(أنا) الجواهري

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/09/2007 06:00 AM
GMT



يشترك الشعراء أينما كانوا وفي أي زمان باتصافهم بالنرجسية وتضخم (الأنا)، ولكنهم يختلفون في درجتها وتمظهراتها، فقد تكون خفية عند بعضهم، وقد تكون ظاهرة طاغية عند الآخر.، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف تظل النرجسية من المكونات البارزة للشخصية الإبداعية للشاعر.

إن كل من يقرأ شعر الجواهري يلمس بوضوح شبها كبيرا بينه وبين المتنبي، من هذه الزاوية، فكلاهما عبر عن الشعور بالتفوق في أكثر من موضع، فالمتنبي حين يقول :

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدمُ

لا يختلف عن الجواهري في قوله:

تسامَي فإنك خيرُ النفوس إذا قيس كلٌ على ما انطوى

غير أن (أنا) الجواهري أكثر تعقيدا، فبينما نجد (أنا) المتنبي شديدة الوضوح في تضخمها وتلبسها بحالة التفوق، تتخذ (أنا) الجواهري أشكالا عدة، متداخلة ومعقدة أحياناً، وإن كانت جميعها تعود في النهاية الى فكرة التفوق. ونحاول في هذه المقالة استقصاء أشكال (أنا) الجواهري وتصنيفها.

1-(أنا) السوبرمان:

هذه هي الظاهرة الكبرى لقضية (أنا) الجواهري، فالشعور بالتفوق هو الشكل الذي يطفو على السطح غالبا عندما يمس موضوع القصيدة شخصية الشاعر مباشرة.

في قصيدته في تكريم هاشم الوتري قال:

يتبجَّحُونَ بأنَّ موجاً طاغيا

 

سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا

كَذِبوا فملءُ فمِ الزّمان قصائدي

 

أبداً تجوبُ مَشارقاً ومغاربا

تستَلُّ من أظفارِهم وتحطُّ من

 

أقدارِهمْ ، وتثلُّ مجداً كاذبا

نا حتفُهم ألِجُ البيوتَ عليهم

 

ُأُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا

خسئوا : فَلْمْ تَزَلِ الرّجولةُ حُرَّةً

 

تأبى لها غيرَ الأمائِلِ خاطبا

هذه الأبيات الخمسة تقدم فكرة واضحة عن السوبرمان الذي يراه الشاعر في نفسه، فنحن هنا أمام صورتين، الأولى صورته في عين أعدائه، والثانية صورته في عينه هو؛ أما الأولى فترد في البيت الأول:

يتبجَّحُونَ بأنَّ موجاً طاغيا سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا

فهم ينظرون إليه على أنه موج لبحر متلاطم لا يعرف منبعه ولا مصبه، ويزعمون أنهم استطاعوا حصاره، لكنه لا يرى هذه الصورة ممثلة لحقيقة السوبرمان فيأتي بالصورة الثانية في الأبيات الأربعة التالية. والصورة تظهره الشاعر الذي يتكفل الزمن برواية قصائده ، تلك القصائد التي تترك أثرا بالغا عليهم ،فتحط أقدارهم وتقلل شأنهم وتجعلهم ضآل القائمة أمامه، ثم يصور نفسه (حتفهم) الموت الزاحف اليهم حتى في مضاجعهم.

من المهم أن نذكر هنا ملاحظتين؛ أما الأولى فهي التشابه الكبير بين هذه الصورة والصورة التي يرسمها المتنبي لنفسه:

وما الدهر الا من رواة قصائدي

 

اذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمرا

 

وغنى به من لا يغني مغردا

الزمن (الدهر) هنا أيضا يقوم بمهمة رواية قصائد الشاعر كناية عن خلودها، غير أن قول المتنبي أبلغ في تأدية المعنى اذ جعل الدهر (من رواة) قصائده وليس الراوي الوحيد كما في قصيدة الجواهري.

أما الملاحظة الثانية فهي أن الجواهري ضخم صورته في مقابل تصغير رؤية أعدائه له على المستوى البنائي أيضا، فبينما عرض نظرة أعدائه اليه ببيت واحد ، عرض نظرته الى نفسه بأربعة أبيات.

نجد هذه الصورة في مواضع كثيرة من شعر الجواهري فمن مقصورته الشهيرة قوله :

وإذ أنت ترعاك عين الزمان

 

ويصفو لجرسك سمع الدنى

وتلتفّ حولك شتى النفوس

 

تجيش بشتى ضروب الأسى

وتعربُ عنها بما لا تُبين

 

كأنك من كلّ نفس حشا

فأنت مع الصبح شدو الرعاة

 

وحلمُ العذارى اذا الليل جا

وأنت اذا الخطب ألقى الجران
ألَحتَ بشعرك للبائسين

 

وحطّ بكلكله فارتمى
بداجي الخطوب بريق المنى

هنا يظهر الشاعر بصورة الضمير الجمعي للأمة، فهو بما يمتلك من خصائص التفوق أصبح الملجأ الذي يُلجؤ اليه في الخطوب ، واللسان القادر على التعبير الذي ينبت الآمال العراض.

