا الى عمارة المبنى. فشكل الهلال الاحمر الكبير ونوعية الاحرف البارزة المكتوبة بخط الرقعة الواضح على سطح الجدار الابيض ، شكل "ملصقاً / بوسترا" ضخماً،عالي الفنية، يشير بجلاء الى  طبيعة المبنى ووظيفته. ومعلوم ان ممارسة استخدام الاحرف الكتابية في التكوين المعماري، هي ممارسة جديدة نوعا ما في المشهد المعماري العالمي؛ عندما فاجأ "اريخ مندلسون" (1887-1953) الوسط المعماري الحداثي في استخدامه الاحرف الكتابية في تصميمه "لمتجر شوكين" في شتوتغارت بالمانيا (1930)، الذي اسست عمارته لهذا النوع من الممارسة التصميمية. كما ان المعمارييّن استثمرا وجود العناصر ذات الوظائف النفعية / الخدمية المألوفة، ليرتقيا بها الى مصاف الاحداث التكوينية المؤثرة. فكتلة "بيت الدرج" على سبيل المثال ، التى لم يعر احدا اهمية خاصة لها في السابق، تكتسب في المشغل قيمة فنية، تكرس  حضور الجو الفني  المترعة به اشكال كتل المشغل. ان موقع كتلتها المختار يخضع لتقسيمات منظومة تناسبية مميزة، فضلا على ان كتلتها النحتية العالية تنهي حركة ايقاع الخطوط الافقية المنطويةعليها واجهة الطابق الواقع اسفلها. تجدر الاشارة ايضاً، إن جهد معماريّ المشغل كان واضحاً ومميزاً في اعمال تنسيق الفضاءات الخارجية Landscape المحيطة بالمبنى. وهي اعمال وجدت قبولا واستحساناً لها في الممارسة المحلية، كما انها اشرت في الوقت عينه، الى بدء مداخلة المصممين الجدّية في هذه الفعالية.

إن اقتران مبنى مشغل الهلال الاحمربالحداثة والمغايرة، المغايرة التى تصل حد القطيعة مع ما هو شائع وسائد في الخطاب، جعل من عمارته حدثاً هاماً في الممارسة البنائية المحلية، محدثاً "خلخلة" نوعية في مجمل الممارسة التصميمية التى بدت وكأن تكويناتها  مكللة بغار الكمال، الذي منحها رسوخاً واستقراراً، نائيا بها عن امكانية التغيير او المساءلة. وقد نجم عن تلك الخلخلة انزياح مفاهيمي اصاب صميم الوعي الجمالي، وبالتالي هزّ الذائقة الفنية ليس فقط لدى المهنيين، وانما ايضاً، لدى جمع كبير من المتلقيين والمستخدمين لتلك العمارة. فشكلها المتفرد الحافل بمفردات جديدة وغير مألوفة، قد عززّ من خصوصيتها، وكرس حضورها في المشهد. والاهم ان وجودها فتح افاقاً واسعة امام  المسار التطوري للعمارة المحلية.
تشي الهيئة البسيطة للمبنى "بسهلها الممتنع" بآهلية مهنية، وهذه الآهلية تولد الاجتهاد، الاجتهاد الذي بمقدوره ان يدهشنا بمنجزه الابداعي، ويشعرنا بفرادة التصميم، ويقنعنا  بالاهمية الفنية التى تستحقها، بكونها صيغة من صيغ المتن الابداعي العراقي المرموق وقتذاك، الصيغة التى شكلتها قرارات تصميمية خاصة، اتكأت اساساً على مرجعية حداثية، نشد مصمماها ان تكون تأويلاتهما الشخصية لها مفعمة بالحس المكاني ومراعية لخصوصية سيرورات المجتمع الذي نشأت به تلك العمارة. انها من دون شك "رونشان" العمارة العراقية الحديثة، بمعنى انها تمثيل لمرحلة مفصلية في مسار العمارة المحلية ، وهي بهذا المعنى  توازي اهمية مبنى مصلى "رونشان" Ronchamp الكربوزيوي، الذي عُدّ من قبل كثر اهم انجاز عمارة الحداثة وفاصلها البليغ، والذي عنده تحديدا تشعب المسار المعماري لينهى في الاخير مرحلة الحداثة ويفتح ابواب "مابعد الحداثة " على مصراعيها!.
