حوار قديم مع علي الوردي |
. المقاله تحت باب في السياسة د.الدكتور علي الوردي مفكر وعالم اجتماع بارز. بدأ نشاطه الفكري منذ بواكير الثلاثينيات ولايزال حتى اليوم يواصل الابداع والتبشير بنظرياته التي تعتمد التحليل لبنية المجتمع العربي عامة والعراقي خاصة وتقوم فلسفته على التبسيط والموضوعية فقد اولع منذ صغره بعلم النفس الاجتماعي وهو يرى ان علم الاجتماع مازال عاجزا عن فهم طبيعة الانسان على حقيقتها .. غياب عن المسرح
منذ عشر سنوات وانت غائب عن المسرح الفكري .. وقد قيل الكثير عن اسباب هذا الغياب وعلمت اخيرا انك عاكف منذ امد بعيد على تاليف كتاب جديد يتناول طبيعة البشر وبمعرفتي بمهمتك وصبرك على التأليف فانني استغرب ان يتاخر كتابك الجديد الذي يتشوق له كثير من قرائك والمعجبين بك .. فهل لك ان تبين لنا اسباب هذا التاخير ؟. - لااكتمك سرا اني اعمل في تاليف هذا الكتاب منذ اكثر من خمس سنوات هناك سببان لتاخير صدوره اولهما كبر سني وضعف صحتي بحيث اصبحت لااقوى على العمل اكثر من ساعة او ساعتين في اليوم اما السبب الثاني فهو صعوبة موضوعة ولا يخفى عليك ان طبيعة البشر هي من اصعب المواضيع النفسية والاجتماعية ان لم تكن اصعبها جميعا فهي موضوع متشعب ومعقد الى ابعد الحدود والواقع اني كلما توغلت في دراسته شعرت باني لاازال في اول الطريق كلما بحث في جانب منه ظهرت امامي جوانب اخرى تحتاج الى بحث . ظهرت في موضوع الطبيعة البشرية نظريات متعددة كما نشرت دراسات لاتحصى واعترف لك اني اشعر بالعجز تجاه تلك النظريات والدراسات فهي في غاية الصعوبة بل من المستحيل استيعابها كلها . اضف الى ذلك انها قد تتعارض وتناقض وهنا يقف الباحث حائرا لايدري ماذا ياخذ منها وماذا يترك . كذلك يجب ان لا ننسى ان العلوم التي تبحث في الطبيعة البشرية كعلم النفس وعلم الاجتماع هي من العلوم الحديثة جدا فهي لم تاخذ بالمنهج العلمي الا منذ قرن واحد او اكثر قليلا ويمكن القول ان هذه العلوم مازالت تحت التاسيس ولذلك لما فيها من نظريات ودراسات مختلفة او متعارضة . حاولت قدر جهدي ان ادرس النظريات المختلفة في هذا الموضوع ولكن طاقتي محدودة كما ان اتصالي بالاوساط العلمية في الخارج محدود كذلك ان الذي دفعني الى الاستمرار في دراسة الطبيعة البشرية هو ما انتشر بيننا من مفاهيم مغلوطة حول هذه الطبيعة وهي المفاهيم التي ورثناها في الماضي وأضرت بنا كثيرا من الناحية النفسية والاجتماعية ولايزال الكثيرون هنا من المثقفين والعوام يتداولون هذه المفاهيم ويتاثرون بها في علاقاتهم الاجتماعية من دون ان يدركوا مبدا الخطا فيها او فداحة الضرر الناتج عنها. نماذج الاخطاء .. هل لك ان تقدم لنا نماذج من تلك المفاهيم المغلوطة والضارة وانت تعلم بان جيلنا عاش ظروفا مختلفة وبالتالي فانه يعيش بعقلية اخرى وقيم مختلفة فما رايك ؟ - لايتسع المجال هنا لتعداد تلك المفاهيم وقد لايكفي ان اذكر هنا اثنين منها وعلى سبيل المثال .. احد هذين المفهومين هو الذي نسميه العقلانية ونعني به اعتبار الانسان حيوانا عاقلا وانه يجري في تفكيره وسلوكه حسبما يقتضي العقل الواعي والمنطق السليم .. فاذا اردنا اقناع انسان بتبديل راي له عقيدة فليس علينا الا ان نقدم له الدليل العقلي والواضح الذي سيقتنع به حالا فيغير رايه او عقيدته اما اذا لم يفعل ذلك فهو لابد من ان يكون متعصبا او معاندا او مغرضا وهو في هذه الحالة يستحق العقاب او التوبيخ . اما المفهوم الثاني فهو الذي