2-(أنا) الغريب:

تظهر هذه (الأنا) عندما يحاول الشاعر رسم صورة مجتمعه الذي لا يستطيع فهمه، فمن خلال تصوير الآخر، تظهر صورة الشاعر الغريب الذي لا يتمكن الآخر من إدراك همته وهمه وأحلامه:

عدا عليّ كما يستكلب الذيبُ

 

خلقٌ ببغداد أنماطٌ أعاجيبُ

خلق ببغداد منفوخ ومطّرح

 

والطبلُ للناس منفوخٌ ومطلوبُ

خلقٌ ببغداد ممسوخٌ يفيض به

 

تأريخُ بغداد لاعربٌ ولا نُوبُ

لو شئتُ مزقتُ أستاراً مهلهلةً

 

فراحَ سيّان مهتوك ومحجوبُ

لبانَ للناس مصدوقاً بلا دغلٍ

 

مبرقعٌ من إباء القومِ مكذوبُ

شعور مرير بالغربة يلف هذه القصيدة (كما يستكلب الذيب)، فالشاعر يرى نفسه وسط مجتمع ينصب له العداء لا لشيء الا لأنه لا يقوى على فهمه، ومن الناحية الفنية يلاحظ أن الشاعر يرسم (أناه) وغربتها بطريقة غير مباشرة من خلال تصوير الآخرين تصويرا منفرا، وهو في هذه الصورة لـ(الأنا) يلتقي مع المتنبي:

ما مقامي بأرض نخلة إلا

 

كمقام المسيح بين اليهودِ

أنا في أمة تداركها الله

 

غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ

وقوله في موضع آخر:

ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ وأخو الظلالةِ بالشقاوةِ ينعمُ

ويشبه المعري في رؤيته لنفسه مقارنة بمجتمعه:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلتُ حتى ظُن أني جاهلُ

وفي رائعته (يا أم عوف) نقرأ:

إنا أتيناكِ من أرضٍ ملائكها

 

بالمهرِ تُرجمُ أو ترضي الشياطينا

إن لم يلح شبح للخوف يفزعنا

 

فيها يلح شبحٌ للذلِّ يُصمينا

فالصورة ذاتها هنا، والغربة ذاتها، إنم الملاك الذي لا يعرفُ الآخرُ منزلته.

3-(أنا) العميقة:

تنشأ هذه الـ(الأنا) من التعارض بين صورتين متضادتين؛ الأولى صورة الشاعر في عيون المعجبين بقدراته وتعظيمهم له (كما يرى هو) ، والثانية حقيقته التي لا يعرفها الا هو داخل نفسه ، تلك الحقيقة التي تصور نفسه له فيها أحيانا أنه محض رجل ضعيف تافه، وأريد هنا أن أسوق مثالا جميلا من شعر الجواهري هو قصيدته (رجل) ، وفكرتها تقوم على أن زوجته سمعته يمدح أحد الضيوف بأنه رجل ، فتتساءل عن معنى هذا المدح :

وتساءلت عِرسي وفي فمها

 

قلقٌ وفي قسماتها وجلُ

أمس استمعتك تطّري رجلاً

 

من زائريك بأنه رجلُ

أوضح سلمتَ فأنتَ من غنيت

 

المفرداتُ لديه والجملُ

هل قالت الأبقار ذا بقرٌ

 

فينا أم الحملان ذا حملُ

يا بنت فطرتها وكم غنيت

 

بالفطرة الآراء تنتحلُ

الحقّ عندك آمن أبدا

 

طلقٌ وعندي غائمٌ وجلُ

قلَّ الرجالُ فقيل ذا رجلٌ

 

أما الوعول فلم يقل وعلُ

أنا في محيط عشته ملكٌ

 

لو صحت الأمثال والمثلُ

فتصوري ملكا يراودُهُ

 

الكذبُ والبهتانُ والدجلُ

وتصوري ما شئتِ مجتمعاً

 

أنا فيه يومَ تفاخرٍ بطلُ

هذه الأبيات التي اخترتها من القصيدة تصور تصويرا واضحا هذه الـ(أنا) المتعارضة، مجتمع الشاعر الذي يراه هو مجتمعا جاهلا ينظر اليه على انه بطل من الأبطال أو ملك أسطوري، ولأن هذا المجتمع جاهل فان هذه ليست هي صورته الحقيقية العميقة انما هي كما يراها في البيتين الأخيرين ، صورة رجل يدبر أمر حياته بالكذب والبهتان والدجل، وروعة القصيدة في بيتها الأخير الذي يظهر هذا التعارض بشكل جلي بين شخصية الشاعر المجتمعية وشخصيته الحقيقية، اذ يرسم الصورتين بطريقة كاريكاتورية ساخرة.