.
المقاله تحت باب في السياسة في
26/10/2009 06:00 AM GMT
في مسرحية "عرس الدم" للشاعر الاسباني لوركا، كان ثمة عداوة دموية بين طرفين، عداوة قائمة في التاريخ، ليس مهما ما أسبابها، ثمة عملية قتل أدت إلى انتقام، ثم قتل آخر، فانتقام، وهكذا، امتدت طويلا سلسلة دموية لم يعد مهما معها التفكير بالدم الأول، صار الدم هو المعنى الوحيد لوجودهم نفسه. وصار الآخرون، لا القتلة وحدهم، موضوعا لانتقام مقدس. ضمن هذه المقدمات يكون العرس الدموي في نهاية المسرحية نهاية طبيعية لتراث الكراهية هذا. منذ اللحظات الأولى لما بعد 9 نيسان 2003، بدا واضحا أن الصراع في العراق أخذ شكل منتصرين يعتقدون أنهم منتصرون، ومن ثم هذه هي اللحظة التاريخية التي لا تتكرر لتكريس هذا النصر المفترض. ومهزومين يشعرون بهزيمتهم بسبب تماهيهم الطويل مع الدولة المنهارة، ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أنهم يمتلكون القدرة على استعادة وجودهم بشكل ما. كنا أمام نشوة منتصر، وصدمة مهزوم، وكلتاهما لحظتان غير عقلانيتين. من هنا كان على الاثنين معا استثمار الدم في دعاواهم السياسية. ونسيا أن الدم يفرض شروطه الخاصة، ومنطقه الخاص بعيدا عن المستثمرين له، وبعيدا عن قدرتهم على السيطرة على تدفقه. إن جميع الأحزاب السياسية الرئيسة في العراق كانت تؤمن بالعنف وسيلة للحصول على مكاسب سياسية، و جميع أعضائها مارسوا العنف في تاريخهم السياسي، و لا يزالون ينظرون إلى هذا التاريخ بوصفه تاريخا نضاليا يستحق الإشادة والتكريم. لقد تورط الجميع، بشكل أو بآخر، في الصراع الأهلي الذي أعقب لحظة 9 نيسان 2003، والذي تعزز بعد لحظة 22 شباط 2006. ومن ثم ظهرت شرعنة أخلاقية لاستثمار الدم في التاريخ السياسي للعراق، وليس من حق احد، منفردا، أن يقرر أن تاريخ هذه الشرعنة قد انتهى لمجرد هيمنته على السلطة. تاريخ الدم لا ينتهي إلا بمصالحة تاريخية حقيقية لا أرى إرادة حقيقية للتوصل إليها. في أربعاء الدم، كان الجميع شركاء متضامنين فيما جرى. الجميع أسرع إلى استثمار الدم في رأسماله الرمزي والمادي. ليس مهما البحث الجنائي عن الجهة التي خططت ونفذت، وليس مهما الهدف أو الأهداف المتوخاة من العملية، المهم أن الجميع قاد الأمور نحو هذه المأساة، السياسيون، والأحزاب، والنخب بجميع تصنيفاتها ومرجعياتها؛ سواء عبر المشاركة الفعلية في شرعنة منطق الدم، أم عبر الصمت والفرجة السلبية على ما جرى ويجري، والأهم من كل هؤلاء وأولئك، الجمهور الذي أنتج هذا الوضع عبر صناديق الاقتراع. منذ اللحظات الأولى، وقبل أن يجف الدم المسفوح على المذبح، سارع الجميع إلى استحضار تاريخه الخاص، وهويته الخاصة، وعلاقاته الخاصة، وبرامجه الخاصة، وتصوراته الخاصة، وأوهامه الخاصة، لاتهام طرف محدد، أو تبرئة طرف آخر. وصار واضحا أن الدم المسفوح لم يكن سوى فرصة، ومناسبة لتسجيل النقاط في حلبة الصراع المفتوح. قبيل دخول الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة حيز التنفيذ، والانسحاب من المدن، قلت حينها إن جميع القوى السياسية، والجماعات المسلحة، من مصلحتها ازدياد حدة العنف، وإن الطرفين الوحيدين اللذين يريدان العكس هما المالكي شخصيا، والولايات المتحدة. الأول يريد بقاء رصيده الذي عكسته انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، والذي جاء بالأساس من خلال النجاحات الأمنية. والثانية تريد خروجا مشرفا من العراق، وتبعا للجدول الزمني، من اجل تثبيت مصداقية الديمقراطيين والرئيس أوباما شخصيا، والتركيز على الجبهة الأفغانية، وأيضا بسبب الوضع الاقتصادي المستجد؛ بمعنى آخر عندما يكون الموسم الانتخابي من دون أي استناد أخلاقي، أو مفاهيمي، أو سياسي، من الطبيعي أن يكون الدم قابلا للاستثمار. في التغطية الإعلامية القليلة التي سمح بها، كان المنظر الأكثر مأساوية في المشهد: معاناة سكان ما يسمى ببيوت السكك، وهي البيوت المحصورة بين وزارة الخارجية وملحقات فندق الرشيد، كانوا موزعين بين البكاء على من مات من بينهم، والحسرة وهم ينظرون إلى بيوتهم المهدمة، ويفكرون في التكلفة المحتملة لإعادة البناء، والقلق مما يمكن أن يعنيه ذلك في ظل محاولات الوزارة السيطرة على هذه المساحة الحيوية، ولكن الأهم في هذا المشهد أن البكاءين والمستثمرين على اختلافهم، لم ينتبهوا إلى هؤلاء، واحتياجاتهم الطارئة، ولكن بالتأكيد سيتم الالتفات اليهم لاحقا، ليس من خلال الدولة ومسؤولياتها، وإنما من خلال مكرمات المنافع الاجتماعية واستثماراتها. بمعنى آخر فان المواطنين ليسوا سوى مصوتين ينظر إليهم من خلال الجدار الشفاف لصناديق الاقتراع. ما دام منطق الصراع هو الذي يحكم العراق اليوم، وما دام تاريخ الدم القديم والحديث حاضرا، وما دام الجميع لا يرى أبعد من مصالحه الشخصية والحزبية والطائفية والإثنية، وما دامت مقولات الهيمنة والاحتكار والتهميش والاستئصال جزءا أساسا في ثقافة النخب السياسية القائمة، فان أعراس الدم مستمرة لا محال.
|