إن قراءة مهنية متأنية لعمارة مشغل الهلال الاحمر، تستعين بآليات النقد الحداثي، قد توفر وجهات نظر خاصة، معنية في إضاءة عمارة المبنى برؤى جديدة، تتيح لنا تقييم اهمية الحدث التصميمي المجترح. فالنظرة العادية، العابرة والسطحية للمبنى لا يمكنها ان تقول لنا شيئا، مثلما ليس بوسعها ان تدرك ما تكتنزه عمارة المبنى من افكار قابلة للتأويل، يمكن لها ان تؤسس لقرارات ابداعية. وبحسب رؤية "جاك دريدا"،  فان <تأويل " النص" يستدعي الاصغاء الى ما يهيئه ذلك النص للقول لما بعده، بحيث تستدعي تلك الممارسة وجوب حضور القارئ المتعدد لاكمال عملية انتاج المعنى، المعنى المرجأ والمتعدد ( وبطبيعة الحال ... المتشظي) من متن " النص" > (راستي عمر الخفاف، التفكيكية في العمارة، بغداد، 1996). وهذا يعني ، فيما يعنيه، بانه مثلما يمكن ان تمنح عمارة المشغل افكاراً مؤولة، فان تلك العمارة، يمكن ان تكون هي ذاتها، نتيجة تأويل وقراءة آخرى لمرجعية سابقة، افضت الى صيغة "الفورم" التصميمي الذي نراه امامنا. ومانشاهده من مقاربة مميزة وفريدة في "رسم" مفردات واجهة الطابق الاول في مبنى المشغل، المتمثل في وجود نوافذ شريطية، تحميها تطليعات خرسانية  من اعلاها ومن اسفلها، تتيح لنا رؤية التناص مرة اخرى، وهو يعمل ابداعياً، مذكراً ايانا بمعالجات شبيه في مبنى آخر، عدّ ظهوره من الاحداث المعمارية المؤثرة في الممارسة الحداثية. والذي في حينها، اُستقبلت معالجاته الفنية بالحفاوة وحظيت بالقبول، نظراً لجدة الطرح التصميمي وشكله غير المسبوق، واعني بذلك "مبنى موظفي وزارة المالية" (1930) في بولفار "نوفينسكي"  في موسكو / روسيا، المعمار: غينزبورغ؛ الذي رفع الحداثيون من شأن عمارته عالياً واحتفوا بلغته التصميمية الفريدة ايما احتفاء. وما فتئت تعد كلمات "كوربوزيه" المشيده  به، دليلا مقنعا على قيمته المعمارية.
ولئن اشرنا الى هذا المبنى كمرجعية تصميمية لعمارة المشغل، فما هذا الا لان ثمة تماثل كبير  وجدناه في واجهتي كلا المبنيين. وبما أن مبنى موسكو، شغل مساحة اهتمام واسعة في عمارة الثلاثينات، فان عمارته كانت موضوعا لدراسات وبحث في بعض المؤسسات الاكاديمية، والتى قدرّ لمعماري المشغل ان يدرسا في احداها. بيد أن مسعى تقصي مرجعيات التصميم سيكون مجزيأً  نقدياً عندما يحيل ذلك المسعى الى امكانية تعدد التأويل التى تكتنزها عمارة المشغل، والمفضية بالتالي الى تعدد القراءات. نحن اذن، امام واقعة  حضور "القارئ" المتعدد لاكمال عملية انتاج "المعنى المرجأ"، وفق تعبير دريدا، في عمارة مشغل الهلال الاحمر. اذ سرعان ما وجد المعماريون العراقييون انفسهم مبهورين بالصيغة والمفردات التى ابانتها تلك العمارة، متطلعين لتوظيف كل ذلك في منجزهم الخاص. ويمكن، في هذا السياق، ذكر عمارة "ثانوية الحريري"  ببغداد (1953)، المعمار: جعفر علاوي، <والتى اعتبرها فخر عمارة المدارس العراقية>، كتنويع لقراءة مهنية في عمارة المشغل. كما ان اسلوب معالجة الواجهة الغربية لمدرسة "ثانوية الصويرة للبنات"(1961)، المعمار: قحطان عوني، تشير الى مقاربة انتاج "المعنى المرجأ" في تلك العمارة اياها. (سبق ، ان عزوّنا، في دراسة لنا عن عمارة قحطان عوني، مرجعية معالجات ثانوية الصويرة الى المبنى الموسكوفي؛ لكن احد المهتمين شكك بالرأي الذي ذهبنا اليه في هذا المجال لمعرفته، التى نثق بها، مناخات  الممارسة المعمارية حينذاك. ونرى، الان، احتمالية اعتماد عوني على عمارة المشغل، هي الاقرب الى الواقع،  منه الى مبنى موسكو). <انظر: خالد السلطاني، عمارة قحطان عوني: المفهوم الخاص للمكان، تموز 2007>.

