ديمقراطية... ولا ديمقراطيين

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
02/12/2009 06:00 AM
GMT



هل يمكن بناء ديمقراطية حقيقية من دون أشخاص يؤمنون بالديمقراطية؟  قد لا يبدو هذا السؤال إشكاليا وحسب، وإنما سفسطائيا في الحالة العراقية، خاصة ونحن نعرف أن غالبية الأحزاب والكيانات السياسية التي شغلت واجهة المشهد السياسي في عراق ما بعد 2003 ،لم تكن تؤمن بالديمقراطية أصلا، فبعضها تعدها كفرا ورجسا من عمل الشيطان لا بد من تجنبه! (جاء في أحد أدبيات حزب الدعوة الإسلامية أن الديمقراطية "مصطلح سياسي يحمل فكراً ومضموناً ومدلولاً يتعارض مع فكر الإسلام وروحه يجب رفضه وعدم استعماله")، والبعض الآخر يعمد إلى استخدام مصطلح الديمقراطية في خطابه الأيديولوجي والسياسي من خلال تمثله الخاص لمفهوم الديمقراطية (لم يكن شعار الديمقراطية الذي رفع عاليا بعد 1958 يستند إلا إلى تمثلات الحزب الشيوعي للديمقراطية، التي أنتجت تمجيد الزعيم الأوحد، والتنظير لاحتكار السلطة، وسياسة الإقصاء والتطهير بلا رحمة وسحق المتآمرين والرجعيين بسلاح المقاومة الشعبية و"شد البرغي حتى آخر سن لها"، وهذه المصطلحات مقتبسة من بيانات الحزب الشيوعي حينها)، وأخرى تعمد إلى استخدام المصطلح من اجل البروباغاندا السياسية من دون أي إيمان حقيقي (كما هي البيشمركة الحزبية والأسايج والعائلة وعبادة الفرد، عماد الديمقراطية عند الحزبين الوطني والإتحاد الكردستانيين).
لم تكن الديمقراطية المفترضة في العراق، والتي كرست من خلال الالتزام القسري بالنموذج الذي فرضه الأمريكيون، سوى شكل لا يحيل إلى أي محتوى حقيقي، حيث لا يتم النظر إلى "الديمقراطية" إلا بوصفها "آلية" لا تحيل على أي مفهوم. حتى مفهوم تداول السلطة تم تأويله عراقيا ليكون النص الدستوري ضامنا لاحتكار "جماعة" محددة للسلطة؛ فالمادة 76/أولا تنص على أن "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء"، وليس الكتلة الفائزة بالانتخابات، وهذا يعني في ظل الانقسام السياسي والمجتمعي القائم في العراق أن الأكثرية الديمغرافية، وليس السياسية، ستحتكر السلطة، وان مفهوم "تداول السلطة" قد تم تفريغه من محتواه بالكامل، وعليه لن يحيل مصطلح الديمقراطية في العراق، في ظل ما عشناه من الانتهاكات المنهجية للدستور، والقانون، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وفي ظل احتكار السلطة المنهجي أيضا، إلا على الفعل الانتخابي ولا شيء سواه.
 لم تكن الأحزاب والنخب السياسية العراقية حتى لحظة نيسان 2003 ، ذات تاريخ حقيقي مرتبط بمسألة الديمقراطية، وإذا كانت لأسباب براغماتية، بحت قد حاولت التأقلم مع الشروط الأمريكية على مستوى الدخول في اللعبة السياسية، فإنها على مستوى بناها التنظيمية ومقولاتها الإيديولوجي، لا تزال تدور في "منطقة رمادية خالصة" فيما يتعلق بالديمقراطية.
