مفهوم التحيز والتمركز المعرفي في التفكير الديني الإيراني المعاصر

.

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
19/08/2007 06:00 AM
GMT



السؤال المعرفي من أشد الأسئلة إلحاحاً وتداولًا في التفكير الديني المعاصر في إيران. وهوية المعرفة والأبعاد المحلية والقومية والإقليمية الملازمة لها، وما يكمن خلف العلم من رؤية ميتافيزيقية خاصة، من أبرز مشاغل المفكرين الإيرانيين اليوم. إذ نجد كتاباتهم تتحدث بوضوح عن وصف العلم بالانحياز، وكيف يتحيز العلم إلى الأقوياء وأصحاب الثروة، أو كيف ينحاز إلى اتجاه سياسي أو ميتافيزيقي معين، وأن ذلك يعنى عدم إمكان تأسيس علم دون رؤية ميتافيزيقية محددة، ولا يمكن تأسيس علم محايد (1). وأن العلوم الإنسانية لا يمكن سلخها عن محيطها الحضاري الذي نشأت في فضائه الخاص، كما أنه ليس بوسعنا نفي تأثير العوامل الأيديولوجية والثقافية والتاريخية والجغرافية في صيرورتها وتشكلها، وبالتالي تصطبغ هذه العلوم بصبغة معينة تغدو فيها متحيزة وليست محايدة، ذلك أنها تتلون بلون المحيط، وما يسوده من رؤية كونية، وفهم وضعي للعالم والإنسان والحياة. وحسب تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ فإن علمانية العلوم التي ظهرت في القرن السابع عشر عملت على فصل العلوم عن المنظومة القيمية، ونزع القداسة عن كل شيء، وسحب الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم الأشياء، ثم انتهت بسحب الإنسان من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء، وبذلك يسود منطق الأشياء. وليس بوسعنا في هذه العجالة تقديم قراءة شاملة تستوعب آراء المفكرين والباحثين والدارسين الإيرانيين في القرن العشرين ومواقفهم حيال هذه الإشكالية البالغة التعقيد والتنوع، غير أن ذلك لا يمنعنا من الإشارة بإيجاز إلى مجموعة من المفكرين الذين كشفوا عن تحيزات المعرفة الغربية، ونادوا بضرورة صياغة علوم ومعارف تستلهم روح ميراثنا والعناصر الحية في ثقافتنا. وسنشير إلى آراء أحمد فرديد وجلال آل احمد وحسين نصر وعلي شريعتي. يعتبر الدكتور أحمد فرديد (1912-1994) في طليعة المحذرين من التمركز والتحيز في المعرفة والعلوم الغربية. وكان فرديد شخصية خلافية ملتبسة، ويوصف بأنه مفكر عميق ، لكنه صامت، وإذا تكلم فهو مبهم، ولم يعرف عنه تدوين آراءه أو كتابتها ونشرها، ولذلك يعرف بـ "الفيلسوف الشفاهي". وبالرغم من أنه أقل المفكرين الإيرانيين شهرة ، وربما لم يسمع به أحد خارج إيران، غير أن الباحث المعروف داريوش آشوري عبر عنه بأنه " أول فيلسوف في التاريخ الإيراني المعاصر" (2). وقد كان لأحمد فرديد دور مميز في تعليم الفلسفة الألمانية في إيران، خاصة آراء مارتن هايدغر، وعمل على تشغيل بعض مصطلحاته ومقولاته في المجال التداولي الفارسي، وعرف عنه تطبيقاته لآراء هايدغر في دراسة ونقد وتحليل العلم والحضارة الغربية، وآثارها التدميرية خارج محيطها الخاص، فمثلما يعتقد هايدغر بأن " كل حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معينة تطغى على بقية الحقائق، فيما تقذف بما سواها إلى الهامش" يرى فرديد بأن "الغربيين أضاعوا الله، واستبدلوه بإله آخر ، وهو النفس المادية، أو النفس الأمارة بالسوء". كما يؤكد أن للبشر ثلاثة أبعاد: الأول علمي، والثاني فلسفي، والثالث معنوي، ومع أن "الأول والثاني احتلا مساحة واسعة من السنن الفكرية الغربية، لكن الثالث ظل غائباً وباهتاً بشكل فاضح "(3). ولذلك يحذر فرديد من مخاطر شيوع حضارة الغرب في عالمنا ويدعو إلى التحرر من كافة أشكال التغريب، وتجاوز كل مظاهره ، من خلال اكتشاف ذات الغرب، أي أن نكون غربيين، لا بمعنى الاغتراب عن الذات، وإنما بمعنى المعرفة الدقيقة بالغرب، والنفوذ إلى كنه الفلسفة والانطولوجيا الغربية، لأن معرفة الآخر شرط لازم لمعرفة الذات. ويقدم فرديد تأويلاً مشبعاً برؤيا عرفانية للتراث الشرقي، وطالما صرح في محاضراته بأن الله هو الأصل والأساس بالنسبة له، ولكنه لا يقصد الله بمعنى واجب الوجود لدى الفلاسفة ، بل هو بمعنى الإله الحي، إله الأمس واليوم والغد، إله محمد (ص)، وإله المهدى الموعود، وأن منبع فكرنا يعود إلى تجلى الله دون الحجاب الظلماني والنوراني على الذات البشرية. وكان يعتقد أن