يتمثل بالمبدا القائل من جد وجد ومعناه ان كل انسان قادر على ان يصل الى ما يطمح اليه من نجاح او عظمة بمجرد ان يبذل الجهد ويسعى ويناضل فالطريق مفتوح امامه حسبما جاءت به الامثال الماثورة نحو كل من سار على الدرب وصل" وكل من جال نال و"من طلب العلا سهر الليالي" وهمم الرجال تزعزع الجبال وغيرها . العقل البشري متحيز اسمح لي ان اخالفك في هذين المفهومين : فالعقلانية هي السمة التي يتميز الانسان الواعي بها اما مبدا من جد وجد فهو يعني ان على الفرد خاصة الذي ينحدر من الطبقة العاملة او المحدودة الدخل ان يعمل لكي يتبوأ مكانته في المجتمع ولدينا شواهد كثيرة تؤكد ان ابناء فقراء تسلقوا اعلى مراتب المجد والسلطة.. - ان النظرة الحديثة تعتبر العقل البشري انه متحيز ومحدود بطبيعته وهذه النظرة على النقيض من النظرة الفلسفية القديمة التي كانت تثق بالعقل ثقة مطلقة وتبالغ في تمجيده وتقديره . المصلحة الخاصة .. والعاطفة ..
الانسان اذا كانت لديه مصلحة خاصة في امر من الامور اصبح عقله متحيزا نحو ذلك الامر من حيث يدري او لايدري وهذا هو ما نلاحظه واضحا في قاعات المحاكم فالشخص الذي لديه قضية معروضة امام احدى المحاكم يكون تفكيره منصبا على انجاح تلك القضية وهو ياتي في سبيل ذلك بمختلف الادلة والبراهين التي تؤيد دعواه فاذا اصدر القاضي حكمه في مصلحة صاحب القضية صار في نظره اعظم القضاة في الدنيا واكثرهم عدلا ونزاهة واما اذا اصدر القاضي حكمه بخلاف ذلك فانه ينقلب حالا الى اسوأ قاض ومن الممكن ان نقول عن العاطفة مثلما قلنا عن المصلحة الخاصة من حيث تاثيرها في تفكير الانسان فتجعله يرى الابيض اسود والاسود ابيض فالانسان يحب الذي يساعده في امر من الامور وان يحسن اليه ولكنه لايكاد يراه إذا نافسه في المهنة والمكانة الاجتماعية حتى يبدل نظرته اليه من الحب والكراهية وعندما تتحول محاسنه الى مساو بعدما كانت عيوبه قد تحولت الى محاسن ويقول الامام الشافعي في بيت شعر مشهور له .. وعين الرضا عن كل عين كليلة كما ان عين السخط تبدي المساويا التجارب المنسية والانوية قد تمر بالانسان تجربة مؤلمة او سارة تجاه امر من الامور ثم ينسى الحادثة ولكن ذكراها تبقى كامنة في لاشعوره فاذا راى شخصا او شيئا يذكره بتلك الحادثة يشعر بالغضب او الحب له . وكثيرا ما يؤثر ذلك على تفكير الانسان تجاه الاراء والمبادى او الاتجاهات الثقافية والسياسية . اما الانوية : فهي شعور الانسان بذاته أي بالانا تجاه الاخرين فالانا محور الشخصية البشرية وكل انسان يسعى دائما نحو رفع مكانة الانا في نظر مجتمعه وهو قد يدوس في بعض الاحيان على مصلحته او عاطفته من اجل الانا .. وانت تستطيع ان تجعل منه صديقا مخلصا اذا اجزلت له الاحترام والمديح كما تستطيع ان تجعل منه عدوا لدودا اذا احتقرته واهنته وللمعرفة دور مهم فالانسان يكذب الامور او يصدق بها حسبما تملي عليه معلوماته التي يملكها تجاه تلك الامور خذ مثلا الامي الذي يعيش في قرية بدائية منعزلة فهو يرى الارض مسطحة والشمس تدور حولها . ومن المستحيل ان تقنعه بخلاف ذلك وهو قديعدك مجنونا اوجاهلا لانك في نظره تنكر بديهة من البديهيات العقلية التي لايجوز الشك فيها وهذا لاينطبق على الامي البدائي فقط بل هو يشمل البشر ايضا جميعا حتى العلماء منهم واذا نظرنا الى الامر نظرة نسبية فكثيرا ما وجد علماء في القرن الماضي يعتبرون بعض الامور مستحيلة ثم اضحت في هذا القرن ممكنة.. ذكاء وجنون .. الانوية والانا..