على المستوى التنظيمي نجد غيابا للديمقراطية في بنية هذه الأحزاب والكيانات السياسية، وعلى رأسها فكرة تداول السلطة، ومشاركة القواعد، هذا في حال وجودها أصلا، في صنع القرار. بل إننا نجد عدم الإيمان الحقيقي بالمقولات الديمقراطية، حاضرا في أعلى المستويات، وهو ما عكسته الانشقاقات داخل الأحزاب بعد كل عملية إعادة توزيع للسلطات داخل المكاتب السياسية للأحزاب عبر الانتخابات. فقد انشق الدكتور إبراهيم الجعفري عن حزب الدعوة  عقب قيام الحزب بتعديل النظام الداخلي، واستحداث منصب الأمين العام للحزب الذي فاز به السيد نوري المالكي. وانشق السيد طارق الهاشمي عن الحزب الإسلامي بعد المؤتمر الذي انتخب فيه الدكتور أسامة التكريتي أمينا عاما جديدا للحزب. وما عكسته سياسية التوريث داخل بعض الكيانات السياسية التي تعتمد على البنى العائلية ذات الرمزية الدينية، كما هو الحال مع المجلس الأعلى الإسلامي (محمد باقر الحكيم، ثم الأخ عبد العزيز الحكيم، ثم الابن عمار الحكيم) أو الحزب الديمقراطي الكردستاني (مصطفى البارزاني، الابن مسعود البارزاني)، بل شمل التوريث أحزابا ليبرالية (نصير الجادرحي ورث زعامة الحزب الوطني الديمقراطي عن أبيه كامل الجادرجي على الرغم من انه لم يكن منتميا إلى الحزب أصلا). وما عكسته القيادات الواحدية والدائمية للزعامات لبعض الأحزاب التاريخية (جلال الطالباني أمين عام الاتحاد الكردستاني منذ تأسيسه العام 1975 حتى اليوم، وظل عزيز محمد سكرتيرا للحزب الشيوعي على مدى 30 عاما (1963- 1993)، ويبدو أن خليفته حميد مجيد موسى الذي تولى منصبه عام 1993 يسير على الدرب نفسه، وما يزال عبد الإله النصراوي زعيما للحركة الاشتراكية العربية منذ عقود). ومن الواضح أن هذه الظاهرة صارت ظاهرة عامة في الأحزاب/الكيانات السياسية اللاحقة، والتي صارت تعرف باسم الزعيم المؤسس لها، أو بالأحرى المالك الرسمي لها ( حركة الوفاق باسم أياد علاوي منذ العام 1991، المؤتمر الوطني العراقي باسم أحمد الجلبي منذ العام 1992). أما أحزاب وكيانات ما بعد نيسان 2003 ، فلا تعدو أن تكون تنظيمات ذات بنية دينية تتعارض، بالتعريف، مع مفهوم الديمقراطية (التيار الصدري وحزب الفضيلة)، أو تنظيمات تتمركز حول شخصيات أو روابط طائفية أو عشائرية، وهي بطبيعتها براغماتية ودائمة التحول لأنها لا تقوم على أسس فكرية أو أيديولوجية.
منذ حالة الجزائر التي شهدت انقلاب العسكر على الديمقراطية بمباركة دولية، صارت مقولة أن الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية، وأنهم يستخدمون الآليات الديمقراطية للوصول إلى السلطة من اجل الانقضاض عليها لاحقا، حكما قاطعا، وجاء فوز حماس وما حدث في غزة بمثابة تأكيد أن الحكم السابق غير قابل للاستئناف. ولكن المشكلة في العراق أننا لم نكن أمام هيمنة للأحزاب الإسلامية بمباركة امريكية ودولية، منذ تجربة مجلس الحكم، وإنما أمام أحزاب لببرالية وديمقراطية مفترضة تقف ليبراليتها وديمقراطيتها عند حدود أسمائها فقط ولا تتجاوزه، إلى بنية أو ممارسة ديمقراطية حقيقية. فهل يمكن في ظل هكذا أحزاب التفكير بإمكانية قيام ديمقراطية حقيقية؟