الفكر الشرقي الإيراني والهندي والمصري أقرب إلى الحقيقة من الفكر الغربي، لكن مع ذلك كان فكراً محجوباً . وظل يكرر بأنه في العصر الحديث تجاهل الإنسان الساحة القدسية، وفقط باكتشاف هذه الساحة يجد الفكر الحقيقي معنى له. وأشار غير مرة إلى غروب الغرب، وأن المستقبل لنا، لأن الله معنا(4). ويحاول فرديد استعارة مفاهيم هايدغر ويلونها برؤية عرفانية، فمثلاً يذهب إلى أن التكنولوجيا بمثابة الحجاب الأكبر والأصغر لحقيقة الأمس والغد، وحين يسود الحجاب تختفي الحقيقة الإلهية(5). وتبعاً للمتصوفة والعرفاء فقد استأثرت قضية الأسماء والصفات الإلهية باهتمام فرديد، وفي إطارها صاغ ما اصطلح عليه بـ"علم الأسماء التاريخي" والذي حاول أن يصوغ فلسفة خاصة للتاريخ في ضوئه، فهو يعتقد بأنه مثلما يكون التاريخ في حالة صيرورة وتغير وتحول أبدى، كذلك هي الأسماء تتغير كما يتغير التاريخ، وفي كل مرحلة يتجلى أحد الأسماء الإلهية، فالثورة مثلاً لا تتحقق إلا بتجلي الاسم الإلهي المعبر عنها، وبغيابه تغرب وتختفي. وفي عصرنا الذي طغت فيه الثقافة الغربية، فقد غربت الحقيقة الإلهية ، واستحال الاسم الإلهي إلى الطاغوت، وأن الله اختفي وراء الإنسان، بمعنى أن الإنسان طغى واستكبر، وأخذ الطاغوت محل الله، فيما رحل الله عن التاريخ، وهذه هي مرحلة غياب الله أو غروب الحقيقة الإلهية(6). ويحلو لأحمد فرديد أن يعيد إنتاج هايدغر ويصوغ مفاهيمه بصيغة تحاكى مقولات العرفاء والمتصوفة، ويسقط عليها نزعة غنوصية شرقية لا صلة لها بها . ذلك أن هايدغر لم يتأثر بأفكار هؤلاء العرفاء، ولم يذكر الشرق الإسلامي في آثاره، وهو يعد الأمر المقدس خارجاً عن الأديان التوحيدية وغيرها، وتمحور اهتمامه بميراث الحضارة الغربية الإغريقي، التي كان المقدس فيها يشمل آلهة متعددة ، وليس الله الواحد الأحد في الإسلام. ويندد فرديد بالنزعة الإنسانية الغربية، باعتبار أن مصيرها هو "الإنسان المكتفي بذاته". ويدعو إلى نمط من العلوم والمعارف المعنوية، التي لا تخلو من الباطنية الإلهية، أما الفلسفة اليونانية فقد اعتبر ظهورها بمثابة بزوغ قمر الواقعية وغروب شمس الحقيقة، فنجم عنها بالتالي اختفاء الشرق، وهو "لباب الكتب السماوية" والوحي الإلهي خلف حجب الغرب(7). لقد أمست مفاهيم وآراء فرديد الغامضة ، والتي لم يدونها وينشرها في حياته، احد أبرز عناوين الضجة في الفكر الإيراني المعاصر، ففي الوقت الذي يتبناها المحافظون ويحرصون على نشرها وتعميمها والتثقيف عليها والدفاع عن صاحبها، يتهكم عليها ويسخر منها نخبة من الباحثين من زملاء فرديد وغيرهم، ويعدون دعوته إلى ما يصطلح عليه علم الأسماء التاريخي لا تعدو ألا أن تكون اقتباسا ملفقا لما أورده محيي الدين ابن عربي في كتابه فصوص الحكم، من الظهور التاريخي الزماني لأسماء الله في عالم الشهادة. وعبر دمج هذا الاقتباس مع شيء من مفاهيم هيغل في فلسفة التاريخ، ومفهوم الصورة والمادة الأرسطي، يعمل فرديد على خلط وتركيب عدة مفاهيم متناشزة، ويصوغها بأسلوب مبهم مدعيا أنها تمثل رؤيا بديلة لفلسفة التاريخ. ويحلل احد الدارسين القريبين من فرديد دعوته للعودة إلى الثقافة الأصيلة الشرقية، وضرورة إيقاظ الروح المعنوية الشرقية، بأنها تستبطن مسعى سياسي لتأمين غطاء أيديولوجي للاستبداد والأنظمة الشمولية الشرقية، لاسيما وانه لم يكن معارضًا لنظام الشاه ، وسرعان ما انخرط في دعم النظام الجديد بعد الثورة(8). وبالرغم من كل المراجعات النقدية والطعون في آراء فرديد ومواقفه، غير أن بعض أفكاره والمصطلحات التي نحتها اكتسبت أهمية بالغة بعد اشتهارها في التفكير الديني المعاصر في إيران، وتشغيلها في المجال التداولي الفارسي. فمثلا انتخب جلال آل احمد (1923- 1969) مصطلح ((غرب زدكي)) الذي صاغه فرديد، عنوانا لكتابه الذائع الصيت، والذي أضحى من اهم النصوص الاحتجاجية السجالية المدونة بالفارسية في عقد الستينات. والمعروف عن جلال آل احمد أن اتسم بمزاج حاد، قلق، مضطرب، متطرف، يكتنفه تطلع وطموح متوثب، وجدية، وحيوية، وضراوة، وحساسية مرهفة. وطبعت وعيه هواجس أضرابه في عالمنا، هذه الهواجس التي كان يفجرها على الدوام، انشطار وعيهم حيال رهانات الهوية والماضي من جهة، والعصر وتحدياته من جهة أخرى، مضافا إلى