في 1954-57 صمما الين ونزار الايوبي "مدرسة الامريكان" للبنات في بغداد (اعدادية المنصور للبنات حالياً). كان حدث التصميم ومن ثم التنفيذ يحمل سمات التجديد، في عمارة ابنية  المدارس، ويكرّس قيم الحداثة في عموم الممارسة المعمارية المحلية ايضاً. فالتكوين المنتقى للمدرسة يبتعد كثيراً عن النمط الذي اضحى مألوقاً (ورتيباً ايضاً) في تصاميم المدارس العراقية، النمط المعتمد على "شريط" طويل لجناح كتلة الصفوف، الذي يتصل مع جناح آخر اقصر منه بالعادة، مخصص للادارة وغرف المعلمين والمختبرات. وينشأ في مكان اتصال الجناحين كتلة هي بمثابة بهو المدرسة وموقع الباب الرئيس؛ وعادة ما تكون هذه الكتلة اعلى من ارتفاع الجناحين المجاورين، وهي التى تمنح التكوين تميزه الشكلي والكتلوي. وقد انتشر هذا "النمط" التصميمي في غالبية مباني المدارس بمختلف مناطق البلاد، وكمن الاختلاف في نوعية ومهارة العمل البنائي او في تبديل المواد الانشائية. 
يتضمن المنهاج التصميمي لمدرسة الامريكان، استحداث فضاءات ذات وظائف متنوعة، تشمل بالطبع الاحياز المعتادة في مباني المدارس كالصفوف والادارة والمختبرات، لكنها في مدرسة الامريكان،أُضيف اليها قاعة رئيسية ومقصف للطلبة مع مطبخ. كما تضمن المنهاج ايضا تشييد "نزل للمعلمين" ودار لمدير المدرسة. ومن خلال ملاحظة تنوع الفضاءات المصممة، يمكن للمرء ان يستشف جديد الفعاليات التى ادخلت في مكونات المدرسة.
