ازمة الأنتلجنسيا العربية |
. المقاله تحت باب مقالات و حوارات ربما كان المشهد العربي الراهن اشد تعبيرا عن ازمة الأنتلجنسيا العربية وشقائها مما حولها .. فالتحولات الدراماتيكية التي عصفت وتعصف بالواقع العربي اليوم ابقت فاصلة شاسعة مابين هموم وتطلعات النخب الثقافية ومابين ماهو قائم وفاعل ويشكل وجه الثقافة العربية اليوم . لقد ورثت هذه الثقافة جملة معطيات وجدت نفسها محكومة بها ولاسبيل امامها الا التسليم بها وقبولها كما هي ، فقد وجدت النخب الثقافية نفسها امام موروث ثقافي متداخل متنوع غزير لكن فيه كثير من التشويش والأضطراب بسبب عدم انتظامه في انساق محدده وعدم وجود المؤسسات التي تسهر على تأويله واعادة اكتشافه ورسمه للجيل .. كما ورثت هذه النخب اوضاعا سياسية واجتماعية هي من مخلفات قرون من الصراعات على مراكز النفوذ في المنطقة العربية اذ كانت اتفاقية سايكس بيكو احد ملامح ذلك الواقع المستلم بجاهزيته وعلى علاته . ولعل البعد الموضوعي الممثل في هوية الأمة في بعدها الثقافي وما ترزح تحته من واقع لاقبل لها في مجابهته وتشكيله ، كل هذا كان سببا كافيا لتأطير الأزمة ورسم ابعادها القريبة والبعيدة . ولعله من المهم هنا القول ان اشكالية الأنتلجنسيا العربية تتمثل في تحديد ماصنعته هي لنفسها وماصنعه الآخر ومافرضه عنوة عليها . ولكن في المقابل يمكن القول ان اية نظرة فاحصة ستؤكد لنا ان مافرض على النخب الثقافية هو الأوسع والأكثر تأثيرا...وذلك من منطلق السؤال عمن هو اللاعب الرئيس ومن الذي يحدد الأدوار التي تضطلع بها الشرائح الأجتماعية المختلفة ومنها النخب الثقافية التي وجدت نفسها غالبا انها امام مأزق الأشكاليات المتعددة والمركبة التي تفاقمت دون حل . ومما لاشك فيه ان الأنتلجنسيا العربية كانت دوما هي الأقرب الى الأشكاليات التي تعصف بالواقع وكانت هي المجس الذي من خلاله يمكن تلمس مؤشرات ذلك الواقع ولهذا كانت لها رؤاها المسبقة في كل ماجرى ويجري ولكن الى اي حد ؟ لعل هذا السؤال يقودنا الى امكانية قياس دور الأنتلجنسيا العربية ، ما مداه وما حدوده ، وما مدى آثاره الراهنة والمستقبلية ؟ سؤا ل مركب كهذا كان ومازال من الصعب الأجابة عليه لسبب اساس يتمثل في عدم بلورة ادوار ووظائف الأنتلجنسيا العربية ، فهي جزء من منظومة متكاملة اجتماعية تغلب فيها مراكز القوى والتأثير على كل ماعداها ، هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى وجدت الأنتلجنسيا العربية نفسها في وسط اشكالية مركبة تتعلق بكون الواقع الأجتماعي ذاته ورث تعقيدات وتداعيات شتى اولها عدم انتظام فاعلية الأرتقاء الأجتماعي بمعنى عدم نضج الوسائل والأدوات التي تنتج طبقة النخبة ، ومعنى ذلك عدم توفر المناخات التي تنتج النخب من جهة وتعطيها ادوارها في المساهمة في توجيه الرأي العام وتكون فاعلة ومنتجة من جهة اخرى . هذا السجال قاد بالنتيجة الى تساؤلات جدية افرزتها طبقة الأنتلجنسيا العربية تتعلق بالذات والهوية واطوار الحداثة ومابعد الحداثة التي انتجها العالم المعاصر . فهي اذ تتمثل تلك النتائج التي تتخلق كل يوم على صعيد تحولات الفكر والوعي والفلسفة والقيم ، فأنها تحاول (توطين ) تلك القيم او شيء منها او في الحد الأدنى محاولة اعادة قراءتها عربيا . هذه المهمة الجسيمة للأنتلجنسيا العربية واجهت في ما واجهته زخما واقعيا من المؤثرات المرتبطة بتركيبة المجتمعات العربية والأعراف والثوابت الراسخة فيها كما واجهت مؤسسات غير قابلة في سوادها الأعظم على تبني اطروحات الأنتلجنسيا العربية ...