الاستفهامات الملتبسة للنهضة والتحديث، وجدل التراث والوافد، وسطوة التكنولوجيا الغربية، وتغلغلها في كافة المجالات، وإزاحتها لمكونات الاجتماع التقليدي، وقيمه الموروثة، واستبدالها بالتدريج بقيم، تحكي روح الحضارة الغربية، وتجسّد مفاهيم ومقولات، تخترق بنية هذه المجتمعات، وتسود في حياتها على شكل ظواهر حضارية وثقافية واجتماعية واقتصادية. لقد شعر آل أحمد بعمق تلك التحولات، ورصد آثارها في الحاضر، وحاول أن يستشرف مآلها ونتائجها، ليدرك أن مجتمعه يجتاحه إعصار، إذا لم تسخر كل الطاقات لمقاومته، فإنه سيعصف بمرتكزات هذا المجتمع، ويطيح بمقومات وجوده، ويمسخه، فيحيله إلى كائن مشوه. وأطلق جلال على عملية الاجتياح هذه ((غرب زدگي))، وهو مصطلح مشبع بدلالات سلبية، بل دلالات هجائية لكل ما هو غربي، ويوازيه بالعربية ((وباء الغرب))، أو((الإصابة بالغرب))، أو((التسمم بالغرب))، أو((نزعة التغريب))، وغير ذلك. ويبدو أن الدكتور أحمد فرديد هو أول من نحت مصطلح ((غرب زدگي)) بالفارسية. وقد أستعار جلال آل أحمد هذا المفهوم الفلسفي من فرديد، لكنه صاغه صياغة أيديولوجية، وعبأه بأفكاره، التي استقى شيئا منها في المرحلة الماركسية من حياته، وهي أفكار تمنح آلات الإنتاج والماكنة دورا مركزيا في حركة التاريخ، وبناء المجتمعات وفقا لمعاييرها الخاصة. يعرّف آل أحمد ((وباء الغرب)) بأنه ((مجموعة الأعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون أن يكون دخولها تدريجيا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم، أو قل أنها الممهد للآلة)). ويعرف آل أحمد بتوجسه الشديد من كل شيء يرمز للغرب وثقافته، وبالأخص معطيات التكنولوجيا الغربية، فهو يرى أن كل شيء في عالمنا تدنسه الماكنة، و((يتمكنن))، وعندما يتمكنن يجري تهشيمه ونسفه. ولعل مصدر هذا الفزع هو خيبة الأمل المزدوجة، من الغرب بقناعه الأمريكي، الذي اسقط حكومة الدكتور مصدق، وأطاح بإصلاحاته، التي جسدت بعض أحلام جلال آل أحمد والنخبة الإيرانية، وخيبة الأمل من الاتحاد السوفيتي، الذي يرمز للماكنة والسلع الغربية أيضاً، وما يلاحظه آل أحمد من قيم وثقافة وافدة، يفرضها نمط الماكنة والسلعة الآتية من الغرب، وما تمثله الماكنة من مركزية محورية في خلق إشكالية التغريب الحضاري. كما أن حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء، أو قبعة الرجال، اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه، عداء كامنا للغرب، ما لبث أن انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية، تلفظ كل ما هو غربي. وعرض آل أحمد آراءه هذه في دراسة كتبها كتقرير إلى مجلس أهداف الثقافة الإيرانية في وزارة التربية والتعليم، سنة1962، تحت عنوان ((غرب زدگي)) ((وباء الغرب)) أو ((نزعة التغريب)). وكان المجلس الذي يضم في عضويته عشرة أشخاص، يضمنهم أحمد فرديد، قد تداول إمكانية نشر دراسة آل أحمد، غير انه خلص إلى تعذر النشر، بسبب نقده الصريح للنظام، وفضح دوره في تلويث الفضاء الثقافي للمجتمع بوباء الغرب. من هنا أثار كتاب ((وباء الغرب)) عند صدوره ضجة واسعة بين النخبة في إيران، وما لبث هذا الكتاب أن أضحى بعد سنوات من اخطر النصوص لتعبئة الجماهير، وتجييش المجتمع ضد سياسات الشاه المتحالفة مع الغرب. يكتب الناقد رضا براهني في بيان اثر هذا الكتاب: ((وباء الغرب)) لآل أحمد كان لـه من حيث تحديد واجبات البلدان المستعمرة حيال الاستعمار، نفس الدور والأهمية التي كانت للبيان الشيوعي لماركس وانجلز، في تحديد مهمة البرولتاريا إزاء الرأسمالية والبرجوازية، وكتاب ((معذبو الأرض)) لفرانتز فانون، في تعيين ما يجب على الشعوب الإفريقية فعله قبال الاستعمار الأجنبي، إن ((وباء الغرب)) أول رسالة شرقية ترسم موقف ووضع الشرق مقابل الغرب المستعمر، وربما كانت الرسالة الإيرانية الأولى التي اكتسبت قيمة اجتماعية على مستوى عالمي)(9). لعل هذا التقييم ينطوي على مبالغة في بيان أهمية كتاب آل أحمد، لكن وبغض النظر عن القيمة العلمية للكتاب، فانه عمل سجالي، مشبوب بالإثارة، والنقد الإيديولوجي للغرب، انه خطاب تعبوي، وهو اقرب إلى الشعر المنثور، منه إلى الدراسة الموضوعية. وفي ذلك تكمن أهميته في تحريض الجماهير، وترسيخ عدائها، لكل ما هو