ثمة فصل فضائي/ وظيفي وتجزئة كتلوية تلاحظ بوضوح في القرار التصميمي الخاص  بمكونات المدرسة. ويشي  قرار الفصل الوظيفي هنا بتقاليد العمارة الوظيفية، التى نعتقد بان مصميّ المدرسة اتخذاها كمرجعية تصميمية لهما، تماشيا مع ايمانهما بنهج الحداثة التى مثلت،  وقتها، المقاربة التصميمة اياها، لحظتها الابداعية الآنية؛  مبادئها التى كانت رائجة جدا،َ ومقبولة جداً في مدرسة  هارفارد: المنبع الرئيس للمعرفة المعمارية لمصمميّ المدرسة. كما يمكن ان نلاحظ ايضاً في الحل التصميمي للمدرسة، تبعات مبدأ تنطيق الكتل هيآتياً وفقاً لخصوصية الوظيفة. فبلوك الصفوف يتحدد من طبيعة شكله البسيط، ومن الايقاع المنتظم لفتحات نوافذه الدالة على تكرار المفردة التصميمية، في حين يمكن التعرف على موقع قاعة المدرسة بسهولة من فورمها المميز ذي المقياس الكبير. في التكوين المختار للمدرسة هناك اهتمام عال في حضور منطق الملائمة المعمارية والآهلية التركبية؛ ويتسم الشكل العام للمبنى على بساطة متناهية، كما ينطوي على وضوح الحركة وسهولة الوصول الى جميع مكونات المدرسة، فضلا على حضورالاشكال المعمارية الحداثية فيه. يلاحظ ايضا نزوع المصممّين الى توظيف التزيين لاثراء لغة عمارة المدرسة، اذ يستعين المصممان بتأثيرات هذا العنصر، ويستخدماه برشاقة وبتقنين واضحين في الاعمال الطابوقية التى تحيل اشكالها الى حمولات رمزية تكرّس ثقافة المكان، وهي اضافة جديدة لجهة الاهتمام الجاد باهمية حضور العناصر البنائية الموروثة في الفعالية التصميمية. وباختصار فان التكوين العام للمدرسة يحرص على ان يكون توزيع الكتل واختيار اشكالها، متسقاً تماما مع مبادئ إطروحة العمارة الوظيفية، مضافاً اليها بعض الاجتهادات التصميمية التى ارتأى المعماريان ان يكون حضورها جزءاً من منظومة ادراك الحداثة المعمارية، ادراكاً يعي خصوصية المكان ويعكس المقدرة الذاتية للتأويل. وفي هذا السياق يضع المصممان جملة من الاعتبارات التى تم مراعاتها في التصميم ويحددها بما يلي:
* بتعين ان تكون اساليب تنفيذ الحماية الخرسانية المعمولة بالخرسانة رقيقة قدر الامكان، بغية تسهيل فقدان سريع للحرارة، مع استخدام منظومة الفجوة الهوائية في التراكيب الانشائية.
* السعي نحو توظيف الاعمال التزينية الآجرية في مبنى المدرسة.
* الحاجة الى وجود الفضاءات الخارجية المشمسة باشعة الشتاء المائلة والمظلة صيفاً، عندما تكون اشعة الشمس عمودية. مع اكبر قدر ممكن من فعالية التهوية.
* وجوب مراعاة  جهة الجنوب في التوجيه، والافضل جنوب- جنوب الشرق.
* الاهتمام  بقيمة عنصر "الفناء" الذي امتحن كتقليد تاريخي راسخ في عمارة الشرق الاوسط.   (AD. March, 1957)
ومن تحديد تلك الاعتبارات التصميمية سعا المصممان لان تكون لغة عمارة المدرسة حداثية من جانب، ومنتمية الى خصوصية المكان من جانب آخر. وهو مسعى اجتهادي نراه جديدا ورائداً في الممارسة المعمارية المحلية. انه بالتأكيد تنويع على ثيمة التيار الوظيفي، ومحاولة توطينه في اجواء تمتلك خصائصها الثقافية والمناخية المميّزة.  ولئن تجاوزت الذائقة الفنية الآن، جماليات المقاربة الوظيفية، وتأثيراتها على العمارة المصممة، فان ذلك لا يعني البتة التقليل من إهمية القرار الوظيفي الصائغ لتكوين المدرسة وقتذاك؛ اذ علينا ان نتذكر باننا نتكلم عن فترة الخمسينات، وعن موقع في بغداد، بمعنى آخر يتعين الاخذ في نظر الاعتبار اشتراطات الزمان والمكان.
