فؤاد التكرلي: جذوة الأدب المضطرمة |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات من الملحوظ في واقعنا الأدبي، غياب الدراسات النقدية عن الكثير من أعمال الأديب الكبير "فؤاد التكرلي" ( 1927 – 2008 )، عن هذا المشروع الأدبي الذي يتوجب إخضاعه للدراسة والتأمل بهدف الكشف عن أبعاده وبنياته، وعن تلك الكتابة التي تستحق أعمق التحليل، حيث تثير من الأسئلة الفنية بقدر ما تثير من أسئلة الفكر والحياة والوجود، فقد خلف الأديب "فؤاد التكرلي" من روايات وقصص وكتابات مسرحية، ما هو بحاجة إلى اكتشاف ما تحتويه هذه الأعمال من قيم فنية وجمالية وأسلوبية، وما تنطوي عليه من قيم فكرية ونفسية واجتماعية، وكذلك الوقوف على الخصائص التعبيرية للغة، واكتشاف القيم الخاصة في كل أثر أدبي بذاته، وكشف المغلق من مضامينه . يسير القطار، وتجلس هي حانقة على الدنيا كلها وعلى البشر أجمعين، على الكون بأكمله وعلى كل شيء، لا تريد الحياة، تتمنى لو تموت وترتاح من كل شيء، وكانت وسط كل هذا اليأس وتلك المرارة، تهمهم وهي تتطلع عبر نافذة القطار إلى المناظر التي تركض أمام نظرها وإلى أنوار بغداد البعيدة " إذا حبيت من دنياتي شيء، لازم أحب بغداد " . (2) ترددها بينما هي غارقة في حزنها الموجع، كما عيونها الخضر المبللة بالدموع، هي الفتاة التي كان عليها أن تعيش في خضوع مطلق وتجرد كامل من كل عاطفة إلا الكره، فكانت تكره كل البشر رجالاً ونساء، هي تلك الطفلة التي كانت عجمية الأصل، جلبها أبوها من كرمنشاه إلى خانقين، عملت كخادمة عند بعضهم، ثم أخذها أبوها مرة أخرى إلى بغداد ومنها إلى كربلاء، ليتركها في غرفة صاحب له، ويمضي إلى حيث لم تره قط، ويتزوجها اغتصاباً هذا الأعور الأصلع الطويل القامة مفتول العضل، " بعد ذلك تزوجها كثيرون، كانت تباع وتشرى، وكانت تراقب الأمر كأنها لا تعلم لها دخلاً في الموضوع ’مصوني، أكلوا لحم أفادي’ " . (3) صارت عاهرة بعد أن تلقت عقاباً شديداً من القوادة، حيث رفضت الاتصال بأحدهم، فكادت تموت جوعاً، منع عنها الأكل والشرب ثلاثة أيام، وحجزت في غرفة جرداء لا غطاء فيها ولا سرير في شتاء قارس البرد، بعدها عرفت ما هي الحياة وكيف يجب أن تعيش، وقد حرص الأديب "فؤاد التكرلي" على تصوير رحلة حياة تلك الفتاة، من خلال السرد المكثف لكل ما جرى، أما ما سيكون فيظل مجهولاً مع نهاية قصة تلك الفتاة الجالسة في القطار المنطلق بها نحو مصيرها . منذ القصة الأولى، كان الأديب "فؤاد التكرلي" يبحث عن خطواته وعن نهجه وتقنياته، كان يجهد كي يتجاوز الآخرين ويتجاوز نفسه، يسعى للوصول إلى حقائق الخلق الأدبي الصعبة، وفي هذا يقول : " الأديب المجدد والأصيل، لا يتلقى دروساً من أحد، ذلك أن أحداً لا يعرف بالضبط ما يريد هذا الأديب وما يحلم بتحقيقه كي يرشده إليه " . (4) كانت قصة "العيون الخضر" بداية لمسار قصصي طويل امتد عبر عقود، فلم يتوقف الأديب "فؤاد التكرلي" عن كتابة القصة ليكتب الرواية فقط كما فعل البعض، ولم تكن القصة مجرد مرحلة من حياته الإبداعية، لذا