نعرف ان النظرية الحديثة لدراسة طبيعة الانسان تذهب الى اعتبار الانا محور الشخصية البشرية في هذه الحالة كيف تحلل الفرق بين الانا والانانية؟ .. - الانوية كالانانية ومنسوبة الى الانا .. ولكن هناك فرق بينهما في المعنى فالمعنى المتداول بين الناس عن انانية هو انها هي التي تجعل الانسان يهتم بمصلحته ولا يهتم بمصلحة الاخرين اما الانوية فهي تعطي معنى اخر اذ هي تعني الشعور بذات الانسان أي الانا اتجاه الاخرين وهذا الشعور يجعل الانسان في دور متواصل نحو رفع مكانة الانا في نظر المجتمع .. ماذا تقصد بقولك ان الانا محور الشخصية البشرية هل هذا يعني اننا نرجسيون في الطبيعة هل الانا يكتسبها الفرد من بقية افراد المجتمع ام انها تنشأ لديه منذ الطفولة وهل كانت الانوية معروفة قديما؟ - ان الانسان بوجه عام يركز معظم تفكيره حول الانا وكيف ينظر الناس اليه وهو يشعر بالغبطة حين يرى الناس يقدرون ويعجبون به كما يشعر بالامتعاض حين يرى الناس يحتقرونه او ينظرون اليه باشمئزاز او اهمال وقد يصح ان نقول ان معظم نشاط الانسان في حياته يدور حول هذه النقطة فهو يسعى دائما من اجل ان يكون موضع فخار لاموضع عار
يقول المثل البدوي النار ولا العار ومازال المثل منتشرا وقوي الاثر في المجتمع البدوي حتى الان ومعناه ان البدوي يفضل دخول النار في الاخرة على كسب العار في الدنيا .. ان الانوية تظهر في الانسان منذ طفولته الباكرة وان علامات ظهورها في الطفل انه يبتهج ويبدو عليه الزهو حين نمدحه كما يبدو عليه الامتعاض حين نذمه ونحن نستطيع ان نجعل الطفل يقوم باي عمل نطلبه منه بمجرد ان نمدحه اذا قام به ونشجعه عليه. والملاحظ ان الطفل يكون شديد الحساسية تجاه اقرانه من الاطفال فنحن لانكاد نمدح طفلا اخر بحضوره او نتحمل ذلك الطفل ونتضاحك له . ان تجاهلنا للانوية في الطفل كثيرا ما يؤدي الى تكوين العقد النفسية فيه فقد اعتاد الناس في مجتمعنا مداعبة الطفل الصغير امام اطفال اخرين اكبر منه اننا لاندرك مبلغ الالم العميق الذي يشعر به الطفل من جراء ذلك .ان افراد العائلة كثيرا ما يفرحون بولادة طفل جديد لهم فيلتفون حوله ويضحكون له في حضور اخوته الذي هم اكبر منه غافلين عما يحدث ذلك من اثر سيئ في نفوسهم بينما يشعر الاطفال الاخرون بالغيرة منه وربما انتهزوا الفرصة فيما بعد للاساءة اليه انتقاما من حيث لايقصدون او لايشعرون .. كان الاطفال عندنا يلعبون في الازقة حيث تنشا انويتهم على اساس التفاخر بالقيم الزقاقية في الغلبة والاعتداء والسرقة .. وهذا هو عامل من عوامل نشوء الشخصية المزدوجة في البعض منهم .. اما النرجسية فانها حب الذات وهي شيء اخر .. يمكن الغاء ثلاثة ارباع النحو |