غربي. وهو عداء عمل على تثوير الشعب الإيراني، إلا انه بدأ يضمحل في السنوات الأخيرة عند النخبة الإيرانية، التي راحت تنشد صورة بديلة للغرب، صورة تستبعد الرؤية الخطأ التي تحسب تمام مكاسب الحضارة الغربية ومعارفها، ليست سوى ماكنة، ثم تهاجم بعنف تلك الماكنة، وتكيل لها ألوان التهم، من دون أن تميز بين الأبعاد المتنوعة للغرب الحديث، وكأن الغرب هو ماكنة وحسب، بينما تتجاهل ما أنجزه الغرب، من علوم طبيعية، وعلوم بحتة، وعلوم إنسانية، وآداب، وفنون،وغير ذلك. ولا يصح اختزال أية حضارة في بعد واحد. أما الخلط العشوائي بين العلم، والتكنولوجيا الغربية، من جهة، والوجه الاستعماري للغرب، فهو بحاجة إلى مراجعة، وتحليل نقدي، يحررنا من الرؤيا الإطلاقية الشمولية غير الموضوعية. إن خطاب آل أحمد حيال ((المكننة))، وأثرها التغريبي في الشرق، ودورها في استئصال صورة الحياة التقليدية، وتدنيسها طهرانية عالمنا، ظل هذا الخطاب محكوما بعقدة ((المكننة)) في غير واحد من كتاباته الأخرى، لاسيما كتابه الأثير، الذي نقد فيه النخبة، ووسم مواقفهم بالخيانة، حسبما يشي عنوانه ((المستنيرون: خدمات وخيانات)). بل تغلغلت هذه العقدة حتى في كتابه ((قشة في الميقات)) أيضا. ذلك أن كل شيء يشير إلى الغرب، وسلعه، وعوالمه، صار يستفزه، بحيث تبدو المصابيح، وأضواؤها الساطعة في المشاهد والمناسك المشرفة، شيئا مثيرا لمشاعره، لأن تلك المصابيح، المصنوعة والمصممة على طراز غربي، تدنس الفضاء النقي الطاهر، حسب رأيه. أما الدكتور سيد حسين نصر (1933- ) فهو احد ابرز المفكرين الإيرانيين الذين اهتموا بالكشف عن التمركز والتحيز في العلوم والمعارف الغربية الحديثة ، ودعا إلى العودة إلى الرؤية الكونية العرفانية في قراءة العالم وتفسير الطبيعة. يكتب نصر (إذا نظرنا إلى الطبيعة كما ننظر إلى نص مكتوب فسنلاحظ أنها نسيج من الرموز التي ينبغي أن تقرأ بحسب ما تشي به من معاني). وهو يصرح بأنه استطاع الخلاص من سطوة الفكر الغربي على وعيه، بعد أن تعرف على ميراث الهند والشرق الأقصى، مضافا إلى اطلاعه على نقد المفكرين الغربيين للحداثة. كل ذلك عمل على تحرير روحه وذهنه من رواسب الفكر الغربي الحديث. وتبعا لشيخ الإشراق السهروردي يذهب حسين نصر إلى أن الشرق هو رمز النور والعقل والمعنوية، أما الغرب فأنه مثال الظلام والانحطاط والمادية. وبغية أن يعود الإنسان إلى منشئه الإلهي لابد أن يتحرر من كافة علاقاته المادية ومطامحه الجسدية. وبغية الفرار من ((المنفى الغربي)) استند الدكتور نصر إلى التصوف والعرفان كمرجعية أساسية لتفكيره ورؤيته الكونية، فأنه يرى أن العرفان ومكتسباته وآثاره هو الاسمى من بين كل المكتسبات البشرية ، إذ يقول (( لم يكن أسمى أشكال المعرفة في العالم الإسلامي يتجسد في علم خاص يتوقف عند مستوى العلم البشري ، بل كان يتجسد في الحكمة التي هي العرفان في التحليل النهائي). ومن اجل ذلك تنازل عن العقلانية لصالح الإشراق، وعن الديكارتية لصالح المكاشفة ،وعن الحداثة لصالح الميتافيزيقا الكلاسيكية. وأدان بطريقة أفلاطونية محدثة التراث الفكري لعصر النهضة والتنوير. واعتبر تفشي النزعة الإنسانية منذ عصر النهضة ومزاعمها الشمولية بداية الاغتراب الفلسفي في الحضارات الغربية والشرقية. وكان هذا حصيلة فصل النهضة الفلسفية عن الأخلاق والعلوم والدين، فأولا بادر ميكافيلي (1469- 1527) على تفريغ السياسة من صماماتها الأخلاقية، ثم جاء غاليو (1564-1642) ليفصل بين العلم والدين، وبالتالي ظهر ديكارت (1596- 1650) ونيوتن (1642- 1728) ليفصلا الفلسفة عن العلم وعن الدين في وقت واحد. وينتقد نصر الحضارة الغربية الحديثة التي ترجح الذهن والجسم على الروح، وتستبعد النظرة العرفانية والرمزية للعالم، وتنبذ الجوهر الإلهي، وتنحاز للعلوم والمعارف غير الدينية باعتبارها تمثل سبيل السعادة الاجتماعية في العالم. ويرى نصر أن العصر الحديث بما يتماشى به من "تمرد الإنسان على الله" و"انفصال العقل عن نور العقل الهادي" و"تراجع الفضيلة" قاد إلى مستنقع الاضطراب والانحطاط والخطيئة(10). وكثيرًا ما يستعمل حسين نصر مصطلحات "العلم المقدس" و"الأمر القدسي"، حتى وردت مصطلحات "المعرفة والأمر القدسي، وضرورة العلم المقدس" عناوين لبعض كتاباته. وهو يقصد بالأمر القدسي واقعة إلهية تظهر تجلياتها في شؤون هذا العالم. ويؤكد بأن مدلول القدسي لديه هو معناه الميتافيزيقي، الذي يراد به تارة ذات الباري، التي لا يطرأ عليها تغير، وهي الواقعة الإلهية الصرفة، ويراد منه تارة أخرى التجليات القدسية المعبرة عن تلك الواقعة الصرفة، والمتجلية في آن واحد في بعض الأشياء الدنيوية، التي تمثل ظواهر مشهودة لتلك الحقيقة الواقعية. وطالما حذر من شيوع الطابع العرفي اللاتقديسي في دنيانا، وشدد على ضرورة المزاوجة بين المعرفة والأمر المقدسي، والاهتمام بالعلم المقدس(11). لكن الدعوة إلى ما يسمى بالعلم المقدس يكتنفها الغموض، ولا تخلو من هجاء ونفي لكل ما هو غربي. ويتمدد مفهوم المقدس لديه فيستوعب التراث، والتمثلات المتنوعة للاجتماع الإسلامي، وهو مفهوم يستقي مرجعياته من أثار المتصوفة والعرفاء، وشيء من نقد تيارات ما بعد الحداثة للعقل والعقلانية في الغرب. إن تنديد نصر بالحداثة يتبنى على مرتكزات ذهنية لا تاريخية، إذ أنه تأثر تأثرًا صارمًا بكتابات الميتافيزيقي الفرنسي رينيه غنون، فقد استعار منه أفكاره حول "أزمة الحداثة" و"عبثية التطور وسوء مغبته". وإن ما يطرحه نصر من ملاحظات نقدية حول الحداثة تماثل نقود غنون، باعتبارها لا تعير أدنى اهتمام للمكاسب المتنوعة التي تحققت من حركة التنوير والحداثة. لقد أخضع نصر المفاهيم المفتاحية للتنوير والحداثة، كالتقدم والعقل والعلم والتكنولوجيا والحرية الفردية، للنقد والإدانة من منظار ماضوي متعالي، فـ "إلهيات الإزمة" عنده تحاكي مقولات غنون، من حيث استهانتها بتعقيدات الحداثة وملابساتها وتجلياتها المختلفة(12). وما زالت أفكار الدكتور نصر تستهوي قطاع عريض من الإسلاميين التقليديين في إيران، وبعد أن غابت آثاره عن الحياة الثقافية في العقد الأول بعد قيام الجمهورية الإسلامية، عاودت الحضور بالتدريج وبكثافة في الفترة اللاحقة، وتكررت طباعتها مرات عديدة. ولو عدنا إلى الوراء فسنرى حضورًا واسعًا لأفكار جلال آل أحمد في عقد الستينات، إذ تغلب خطابه حيال داء التغريب، وتحليل أزمة المستنيرين الإيرانيين، على مشاغل الساحة الثقافية. بينما سادت في حقبة السبعينيات آراء ومقولات الدكتور علي شريعتي (1933- 1977) التي تمحورت حول "العودة إلى الذات" وإيقاظ الهوية الإسلامية الإيرانية. ويفصح شريعتي عن السياق الذي تحتله مقولاته بالنسبة إلى أفكار جلال آل أحمد، بقوله: "كان آل أحمد مستنيرًا، لكنه لم يكن قد تعرف على ذاته بعد، لم يكن يدري كيف ينبغي العمل، ولم يبدأ العودة إلى الذات إلا في السنوات الأخيرة من عمره". وبذلك غدا "التغريب" و"العودة إلى الذات" الخطابين الغالبين على المسرح الثقافي في إيران في عقدي الستينات والسبعينات(13). ويمكن القول أن علي شريعتي من أبرز خبراء ((علم اجتماع الدين)) في ايران ، في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين, ذلك أن آثاره, بما تشتمل عليه من كتابات ومحاضرات, تعالج قضايا ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر, بهذا الحقل. ولعل التكوين العلمي لشريعتي هو الذي وفر لـه عدة معرفية لخوض مغامرة البحث في هذا الحقل, الذي كان وقفا على المستشرقين, والباحثين الغربيين المهتمين بالاجتماع الإسلامي. وعندما نعود إلى تراثه نجده يستعير جملة أدوات منهاجية، وأفكارا حديثة، من مفكرين فرنسيين وألمان, فقد تأثر برؤى ريمون آرون, وجاك بيرك, وهنري كوربان, وفرانتس فانون, وروجيه غارودي, وجورج كوروتيش, ولويس ماسينيون, وجان بول سارتر, وألبير كامو.وترد في كتاباته إشارات إلى: هيغل, وماركس, وهوسرل, وياسبرس, وهايدغر, وماركوزه, تدلل على ان لمقولات ومفاهيم هؤلاء المفكرين تأثيرا بالغا في صياغة وعيه ومنظومته المعرفية. لقد استعار شريعتي بعض آراء المثالية التاريخية لهيغل, كما أخذ من ماركس ((البناء التحتي والفوقي، والصراع الطبقي, والأيديولوجيا, والاغتراب)). واقتبس فكرة ((سجن الذات)) من هايدغر, وعممها إلى ما أسماه ((السجون الأربعة)) بعد أن ضم إليها: سجون ((الطبيعة, والمجتمع, والتاريخ)).كذلك استفاد من ظاهريات هوسرل(14) واهتم بسارتر, وأفاد من وجوديته في تحليل بعض الظواهر. كما حاول أن يتوكأ على فكرة الاعتراض التي قررها ألبير كامو، بقولـه: ((أنا اعترض, إذن أنا موجود)). يكتب شريعتي ((إنني اتخذت من كلمة ألبير كامو هذه درسا لحياتي, على أساس نفس الرسالة والمسؤولية الصغيرة التي أحس بها، بالنسبة لوعيي وإحساسي وعقيدتي)).(15) لقد استقى شريعتي أدواته التحليلية من علم الاجتماع, وعلم الاقتصاد، وفلسفة التاريخ, والأنثروبولوجيا, والميثولوجيا, وهيمنت على عقله الفلسفة الاجتماعية الفرنسية والألمانية أكثر من سواها, لكنه ظل أقل تعاطيا مع مقولات الفلسفة والآراء الفلسفية, ربما بسبب تخصصه ودراساته في الاجتماع ومقارنة الأديان. وكان يدرك انه اجترح دربا لم يمهد من قبل لدى الدارسين في ديارنا, فالدراسات الإسلامية في الحواضر العلمية المعروفة, وكليات الدراسات الشرعية, تستعين بالمناهج والأدوات الموروثة، ولا تتقن ـ وربما تخشى ـ التعاطي مع مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة. ولعل روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ما حفزه للسير في ذلك الدرب, والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية, بالرغم من الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض لـه, وشتى ألوان التهم, وفتاوى تفسيقه وضلاله. انه كان مدركا بما يحف بمغامراته من مخاطر, وما يكتنفها من مزالق, باعتباره يدشن نمطا جديدا في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي, مستندا إلى مفاهيم ومناهج مختلفة. فقد تحدث عن ذلك بصراحة: ((أهم درس استطيع أن أعطيه لطلابي كمعلم, هو أن عليهم, لأجل معرفة عميقة بالدين، انتهاج سبيل العلماء غير المتدينين, بل المناهضين للدين, أو حتى من كان ينشد محاربة الدين. انا أسلك هذا السبيل, وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين, والمتنكرة لدعائمه الغيبية, تحت عناوين:علم الاجتماع, والاقتصاد, وفلسفة التاريخ, وعلم الإنسان. أني أتحدث بهذا المنهج الذي اعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية والإنسانية. انه المنهج ذاته الذي نهجته أوروبا منذ القرن الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الإنسانية بجميع أبعادها، ومناوئة الدين في المجتمع. سوف أعالج قضايا الدين حتى من منظور طبقي اقتصادي, لكن بموضوعية, ومن دون تعصب وتحيز ما استطعت))(16). لقد حسم شريعتي خياره, وقرر استخدام المناهج الغربية في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي, ولم يتوقف عند الجدل الواسع الذي لما يزل محتدما, حول مشروعية دراسة الدين والمجتمعات الإسلامية, بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات أخرى. فبدلا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع, واستنزاف تفكيره في التدليل على مشروعية أولا مشروعية ذلك, بادر لحشد مختلف المناهج في دراساته, ولم يتردد في انتقاء واستخدام أي مصطلح أو مفهوم, يحسبه مناسبا لحقل بحثه. وكأنه, بمغامرته هذه, أراد القول: إن السبيل الأمثل لاختبار المناهج وأدواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين معينة. وان اكتشاف ما تتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات, هو معيار اختبارها. كما أن نتائج التطبيق ستقودنا إلى استئناف النظر في بعض المناهج, وإمكانية تمثلها في سياقات حضارية أخرى, فنستبعد منها أو نختزل ما لا يتسق مع بيئتنا, أو لا يمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي. وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية اجتماعية من منظور إسلامي, فمثلا يلمح إلى محاولته هذه بإشارة دالة قائلا: ((باعتبار تخصصي العلمي هو في علم اجتماع الدين, وهذا التخصص منسجم مع عملي, فاني أسعى لتدوين نوعا من علم الاجتماع المرتكز على الإسلام والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث)).(16) إلا أنه في مناسبة أخرى يوضح أن دراساته لا تتناول المفاهيم المودعة في المصنفات التراثية, مثلما لاتهمه طبيعة هذه المفاهيم في وعاء الذهن, وإنما تنصب جهوده على تمثلها في التاريخ, وأنماط تجليها في الاجتماع البشري. فمثلا يتحدث عن التوحيد الذي يتناولـه في دراساته بقولـه:((اعني بالتوحيد حضوره في التاريخ والمجتمع, لا مفهوم التوحيد في عالم الكتب, أو عالم الحقيقة. فليس حديثي بشأن التوحيد الذي تحدث عنه القرآن, ومحمد(ص), وعلي(ع). ما يهمني الآن هو التوحيد في المجتمع والتاريخ, والأمر هكذا لدي دائما)).