فقد ترك لنا مجموعة من القصص، تعددت موضوعاتها فمنها القصص التي تدور في بغداد تستعرض شخوصاً مختلفة، فنقرأ عن الأعرابي وعن الكردي والإيراني، كما في قصة "موعد النار" على سبيل المثال، تلك الرحلة الرهيبة إلى الكاظمية حيث يوجد ضريح الإمام كاظم والمنائر الذهبية اللامعة، والتي يقوم بها "عبد الرضا" القادم من كرمنشاه ورحلة عذاب هذا الإيراني وسط أجواء الرعب والوحشة والموت، ومنها قصص الاغتراب والضياع الإنساني، كقصة "ذاك النداء" مثلاً، وهذا العراقي الذي يعيش في فرنسا منذ سنوات لا يفعل شيئاً سوى الانتظار، يعيش على هامش الزمن يتحاشى المكان، ويعيش على هامش المكان يتحاشى الزمن، كما اختلفت التقنيات من قصة إلى أخرى، مثل قصة "غيمات" على سبيل المثال، تلك القصة المكتوبة عام 1998 والتي نقرأها لمرات ثلاث، فتختلف الدلالة في كل مرة، فهي قصة كتبت بثلاث كتابات متشابهة/مختلفة فتبدو فعلاً كغيمات ثلاث، فلا تتكرر الغيمة متخذة نفس الشكل أبداً . وبشكل عام يجد القارئ أن قصص الأديب "فؤاد التكرلي" تحمل الكثير من الألم، تدور وسط أجواء تعمها الكآبة المظلمة، الكل يعيش في ضياع كبير، يعانون ما يتخلل هذا الضياع من شعور بالحيرة وبالقلق النفسي، هكذا هي جميع قصصه، مؤثرة وموحية بشكل بالغ، موصلة بشكل جيد لتفاصيل واقع جهم، نستشعر فداحة تفاصيله من خلال فنية الكتابة، فحينما ينقل إلينا هذا الواقع بصورة فنية متقنة يكون له أكبر الأثر على المتلقي حيث أنه " يمتلك المقدرة على أن يجعلنا نحس بالمصائب كافة والآلام جميعاً، وعلى أن نستحضر أمام أبصارنا الشر والجريمة، وبفضل الفن تتاح لنا القدرة على أن نكون الشهود المحزونين على الفظائع كافة، وعلى أن نحس بالأهوال والمخاوف جميعاً وعلى أن تهتز أوتارنا بالانفعالات العنيفة قاطبة "(5) وقد تميز أدب "فؤاد التكرلي" سواء من حيث فكرته ومناخه العام، أو من حيث جمالياته وتقنياته الأسلوبية، وتميز الكاتب بحساسية أدبية رفيعة وبالتزام إنساني عميق، ولم يتوقف بجرأته الحكائية عن تناول قضايا الوطن، لا من خلال طروحات سياسية أو أيديولوجية فجة ومباشرة، بل من خلال الحياة العادية، وما يكتنفها من طغيان واستبداد وموت مجاني، وما أدى إليه كل هذا من تمزقات رهيبة تصيب روح الجماعة والفرد على حد سواء في وطن ممزق هو الآخر، وقد منح الكاتب كل دقائق الوطن في زخمها وتنوعها وتداخلها اهتمامه الكامل، ولم يتوقف عن مراقبة الأحداث والمكابدات على هذا المسرح الرهيب . عندما يقوم من هو جاهل بخصوصيات إنتاج الأديب "فؤاد التكرلي" بقراءة أحد أعماله، ربما يحيله على الفور إلى المدرسة الواقعية، والحق أنه لا يمكن لنا أن نصفه بالكاتب الواقعي، وألا نخرج عن هذا الإطار في قراءته أو في دراسته، والحق أيضاً أنه من غير الممكن ألا تحيلنا قراءة أدبه إلى الواقع، وتحثنا على تلمس حقيقة علاقته بهذا الواقع، والوقوف على انعكاسات هذا الواقع على ما يكتب، ويمكننا القول بأن الأديب "فؤاد التكرلي" ليس كاتباً واقعياً بالمعنى المحدود، على الرغم من أنه قد أنتج