فماذا كانت المحصلة ؟ ان اول عارض يجابه اية انتلجنسيا هو عارض الأغتراب ..وهو احساس بالفجوة القائمة بين عالمين تتحاور معهما الأنتلجنسيا العربية دون انقطاع ..العالم الأول : هو العالم المعاش والذي يحيط بالأنتلجنسيا ، في مجتمعات تعاني من مشكلات اساسية وبنيوية في اسس التنمية المستدامة وفي تهميش النخب الفاعلة ، وقد خلف هذا انزواءا وانكفاءا للنخب الفاعلة وجعلها متهمة دوما بأنها تعيش في ابراج عاجية بعيدا عن الواقع فيما هي مجبرة على ذلك التقوقع ، فهي لاتجد بديلا عن الأنكفاء والتفرغ للذات ومشاريعها لأن اطروحاتها تتحدث بلغة غير اللغة التي يطرب لها الكثيرون من عامة الناس وكان ان ترتب على ذلك نظرة سلبية متفاقمة للنخب في بعض الأحيان والحالات تتمثل في اتهامها بالغرور وعدم الفاعلية وعدم المساهمة في ايجاد الحلول والأكتفاء بالمطالب الكبيرة والأحلام الضخمة ... اما العالم الآخر الذي يشكل تحديا ثانيا فهو الخارج ..بكل مافيه من تاريخ انساني وعلمي وتكنولوجي وانظمة حكم وانجاز معرفي ..هذا العالم هو عالم مابعد الحداثة الذي يشكل اليوم اكبر معبر عن ازمات الأنسانية في مقابل نجاحاتها ..فالأزمات التي خلفتها انساق مابعد الحداثة على صعيد الفرد الذي تخلص من ثقل العديد من المؤثرات والقوى الفاعلة في وعيه وفي فكره وفي حياته اليومية ، الفرد الذي يعيش ازمة تأكيد الذات في صراعها مع الزمن ومع انساق مابعد الحداثة ذاتها ..انسان تحول عالمه الى تتابع للأصفار والآحاد وتهشمت بين يديه هيبة السلطات والأيديولوجيا ، وافرغت الحياة الأجتماعية من هالتها المقدسة وتحولت الى مجال للمشاركة والمنفعة اكثر من اي شيء آخر وتفاعلت على اكثر من صعيد عقلنة حداثية لكثير من القيم والمفاهيم وتم ابتسار العاطفة الفردية الى ادنى مستوياتها في مقابل المصلحة والمنفعة والبراجماتية بكل تشكلاتها والوانها والتفاعل من الواقع بمايقدمه من متعة الأستهلاك والرفاهية . هذا الواقع الفصامي هو الذي اطر ومازال يؤطر فكر ووعي الأنتلجنسيا العربية وهي تحاول ان توجد الموازنة مابين هذين العالمين او في الأقل ان تجد لنفسها موقعا في وسط هذه الدوامة المضطربة المتضاربة التي لاقبل للأنتلجنسيا العربية في السيطرة عليها او التأثير فيها . لقد شهدنا على مر الحقب احساسا متفاقما بالأغتراب على كل صعيد يفتك بالوعي الذاتي ،لكن بالمقابل كان الموروث الأنساني العميق الذي اكتنز عليه الوعي العربي كان له ابلغ الأثر في تأكيد الذات وتثبيت دعائم وعيها وادراكها انها لاتعوم في فراغ ، وانها منتمية الى عالم عميق الجذور في ملامحه ومنجزه الحضاري على كل صعيد فالعبقرية التي انتجت الخطاب الثقافي العربي بكل الوانه وتحولاته هي عبقرية جديرة ان تتعامل معها الأنتلجنسيا العربية بكثير من التركيز والأهتمام وكان من اهم ماأكد هذا الوصف هو ان الأبداع المعاصر لمابعد الحداثة لم يكن مقطوع الجذور عن بيئته ومجتمعه فحتى المدارس المغرقة في الذاتية والتهويم كانت وليدة تحولات مضطردة في الوعي شهدتها اوربا منذ عصر الأنوار وصولا الى المدارس الفكرية والفلسلفية الكبرى التي ظهرت في اعقاب الحرب العالمية الثانية . من هنا وجدت الأنتلجنسيا العربية نفسها امام مسؤولية اعادة قراءة هذا التراكم الفكري والمعرفي العميق ، اعادة قراءة الوعي والفكر والفلسفة والرؤية ، والأنطلاق منها بوعي تجديدي ليس مغتربا ولا متعاليا عن واقعه ولكنه يرسم للمستقبل آفاقا اخرى. |