(17) ويحاول استخدام مختلف المنهجيات, ويستعين بما يطلع عليه من أفكار في العلوم الإنسانية الجديدة, ليوظفها في حقل دراساته, فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أو غيرها. يكتب في سياق استعارته لتلك المعطيات:((إنني شخصيا أهتم بدراسة الأساطير ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الأسطورية)).(18) ويضيف ((منذ فترة وأنا اعمل في حقل الأساطير, لشغفي بالأسطورة أشد من التاريخ. وأحسب أن ما تشي به الأسطورة من حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر الإنسان، أما التاريخ فهو حقائق أوجدها الإنسان. الأسطورة تحكي التاريخ كما ينبغي أن يكون)).(19) ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة في البحث الميثولوجي في مواضع عديدة من آثار شريعتي. وتظل محاولة شريعتي, مع جرأتها وريادتها, عرضة لعدد من الملاحظات النقدية والاستفهامات. باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة في دراسة الظواهر الدينية, من دون أن تتنبه إلى أن الأبعاد الميتافيزيقية, التي تنفرد بها تلك الظواهر, ليس بوسعنا إدراكها, واستكناه مضمونها, بوسائل العلوم الاجتماعية الوضعية. مضافا إلى أن شيئا من العناصر المنهاجية والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور الاجتماع الإسلامي قد يتمكن الباحث من استخدامها, مباشرة, أو بعد تهذيبها، أو تفكيكها, وإعادة بنائها وصياغتها في اطار المعطيات الراهنة للعلوم الانسانية. عاش شريعتي في عصر طغى فيه صوت النضال, وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية, وفي بداية حياته أغواه بريق الشعارات, وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض, فتضامن مع استغاثات الكادحين, ولوعة المحرومين, وأنين المعذبين. وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل, وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين, بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية, وتحولت في وعيه الثقافة إلى إيديولوجيا, وتمحورت جهوده في ((أدلجة الدين والمجتمع)). يقول شريعتي: ((سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة, وهو تحويل الإسلام من ثقافة إلى إيديولوجيا)).(20) ما الذي يقصده بالأيديولوجيا ؟ وهل يستطيع أن يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث يتسلح بالموضوعية ويبتعد عن التحيز ويقترب من الحياد، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الأيديولوجيا, لتستوعب الدين والثقافة والمجتمع؟! قبل الإشارة إلى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره, يضئ هذا المفهوم, ويحدد ملامحه في منظوره. يكتب شريعتي: (الأيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاص يتوفر عليه الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم لـه مسؤولياته وحلوله وتوجهاته ومواقفه ومبادئه وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناءً على نمط ((علم الاجتماع)) و((علم الإنسان)) و((فلسفة التاريخ)) الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالآخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالإيديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: ((كيف تكون؟)) و((ماذا تفعل؟)) و((ماذا ينبغي فعله)) و((كيف يجب ان نكون؟))).(21) لكن ما هي حدود الأيديولوجيا؟ وماهي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: ((الأيديولوجيا تهدي للإنسان ما تمنحه لـه الإمكانات التقنية تماما. ما التقنية إلا مجموعة الجهود الإنسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها, وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء)).(22) ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحو تصبح ((التقنية عبارة عن فرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة, أوهي استخدام العلم من قبل الإرادة الإنسانية الواعية, للوصول إلى مبتغاة. العلم هو مسعى إنساني لفهم الطبيعة واكتشاف ما فيها, والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها, واصطناع ما ليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة, تقنية بالمعنى الأعم للكلمة)).