أعمالاً مستمدة من صميم الواقع المعيش، وأن هذا الواقع يمثل له معيناً يمتح منه مادته الأولية . هكذا لعب الواقع العراقي أحد أكبر الأدوار في عملية التشكيل والتأثير في تبلور الإنتاج الأدبي للأديب "فؤاد التكرلي"، وهو حين يكتب، يكتب عن واقع يعرفه جيداً، ولديه معرفة حقيقية بتفاصيل هذا الواقع، ويلمس القارئ الاهتمام بالتفصيلات والجزئيات المهملة، وأن تلك التفصيلات الصغيرة هي التي تشكل القضايا الكبيرة لدى الكاتب، وأنه لا يتناول تلك القضايا من مظاهرها بل يغوص إلى أعماقها، إلى الحياة الكابوسية وشواهد القهر الاجتماعي والانشراخات النفسية . يتناول هموم الوطن والإنسان من دون أن نشعر أنه يقوم بتسييس ما للأدب، كذلك لا نشعر أبداً بأننا نقرأ أفكاراً أو نقرأ عن واقعاً لا يمسنا، وعلى العكس تماماً تحرك فينا كتاباته مشاعر وأحاسيس وانفعالات كثيرة " والحال أن الفن يتوصل إلى ذلك التحريك لأوتار الحساسية، لا بواسطة تجارب واقعية، وإنما بواسطة ظاهرها فحسب، بإحلاله، اعتماداً على ضرب من الوهم، وإمكانية خلق هذا الوهم عن طريق الظاهر تستند إلى ضرورة مرور كل واقع لدى الإنسان قبل توصله إلى مس أوتار النفس والإرادة، بدائرة وسيطة، دائرة الحدس والتصور، وهذا صحيح سواء أتعلق الأمر بالتأثير المباشر للواقع بما هو كذلك أم بتظاهر هذا الواقع على نحو غير مباشر، بواسطة إشارات وصور وتصورات لها مضمون واقعي، وهدفها التعبير عن هذا المضمون " . (6) هكذا يظل سؤال الواقعية يرافق القارئ طوال مسيرة قراءته لأدب "فؤاد التكرلي" حاثاً إياه على التعمق في التأويل، ونرى رؤيا تنفذ إلى أعماق النفس فيما هي متصلة بالواقع الخارجي، فالكاتب لا ينفصل أبداً عن عصب الواقع ولا عن قضايا الوطن والحياة، ولا يغلق على نفسه أبواب الذات المحدودة . شهد مسار الأديب "فؤاد التكرلي" إنتاجاً متوازياً في الكم والنوع، ما بين القصة والرواية والمسرحية، وعن الكتابة المسرحية والتي تسمى في بعض الأحيان بالحواريات، نجد أن الأديب "فؤاد التكرلي" يفضل ألا تسمى كتاباته المسرحية بالمسرحيات بالمعنى الفعلي للكلمة، حيث يقول في تعريفه على غلاف كتاب المسرحيات الذي يضم تلك الأعمال ضمن سلسلة أعماله الكاملة : " هذه ليست مسرحيات بالمعنى الحرفي والمتفق عليه للكلمة، إنها بالأحرى محاولات في الحوار، استغلت بعض قابليات المسرح لتقديم الواقع منظوراً إليه من زاوية نظر مختلفة وغير مألوفة، إن فيها بحثاً مخلصاً عن الحقائق عبر طرائق ملتوية، ظهرت أحياناً، وكأنها تضمن الوصول إلى الهدف، إلا أنها، في أغلب الأحيان، تبدت غير جديرة بذلك وأشبه بمن ضيع هدفه قبل الخطوة الأخيرة " . (7) لكن هذا لا يمنع حقيقة أننا حين نقرأ تلك النصوص، لن نعدم نصوصاً مسرحية مكتملة قابلة للإعداد المسرحي، حيث أنها لم تبتعد كثيراً عن قواعد الكتابة المسرحية والالتزام بدقة الوصف وبالحوار، كما أننا سنطالع كتابة مسرحية عميقة تبلور أسئلتها الخاصة، وهي كتابة مسؤولة ناتجة عن أفكاره المنعكسة عن حياة الإنسان في مجتمع ما أو أمة ما أو