ويبقى تطلع المعمارييّن "الين ونزار الايوبي"  نحو الحداثة وتطويعها، يمثل السمة البارزة في المقاربة التصميمية الخاصة بهما. ولعل اشتغال "الين" على موضوعة "الدارة السكنية"، الموضوعة المحببة الى قلب المعماريين العراقيين، ومسعاها لايجاد فورم حداثي للبيت البغدادي، هي من الاشتغالات التى نراها  جديدة  وهامة في آن. ففي "دارتهم" الخاصة في حيّ الوزيرية ببغداد، والمشيدة في الخمسينات، ثمة توق مفعم بمناخ  الحداثة، يسري في صياغة الحلول التكوينية لاحياز الدارة. تولي المصممة اهتماما عميقا لفضاء غرفة المعيشة، التى يضحى "بلوكها"  البنائي بمثابة الكتلة المميّزة في التكوين.  اذ  جاءت معالجتها بشكل كتلة منفصلة ومتعامدة مع كتلة المبنى الرئيسة، وممتدة باتجاه الحديقة الخلفية. وقد شكلت بوضعيتها تلك مع جانب من كتلة المبنى، طارمة مكشوفة تطل على الحديقة وتستخدم عادة للجلوس اوقات الصباحات والعصاري. واذ تقرر حصر فضاء المعيشة بجدارين جانبيين مصمتين تماما، فقد تم الاستعاضة عن "الجدار" المطل على الحديقة، بفتحة نافذة مزججة من الاعلى وحتى الاسفل، تتيح للجالس في غرفة المعيشة التمتع بمنظر الحديقة التى ُرتبّ نظامها باسلوب مميز.  اتسمت معالجة "الانترير" الداخلي لغرفة المعيشة على حضور كثيف لمفاهيم الحداثة، تلك المفاهيم المستدعية اجواء المناخات "الباسفيكية"  ومفرداتها الشائعة وقتذاك؛ والمتمثلة بالاثاث الخفيف والجدران الملونة، والانارة المركزة، والكراسي القماشية ذات الهياكل المعدنية الرقيقة، وطبعا الاضاءة الطبيعية التى توفرها فتحات النوافذ الزجاجية الواسعة، المازجة طلاقة الفضاء الخارجي الفسيح مع احياز الفضاء الداخلي المحصور.  جدير بالاشارة ان المصممة تطلعت لان يكون مجرى ساقية الماء الخارجية ذات امتدادات  داخل حيز غرفة المعيشة، زيادة في الربط بين الخارج والداخل. (بيد ان هذه الفكرة الجريئة والرائدة لم يكتب لها النجاح والاستمرارية، بسبب كثرة "تقافز" ضفادع حدائق الوزيرية وتشاركها المفاجئ مع حوارات ضيفات    الدارة وضيوفها المذهولين!؛ ما حدا ،مؤخرا، الى ردم  الساقية الداخلية، والاكتفاء بابقاء مجراها التزييني في الخارج فقط).  واذ نحن بصدد الكلام عن جديد العمارة السكنية التى ارتهنت بمنجز المعمارييّن الين ونزار الايوبي، فلابد من ان نذكر عمارة دارة الدكتور خالد القصاب، الفنان العراقي الرائد في المنصور ببغداد.؛ والتى صممتها الين في بداية السبعينات، بتصميم تعود به مرة اخرى لاكتشاف صياغات جديدة تربط احياز البيت السكني المنفرد باسلوب جديد يأخذ في نظر الاعتبار التطورات التى شهدها الخطاب المعماري والتقدم الحاصل في نوعية المواد الانشائية والاساليب التركيبية المعاصرة. 

عندما يجول المرء ناظريه في مسار منجز العمارة العراقية الحديثة، لابد وان يتوقف من دون شك، عند قيمة الاضافات التصميمية المعبرة  التى اتسم  بها النهج التصميمي للمعماريين الرائدين الين ونزار الايوبي؛ تلك الاضافات التى اسهمت في تعجيل حراك العمارة العراقية في اتجاه التجديد والحداثة، وجعلت منه منجزا مميزا ومساهما بجد في تأسيس الحداثة المعمارية في عموم المنطقة. واذ عبر ،ولابأس من التذكير مرة اخرى، انتاجهما التصميمي، عن مرحلة مفصلية في تاريخ  عمارة الحداثة بالعراق ، فما هذا الا  لان منتجهما التصميمي كان دائما مسكونا بالتجديد والريادة اللتين اهلتهما لتبوؤ  تلك المنزلة المرموقة والمشهود لها في منجز عمارة الحداثة بالعراق. □□ 


د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون