.
المقاله تحت باب في السياسة في
14/04/2008 06:00 AM GMT
في محاضرة ألقيتها في جامعة عراقية عن (القصيدة الرقمية التفاعلية Digital Interactive Poem)، أذهلني الكم الهائل من الرفض الذي يكنه المجتمع الأكاديمي التقليدي لكل ما له علاقة بمصطلح الرقمية، شعور بالإحباط الكبير نبهني إلى ضرورة تعاون المثقفين العرب المتنورين في حملة تطوعية لإقناع الوسط الثقافي العربي بحتمية الدخول في عصر المعرفة الرقمية. ثمة عوامل متعددة تجعلنا نتخوف من المعرفة الرقمية، غير أن كل هذه العوامل ليست سوى أوهام وفوبيات علقت بالعقل العربي لكثرة ما عانى من الاستبداد والتسلط بمختلف أنواعهما وتنوع من يمارسهما. وأول هذه العوامل الخوف التقليدي من كل جديد، هذا الخوف الناتج مما استقر في العقل العربي بأنه يملك من التراث ما يحسده العالم كله عليه، وإن كل جديد ليس سوى مؤامرة عالمية لتخريب هذا التراث. والثاني هو الإحساس بالعجز نتيجة للبون الحضاري الشاسع الذي بات يفصل بيننا وبين الغرب، فقد بات العربي ينظر إلى الغرب بمزيج غريب من المشاعر،حسد وحقد وانبهار وإعجاب و.... والعامل الثالث هو الظن بعدم موثوقية المعرفة الرقمية وعدم الاعتراف بالنشر الرقمي والنظر إليه نظرة دونية. وأما العامل الرابع فهو التعلق التاريخي بالمخطوط والورقي، وما استقر في الوعي العربي من أن متعة التعامل مع كتاب ورقي لا تعدلها متعة أبدا. وبالإمكان وضع اليد على قائمة طويلة من العوامل من هذا النوع وسأضرب عن ذكرها معتمدا على فطنة القارئ الكريم ومتجنبا الإطالة. إن من المهم أن نؤمن بحتمية التقدم الإنساني وليس من المهم أن نضع في الحسبان من يسبق من، أو من يتأخر عن من، ذلك لأن من نتائج حلول العصر الرقمي وثورة المعلوماتية والاتصال توحيد الهوية الإنسانية والجهد الإنساني مع إمكانية المحافظة على الهويات القومية، وربما زيادة الوعي بها. ومن المهم أيضا وبناءً على ما تقدم، أن نعي أننا نعيش على عتبة تفصل بين عصرين تاريخيين، العصر الكتابي والعصر الرقمي، وإن علينا أن نمتلك من قوة الدفع ما يمكننا من الانفلات من الأول وتخطي العتبة إلى الثاني، وهذا يستلزم إعادة النظر بمعتقداتنا المعرفية. إن من تلك المعتقدات التي ينبغي أن نتخلى عنها سعي المثقف العربي إلى أن يكون موسوعي المعرفة، فهذا هو السلوك التقليدي للمثقف، الذي تولد من الطريقة العربية التقليدية للتعلم (الحفظ والتحفيظ)، فالباحث في الأسلوب التقليدي يفتش الكتب والفهارس ساعات وربما أياما بحثا عن معلومة صغيرة يسعى إلى توثيقها في بحثه، وخلال ذلك التفتيش سيمر على كثير من المعلومات بالمصادفة، فيتوقف عندها ويحفظها رغم عدم حاجته إليها في تلك اللحظة، وبمرور الأيام ينمي في داخله موسوعة معلوماتية تميز شخصيته، غير أن من المهم التنبه إلى أن تعقيد العصر وكثرة تفاصيله وسعة علومه قد أربى على قدرة الذاكرة الإنسانية وسعتها كثيرا، وكم شهدت أنا شخصيا وقوع زملاء بالخلط والوهم في المعلومات نتيجة لكثرة ما يحفظون، فكأن ذاكرتهم قد طفحت بمحتوياتها وضاقت بها. من أهم ميزات المعرفة الرقمية إمكانية الوصول إلى المعلومة المطلوبة مباشرة وبسرعة لافتة، وأدى هذا إلى أن يكون بالإمكان إنتاج متخصصين في حقول معرفية دقيقة لم يكن بالإمكان إنتاجهم لولا التقنية الرقمية. صحيح إن هؤلاء المتخصصين سيكونون علماء بما تخصصوا به وجاهلين بكل شيء سواه، لكن هذه ليست مثلبة، إذا ما تعودنا على أسلوب آخر في البحث المعرفي هو أسلوب العمل الجماعي (الفريق)، فكما نعلم أن من النادر اليوم في الغرب أن يعمل باحث منفردا في بحث ما، إذ لابد من اشتراك أكثر من باحث في عمل واحد ليكونوا وحدة بحثية قادرة على التعامل المثالي مع موضوع البحث. لا أشك أبدا في إن حلول العصر الرقمي سيكون له، من الناحية التاريخية، أهمية أكبر من أهمية اختراع الكتابة قبل ثلاثة آلاف عام، ولا أشك أبدا في أن عصر الكتابة يعيش سنينه الأخيرة، قريبا ستكون الأقلام والدفاتر في المتاحف وسينظر إليها كما ينظر اليوم إلى العتلة والعجلة. وما أجدرنا أن نسرع إلى إدراك هذا الأمر، وأن نقلع عن محاولة اختراع العجلة مرة أخرى.
|