في الحياة بوجه عام، عن ذلك الصراع الوجودي في كينونة الإنسان . كما نرى في تلك الكتابة المسرحية تلك الرغبة في التجديد في كتابة النص المسرحي، ونسوق مثالاً من مسرحية ( أوديب الملك السعيد / ملهاة مأسوية في منظر واحد ) المكتوبة في بغداد 1987، في هذا العمل نطالع هذا النص السردي الحواري الذي بالطبع له جذوره الأصلية لكنه في الوقت نفسه يحمل قدراً كبيراً من المنطق والتأمل الخاص، ولعل البعد الأهم في هذا كله، هو أننا لا نقرأ مسرحية تستلهم التراث، بل نجد أنفسنا بصدد تراث يستلهم عبثية الواقع، وتدور تلك المسرحية في أجواء تحيلنا إلى الأسطورة بقدر ما تحيلنا إلى الواقع، كما تثير الكثير من أسئلة الواقع المرئي والحقيقة المخفاة . فمن خلال أسطورة "سوفوكليس" الإغريقية، ومغامرة "أوديب" الوجودية، ولعنته وصراعه مع الأقدار التي كتبت له ما فعله بأبيه وبأمه، تدور المسرحية في زمن حدده الكاتب بقدر ما جعله مموهاً عاماً مفتوحاً، حين أخبرنا أن الزمن هو الوقت الحاضر، أما المكان فهو قاعة الاستقبال الكبرى في قصر الملك في طيبة، ولا يخرج الأديب "فؤاد التكرلي" كثيراً عن الواقع الإنساني حتى في لا معقوليته، ويربط في مسرحيته بين التاريخ والواقع، التاريخ مجهول الحقيقة، والواقع المشبع بالفساد والطغيان والقمع والعار واستغلال الأوطان والبشر وكل شيء، وهكذا لم تتخلى كتاباته المسرحية عن الهم الفلسفي، وطرح أسئلة الحياة والضياع والغربة ومشكلة الوجود، وانعدام الحرية والاستقرار السياسي . ومن المسرحيات الرائعة أيضاً، مسرحية "الصخرة"، تلك المسرحية الممتعة في قراءتها، والتي تعتمد الترميز الدلالي المكثف، فهي مسرحية قصيرة إلى حد ما، لذا جاءت مركزة في أفكارها، وكذلك في رسم شخوصها وفي صياغة ذلك الحوار الشيق المليء بالمعاني بين هؤلاء الشخوص، الجيران الجالسون على مصطبة خشبية محشورون ومتضايقون وكلما أبدى أحدهم حركة عنيفة أثناء كلامه سقط على الأرض، وفي مقابل تلك المصطبة الخشبية كرسي مريح يجلس عليه "منتظر رحمة الله" وهو الشخصية الوحيدة التي لا يسبق اسمها كلمة "الجار"، أما بقية الشخصيات فهي الجار الفنان، الجار العالم، الجار المهندس، الجار المخطط، ثم الجار الذي يفهم كل شيء، تتحاور الشخصيات حول تلك الصخرة ذات اللون الرمادي-الأزرق، التي ترقد بشكل وحشي وسط الغرفة تماماً، يستمتع القارئ بذلك الحوار العبثي حول تلك الصخرة ورغبتهم في التخلص منها، تلك المحاورات التي تنتهي إلى لا شيء، بعد أن يعبر كل منهم عن بعض من أفكاره التي ترسم حدود شخصيته بشكل ربما يكون ساخر بعض الشيء، إلا أن تلك الأفكار وتلك المحاورات تشير بوضوح إلى استحالة التواص، واستحالة أن يجتمع هؤلاء على قرار وأن يتمكنوا من التوصل إلى حل . ربما حظيت روايات الأديب "فؤاد التكرلي" بحظ أوفر من الشهرة، أو بمتابعة نقدية أكثر من بقية أعماله الإبداعية الأخرى، والحق أن الأديب "فؤاد التكرلي" قد أنتج عددا من الروايات الهامة التي تضمن له مكاناً متميزاً في ساحة الإبداع الروائي وقد أضافت هذه الأعمال إلى الرواية العربية سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية الفنية، حيث كانت تلك الروايات جامعة للكثير من فكره ومن سماته الأسلوبية، وربما يكون من اليسير عند قراءة رواياته أن نكتشف العناصر الرئيسية المكونة لمساره ولاختياراته الجمالية، وفيها أيضاً نكتشف نموذجاً متقناً لأساليب مختلفة من السرد، فيها تمضي المادة الواقعية متوازية مع المتخيل الروائي، فرواياته وعلى الرغم من موضوعاتها التي تكون واقعية/سياسية/نفسية، إلا أنها تتميز بقدرتها على إثارة اهتمام القارئ الجمالي حيث تأتي مستوفية للشروط الفنية، ولا تفقد خصوصياتها الأدبية . ومن الروايات الاستثنائية في مشروع الأديب "فؤاد التكرلي"، رواية "بصقة في وجه الحياة" المكتوبة ما بين عامي 1948 و 1949، وصدرت طبعتها الأولى عام 2001، وقد كتبت تلك الرواية خلال ظروف عصيبة كان يمر بها الوطن وكذلك الكاتب على المستور الفردي/النفسي، فما بين صدور قرار تقسيم فلسطين وتوقيع معاهدة بورتسموث، ووسط التناقضات الداخلية في بغداد، وانفجار الشعب واندلاع المظاهرات، ورؤية الكاتب للرصاص المنهمر على جموع المتظاهرين العزل، أتت تلك الرواية وكأنها نص عدائي، يحمل الكثير من العداء تجاه المجتمع والإنسان، وكأنها رغبة في تدمير العالم بأكمله . تعد رواية بصقة في وجه الحياة من الكتابات الصادمة القاسية، فهي تواجه القارئ بالكثير من المحرمات والمواقف المرفوضة اجتماعياً، وكذلك ترفضها الطبيعة البشرية، فيجد القارئ في هذا النص ما يشبه تلك الأحلام التي فيها يمارس المرء المحرمات وتؤلمه أشد الألم على الرغم من كونها مجرد أحلام، كما يقدم إلينا هذا النص العديد من الأفكار الفلسفية حول الإنسان والحياة والوجود بشكل عام، من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية، "الأب" معاون الشرطة سابقاً، والمتقاعد حالياً، والذي كان يتقاضى الرشاوى باستمرار أثناء خدمته، يعيش مع زوجته وبناته، ساجدة وصبيحة وفاطمة . هو الأب الساكت دائماً، يلمس ويرى ما يدور في بيته من فساد، يتجاهل مظاهر الثراء في منزله الفاخر الممتلئ بالأثاث الثمين الذي لا يعلم من أين جاء، فهو لا يملك ما يمون نصف منزله، لا يسأل من هؤلاء الرجال الذين يسألون على ابنته فاطمة في التليفون، لا يسأل من أين يرجعن بناته متأخرات ليلاً، لا يطيق الاقتراب من زوجته، ينجذب إلى بناته كأنهن أجنبيات عنه إلا أنه يحب ابنته فاطمة ويغار عليها، ولا يراها كإبنة، بل كفتاة جميلة صغيرة تتفجر شباباً ورغبة في الحياة، ظلت تطارده هذه الأفكار وتولد بداخله رغبة شديدة تجاه فاطمة، وكان طرد هذه الأفكار يكلفه ألماً نفسياً عميقاً، وفي أثناء محاولاته للتخلص من أفكاره تجاه فاطمة، يصدم القارئ بفجاجة نظراته إلى ابنته صبيحة، وعندما نقرأ " فلم تجبني تلك القذرة، تلك البهيمة، وكان سكوتها استسلاما" (8) نستشعر فداحة ما جرى . إلا أن فاطمة ظلت تسيطر عليه كلية، يفكر دائماً في شعرها الأسود الناعم، وجسدها الرشيق الرائع الجمال، ووجهها الأخاذ ذو التقاطيع