(23) ويبدو أن الهموم النضالية لشريعتي, ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين, والتشديد على المضامين الاجتماعية للاسلام, هي الباعث لمسعاه في تحويل الاسلام ((من ثقافة إلى أيديولوجيا)). وربما تأثر شريعتي بأطروحات جماعة لاهوت التحرير, ودعواتهم لتحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار, وتحرير الأرض, وتنمية المجتمع, بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي. ومما لا ريب فيه أن هيمنة الأيديولوجيا على وعي الباحث ولاوعيه, تحول بينه وبين الوصول إلى نتائج علمية، أكثر موضوعية وحيادا في تفكيره وبحثه. ذلك أن الأيديولوجيا تقود أية عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها, وتضاعف التحيزات والمفروضات القبلية في ذهن الباحث, وتسوقه دائما إلى مواقف ونتائج محددة سلفا, باعتبار التفكير الأيديولوجي يسعى إلى تغيير العالم لا تفسيره. وينشغل أنصار الأيديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة, ولذلك ينددون بالتعددية, ويكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية والاجتماعية والسياسية, ويخنقون الأسئلة الكبرى, ويعملون على ترسيخ الجزمية واليقين, وبالتالي بناء مجتمع مقلد مغلق. وتكمن المفارقة في أن شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام ((من ثقافة إلى أيديولوجيا)) تسود كتاباته نزعة تفكير حرة, ترفض المجتمع المغلق, وتدعو إلى إصلاح الفكر الإسلامي, والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان, وروح شاعر, وعقلية ناقد, ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الأيديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض أن مثقفا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت, ويعي الالتباس بين الشخصية الأيديولوجية, وشخصية المثقف, والشاعر, والفنان, والناقد، لكن موقفه ظل ملتبسا بين شفافية الفنان الرومانسي, وبين أحلام وتطلعات المناضل. (24) الهوامش: (1) عبد الكريم سروش، العلوم الحديثة في العالم الإسلامى وإشكاليات التنمية العلمية. مجلة قضايا إسلامية معاصرة ع 23 (ربيع 2003) ص61. (2) د. مهرزاد بروجردى، روشنفكران إيرانى وغرب ، ترجمة :جمشيد شيرازى، طهران: فرزان، 1998، ص104. (3) المصدر السابق، ص 105. (4) المصدر السابق، ص 108. (5) د.محمد رجب ؛ سخنرانى دكتر داورى درباره دكتر فرديد. مجلة سوره (بهار 1377) ص 54-51. (6) مهدى صادق . تفكير مارتين هايدغر وأستاذ أحمد فرديد . نشريه نامه فلسفه ع11. (7) معصومة على اكبرى. فرديد، فلسفة آغوشت به سياست. نشرية آفتاب ع28. (8) د. مهرزاد بروجردى. مصدر سابق . ص107. (9) داريوش آشوري. أسطورة ي فلسفة درميان ما: بازديدي ازاحمد فرديد ونظرية غرب زدكي. طهران: 1383، ص 8- 21. (10) د. سيد حسين نصر. علم وتمدن در إسلام. ص 22. (11) د. مهرزاد بروجردى. مصدر سابق . ص 122. (12) د. سيد حسين نصر. مصدر سابق . ص 324. (13) د. مهرزاد بروجردى. مصدر سابق . ص 125. (14) د. سيد حسين نصر. المعرفة والأمر القدسي وضرورة العلم المقدس. مجلة قضايا إسلامية معاصرة ع 23 (ربيع 2003) ص 115- 121. (15) د. مهرزاد بروجردى. مصدر سابق . ص 127- 129. (16) د. مهرزاد بروجردى. مصدر سابق . ص 115. (17) د. علي شريعتي. اسلام شناسي. ص269. (18) المصدر السابق. ص222. (19) المصدر السابق. ص209. (20) د. علي شريعتي. الآثار الكاملة. ج1: ص209. (21) المصدر السابق, ج16: ص28ـ 29. (22) المصدر السابق. ج11: ص242ـ 243. (23) المصدر السابق. ج4: ص232ـ 234. (24) د. عبد الجبار الرفاعي. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد. ص298. ورقة مقدمة في : مؤتمر "إشكالية التحيز" فى الفترة من 10 فبراير حتى 13 فبراير 2007 تحت رعاية برنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة والمعهد العالمى للفكر الإسلامى.


مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد ، ورئيس تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة ( بيروت بغداد)