الدقيقة الجميلة، وكان يشعر بحنق شديد على رجال كثيرين يجهلهم، وفي محاولة أخرى للتخلص من هذه الأفكار، يذهب إلى بيت من بيوت الهوى، ويجلس إلى فتاة إلا أنه يرفض الاتصال بها، يعطيها نقودها ويندفع مسرعاً إلى الخارج، ولا يستطيع التخلص من التفكير في فاطمة، ويصفها بالجوهرة المخفية في الرماد، بالمخلوقة الطيبة الوديعة، بالفتاة العابثة اللعوب، ففاطمة تمثل له الحياة بكل معانيها، واللذة بأدق صورها وأجملها، وحين يجتمع هذا الأب بابنته فاطمة، وبعد أن أخذت تبكي وتولول بعد استسلامها له، تساءل الأب، لماذا أصبحت فاضلة تخشى الله ؟ ! ... ثم أخذ يفكر في أن الحرية لن تكون يوماً غاية فقط، بل هي وسيلة أيضاً لتعيش حياة إنسانية حقة، ثم أخذ يتساءل عن كنه هذه الحرية، " أهي النزول من السطح صباحاً ؟ ... أهي تناولنا لما نشاء من الطعام ؟ ... أهي عمل ما نريد دون حساب للآخرين ؟ ... أهي الذهن المتسع ؟ ... أهي الإيمان العميق بما يصل إليه الفكر ؟ ... أهي الموت ؟ ... " (9) ويتساءل هل هذه الحرية موجودة حقاً، ثم يرى في النهاية أن حريته لم تكن إلى شعوره بفاطمة، وبعد هذه التساؤلات وفي نهاية النص، تقابلنا النهاية الصادمة حين يقوم الأب بخنق فاطمة بيديه قائلاً أنه لم يكن له مفر من ذلك، وذلك في صباح يوم كان ميتاً رغبة فيها، وينتهي النص بجملته التي يقول فيها – عندما يستمع إلى ضجة الشرطة- " لقد أتوا، أظنهم سيقتلونني، حسناً" (10) هكذا يمضي بنا هذا النص من صدمة إلى أخرى، ومن أفكار عميقة إلى أخرى أعمق تمس جوهر أزمة الإنسان، وتدل على معاناة قاتلة ورغبة عميقة في رد الضربة نحو الحياة بعنف يساوي ما تمارسه من عنف ضدنا، نص صادم وصفه الأديب "فؤاد التكرلي" بأنه نص ملعون غير مقدس، وهو النص الوحيد الذي خصه الكاتب بمقدمة تسبقه، وفي تلك المقدمة التي تحمل عنوان "مقدمة لنص ملعون" يقول الكاتب : " بصقة في وجه الحياة، ثمرة فجة قطفت قبل أوانها، ويجب أن تؤخذ على هذا الاعتبار، لقد كانت لي عملاً من أعمال إعادة التوازن الشخصي، وترميم ما تخرب من ذاتي، بسبب ظروف أحاطتني، ووجهت لذاتي الوجودية خاصة، ضربات متتالية " (11) ومن الروايات الهامة أيضاً، رواية "خاتم الرمل"، تلك الرواية التي تتميز بأسلوبها السردي الذي يمزج ما بين الوهم والواقع، وهي ابتداء من العنوان، تدل على اهتزاز وتخلخل العلاقات الإنسانية، وتتعرض لما هو سياسي/سلطوي، وفردي/مجتمعي، من خلال البطل في الرواية والنفاذ إلى لاوعي تلك الشخصية . كذلك تمثل رواية "الرجع البعيد" نموذجاً إبداعياً فريداً للرواية العراقية، ليس بسبب توفرها على كم كبير من اللهجة العراقية الدارجة في الكثير من صفحاتها التي تقارب الخمسمائة، ولكن لأن هذه الرواية تضم قدراً هائلاً من تفاصيل وسمات حياة المجتمع العراقي من خلال الأحداث والشخوص، ونفاذ الكاتب إلى دواخل تلك الشخوص بكل ما فيها من قلق وخوف وصراعات . هوامش : 1 -فؤاد التكرلي، تجربة قصصية معكوسة، كتاب المقالات، الأعمال الكاملة 6، دار المدى، دمشق، ط 1، 2002، صـ 34 . |